الجزائر وفرنسا... عقدة االعتذار
يـسـتـمـر رفـــض الـنـخـب الـسـيـاسـيـة الفرنسية من مختلف االتجاهات االعتراف بمسؤولية واضـــحـــة لـــلـــدولـــة الــفــرنــســيــة عـــمـــا وقــــع إبــــان االســـتـــعـــمـــار الـــفـــرنـــســـي لـــلـــجـــزائـــر بــــن عــامــي 1830 .1962و وقد حفلت تصريحات الرؤساء الذين تعاقبوا على قصر اإلليزيه منذ 1962 بتفاصيل كثيرة يمكن أن يستشف من خاللها اعتراف جزئي بهذه املسؤولية من دون إعالن صـريـح ومـوقـف واضـــح يضع نـقـاط التاريخ فوق حروف املستقبل. وترتبط بهذا االعتراف املـنـشـود وغـيـر الـحـاصـل املطالبة الجزائرية بــاعــتــذار واضــــح مـــن الـــدولـــة الـفـرنـسـيـة على مــا نـجـم عــن فـتـرة االسـتـعـمـار مــن مـمـارسـات وقتل وتعذيب، إضافة إلـى تلويث الصحراء الــجــزائــريــة بـنـتـائـج الــتــجــارب الــنــوويــة التي أجرتها فرنسا على مــدى سـنـوات، ومــا نجم عن ذلك من أضرار بالحجر وبالبشر ما زالت تأثيراتها ممتدة. ولـقـد تــجــدد هــذا الــرفــض الـقـاطـع، أخــيــرًا، من خالل تصريحات للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي بدا لبعض املراقبن أنه قادر على اتخاذ مثل هذه املبادرة، خصوصًا أنه يسعى، منذ وصوله الى قصر اإلليزيه سنة ،2017 بعد أن اعتبر في أثناء حملته االنتخابية أن االستعمار جريمة ضد اإلنسانية، لتحسن العالقات مع الــدولــة الـجـزائـريـة، وحــل املـشـكـالت الهيكلية العالقة في البنى التبادلية بن البلدين على مستوى إنساني واقتصادي وثقافي. وبتجديد رفضه االعتراف بمسؤولية الدولة الفرنسية، الذي يترتب عليه اتخاذ إجـراءات تعويضية مكلفة، إضافة إلى ورشة عمل ضخمة لتغيير الـسـرديـة التاريخية أو تعديل مقاطع مهمة منها. فقد خـيـب مــاكــرون انـتـظـارات متفائلة لفرنسين وجزائرين، كانت قد ساعدت في إيـجـادهـا وتـطـويـر خطابها خــطــوات سابقة للرئيس، تمثلت بتكليفه مؤرخًا فرنسيًا من أصـل جـزائـري، بنيامن ستورا، وضـع تقرير مفصل عن احتياجات مآالت املسار التصالحي التاريخي بن البلدين وبن الشعبن. كذلك، كان تخليده ذكرى الطلبة والعمال الجزائرين الذين أغرقوا في نهر السن في باريس بعد قمع قـوات مكافحة الشغب الفرنسية مظاهراتهم االحتجاجية، في 17 أكتوبر/ تشرين األول سنة ،1961 دليال إضافيًا على انفتاحه النسبي إزاء ثقافة االعتذار. إنه موقف متعنت قد يدفع بمالحظه املتسرع أن يـسـتـغـربـه وأن يـسـتـهـجـنـه. وتـــضـــاف إلـى هــــــذا االســـــتـــــغـــــراب املــــــشــــــروع واالســـتـــهـــجـــان املستحق عــالمــات مفصلية سـابـقـة عرفتها ثـقـافـة االعـــتـــذار الـفـرنـسـيـة، خـصـوصـًا فــي ما يتعلق بترحيل الــدولــة الفرنسية املتعاونة مع االحتالل النازي في بدايات األربعينيات
من القرن املاضي مئات من اليهود الفرنسين إلـــى مـعـسـكـرات االعــتــقــال والـقـتـل الــنــازيــة في أملانيا وفي بولندا. فقد أشار الرئيس الراحل، جــــاك شــــيــــراك، فـــي 16 يـــولـــيـــو/ تـــمـــوز ،1995 بوضوح، إلى مسؤولية الدولة الفرنسية عن ذلـــك، وطـلـب الصفح بـاسـم الشعب الفرنسي مــــن أهـــــل الـــضـــحـــايـــا. كـــذلـــك عــــوضــــت الـــدولـــة الفرنسية الـورثـة عن أمالكهم التي صـودرت على هامش هـذا الترحيل القسري. وقـد كرر الــرئــيــس مـــاكـــرون طـلـب الـصـفـح مــن الـيـهـود، وصــوال إلـى الـوقـوع في الخلط املقصود بن ضحايا أفراد (أو جماعات) و«دولة» إسرائيل الــتــي قــامــت عـلـى دمــــار واحـــتـــالل واسـتـيـطـان وتـــهـــجـــيـــر شـــعـــب فـــلـــســـطـــن، فـــقـــد دعــــــي أبــــرز رمـــوزهـــا املــتــطــرفــن، بـنـيـامـن نـتـنـيـاهـو، إلـى املشاركة في إحياء ذكــرى الترحيل، حضورًا إلى جانب الرئيس الفرنسي، تأكيدًا ألكذوبة تــاريــخــيــة تـــربـــط مــصــيــر الـــيـــهـــود فـــي الــعــالــم بقيام دولــة احـتـالل واستيطان. وهـو الشيء املـرفـوض، والــذي يسهم، من حيث يــدرون أو ال يـــدرون، فـي ارتـفـاع نسبة الـعـداء للسامية، بــمــفــهــومــهــا املـــــتـــــداول أوروبـــــيـــــًا، إن اســـتـــمـــر بالربط امليكانيكي بن مصير اتباع أوروبين لديانة القت من االضطهاد والتمييز ما يندى له الجبن، ومسار دولة احتالل وقهر وترحيل مـارسـت وتــمــارس االضـطـهـاد والتمييز ضد الشعب الفلسطيني. سيترك مــاكــرون سدة الـــرئـــاســـة بــعــد انـــتـــهـــاء واليـــتـــه الــثــانــيــة سنة ،2027 ولــن يـكـون لــه أن يــرشــح نفسه لوالية ثـالـثـة حـسـب الـدسـتـور الـفـرنـسـي. وبـالـتـالـي، الـتـبـريـرات السهلة ملثل هــذا الـرفـض املبدئي املــتــعــلــق بــــاالعــــتــــذار عــــن تــــاريــــخ غـــيـــر نــاصــع البياض، والتي لطاملا ما تربطه باحتياجات انتخابية، مـحـل نفي واسـتـبـعـاد مــن تحليل املـــوقـــف الــفــرنــســي. وعــلــى الـــرغـــم مـــن صـعـود الـــيـــمـــن الـــتـــقـــلـــيـــدي، مـــضـــافـــًا إلــــيــــه دمـــقـــرطـــة التطرف اليميني وارتـفـاع تأثيره السياسي واملجتمعي واملـــــزاودة عليه، فــإن املــوقــف من املـــلـــف الــــجــــزائــــري ال عـــالقـــة لــــه بــاملــنــافــســات السياسية واملزاودات القومية املتصاعدة في إطـار استمراء املمارسات الشعبوية لـدى كل األطراف السياسية الفرنسية. الحقبة االستعمارية الفرنسية التي امتدت جـــنـــوبـــًا إلــــــى إفـــريـــقـــيـــا وشـــــرقـــــًا إلــــــى الــهــنــد الــصــيــنــيــة، وغـــربـــًا إلــــى جــــزر تــــجــــاور الـــقـــارة األميركية الجنوبية، ما زالت تعامل بكثير من العاطفية النسبية، والتي تجد لها منظريها ممن يرفعون مـن شــأن االستعمار الفرنسي الـــــذي أســـهـــم فـــي تــطــويــر الــــــدول املـسـتـعـمـرة وتحديثها، حسب استنتاجاتهم. كذلك هناك أدبــــيــــات هــائــلــة الــحــجــم ومـــتـــفـــاوتـــة الــســويــة العلمية والتأريخية أسهمت فـي بـنـاء وعـي عام يقبل بسهولة نسبية رفض االعتذار. فــي املـقـابـل، مــن املفيد االنـتـبـاه الــى أن رفض االعــــــتــــــذار هــــــذا يـــمـــكـــن أن يـــــريـــــح الـــســـلـــطـــات الجزائرية التي ما فتئت، منذ حرب التحرير، على استخدام قميص عثمان املتسخ بامليراث الدموي لالستعمار الفرنسي، لكي تعلق عليه كــل أســبــاب الـفـشـل فــي بــنــاء الـــدولـــة الحديثة التي تستفيد من ثرواتها الطبيعية الهائلة فــــي تـــطـــويـــر حــــيــــوات مـــواطـــنـــيـــهـــا ومــنــحــهــم الــحــريــة الــتــي سـلـبـهـا مـنـهـم املــســتــعــمــر، كما الــحــزب الــحــاكــم (املــحــلــي) الــــذي تـــوالهـــم بعد تخلصهم من االحتالل الفرنسي.
ال عالقة للموقف في فرنسا من الملف الجزائري بالمنافسات السياسية والمزايدات القومية المتصاعدة