Al Araby Al Jadeed

نظرية البليال والوطن

- باسل طلوزي

كان حريًا بصاحب نظرية «األمن الناعم» أن يكون ناعمًا، وهو يتحدث بسخرية عن «معارضة الخارج»، غير أنه آثر أن يسخفها، ظنًا منه أنه بمثل هذه السخرية يسجل هدفًا في شباكها، مستخدمًا نظرية جديدة عن عربة «بليال»، يمكنها أن تصبح وطنًا إذا عاثت فيها معارضة الخارج فسادًا. أتحدث هنا عن مسؤول أردنــي سابق أجــرت معه قناة فضائية محلية حــوارًا عن هموم وطنية عديدة، ووردت سخريته عندما سأله املحاور عن مدى خشية الحكومة من «معارضة الخارج»، التي اعتادت الطرح الجريء. وكانت نظرية «األمن الناعم» من بنات أفكار صاحبنا، عندما شغل منصبه السابق، ويقصد بها طريقة تعامله مع تظاهرات املعارضة التي كانت تندلع بني حني وآخر، احتجاجًا على قرارات حكومية عديدة، أبرزها الغالء. وتمثلت «النعومة» بتجنب فض التظاهرات بالقوة، وحراستها أحيانًا، وتقديم املاء والعصائر للمتظاهرين، في رسالة مبطنة قوامها أن الدولة تحمي املعارضة، وتسمح لها بالتعبير عن آرائها بال مضايقات. لإلنصاف، استهوت هذه النظرية أوساط املعارضة، وقوبلت بامتنان كبير، خصوصًا أنها املرة األولى التي يشعر فيها املتظاهرون باألمن وحرية التعبير، غير أن «الجمعة املشمشية» لم تدم طويال، إذ عاد األمن إلى خشونته األولى، الحقًا. وكنا نأمل، بعد تقاعد صاحبنا، أن يظل محافظًا على مرحلته الوردية التي تركها في الذهن الشعبي، فال يقحم نفسه في نظريات مضادة، على غرار تسخيفه معارضات الخارج، عندما قلل من أثرها على الداخل، واستخدم في ذلك وصفًا يجعل من الوطن «دكانًا» و«عربة بليال» لو كان لتلك املعارضة تأثير بالداخل. والحال أن تسخيف املعارضة نهج حكومي أردني غير معلن، منذ مرحلة االنفراج الديمقراطي نهاية الثمانينيا­ت، عبر تهميشها، وتقليم أظفارها، وجعلها ديكورًا ملخاطبة الـخـارج ليس إال. وربما لهذا السبب، ازدادت أعــداد معارضي الـخـارج من الذين استهوتهم فكرة «الرد باملثل»، ما داموا محسوبني على «الديكور». وبالنسبة إلى صاحبنا، لم يكن يـدرك أن سخريته املوجهة إلى املعارضة، سترتد بمثلها وأزيـد سخرية من الحكومة ذاتها، ألن املنطق يقول إن ضعف املعارضة أو عدم وجودها أصال، هو فضيحة األنظمة ذاتها، وليس فضيحة املعارضة، فالدولة ال يكتمل نموها بغير املعارضة الحقيقية القوية، القادرة على التأثير العميق، وإال فسيكون نظامها السياسي أشبه بالطفل الخداج، الذي ينقصه كثير من األكسجني والعناية املركزة، وإن قيض له النجاة، فسيغدو طفال مشوهًا، مصابًا بقصور عقلي على األرجــح. كما فات صاحبنا أن املعارضة ال تقتصر على من يجهر برأيه، بل تشمل األغلبية الصامتة، التي تعبر عن نفسها أحيانًا بإحصاءات وأرقام، على غرار استطالع نشر أخيرًا، وأظهر أن األردن يأتي أوال بني الدول العربية، بنسبة الراغبني فـي الـهـجـرة. فاملهاجر مــعــارض، والفقير مــعــارض، والـعـاطـل مـن العمل مـعـارض، والجائع مـعـارض. وكــان على صاحبنا أن يسأل نفسه قبل السخرية: ملــاذا لجأت املعارضة الخارجية إلى املنفى، أصال؟ بمعنى، هل كانت ستفعل ذلك لو وجدت في بلدها فضاًء رحبًا لتوجيه النقد، وال سيما في ظل ما يحدث ملعارضني آخرين، يعتقلون ويمنعون من السفر. عمومًا، لست في معرض الجدال حول املحتوى الذي يقدمهّ معارضو الخارج، فذلك يحتمل األخذ والرد، غير أن الجدل ال ينتقص من حقهم وحق غيرهم بطرح أفكارهم، وال تجوز السخرية منهم، بل كان حريًا دعوتهم للعودة إلى أوطانهم والجهر بآرائهم في ميادينها وشوارعها ووسائل إعالمها الرسمية، ليكتمل الجنني السياسي في رحم الوطن. وبغير ذلك، سيكون الوطن عربة بليال، فعال، ولكن بال زبائن.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar