Al Araby Al Jadeed

عنف جنسي في بالد الحرية

- مدى الفاتح

يبدو األمر ألول وهلة متناقضًا، فهل يمكن أن تشهد البالد األكثر تقدمًا في الحريات، وفي مقدمتها الـحـريـات الجنسية، مـوجـة عنيفة من فضائح التحرش واالغتصاب؟ هل يمكن أن تــكــون الـــــدول، الــتــي يـنـظـر إلــيــهــ­ا كـثـيـرون على أنها الـنـمـوذج الــذي يجب السير نحوه والتشبه بـه، واقعة تحت تأثير النظرة التي تختزل النساء في بعدهن الجنسي؟ اإلجــابــ­ة عــن هــذه األسـئـلـة: نـعـم. أمــا الـحـاالت الــــتـــ­ـي تـــكـــثـ­ــر وتــــتـــ­ـزايــــد فـــيـــهـ­ــا الـــقـــص­ـــص عــن الــجــرائ­ــم الجنسية فليست، لــأســف، حــاالت معزولة. هناك مفتونون بالحضارة الغربية، يــحــاولـ­ـون حــجــب الـحـقـيـق­ـة الـــواضــ­ـحـــة، الـتـي يتزايد عدد املؤمنن بها حتى من الغربين، وهي أن تلك األنظمة، املتقدمة ظاهريًا، وتبدو مـتـحـكـمـ­ة بــحــركــ­ة املــــال والــســيـ­ـاســة واألفـــكـ­ــار الــعــامل­ــيــة، مـعـطـوبـة بـشـكـل واضــــح ومـثـقـوبـ­ة بشكل بات يهدد ثبات تلك السفينة العظيمة الــتــي نـنـظـر إلــيــهــ­ا بــافــتــ­تــان. يـمـكـن أن نــذكــر بـحـالـتـن شغلتا الــوســائ­ــط اإلعــالمـ­ـيــة خـالل الـــعـــا­م املـــاضــ­ـي. األولـــــ­ى مـــا تـــعـــرف بفضيحة ويستمنستر، وما نجم عنها من نقاش واسع تـــنـــاو­ل جـــرائـــ­م الـــتـــح­ـــرش تــحــت قــبــة الــبــرمل­ــان الــبــريـ­ـطــانــي. خـلـصـت الـتـحـلـي­ـالت والــوثــا­ئــق إلــــى أن األمـــــر ال يـنـحـصـر فـــي بــضــع حــــاالت، بــل يـتـمـدد، مـشـكـال مــا بـاتـت تـعـرف بـ«ثقافة ويـسـتـمـن­ـسـتـر»، الــتــي تـشـيـر إلـــى مــيــل رجـــال كثيرين مرتبطن بالحقل البرملاني للتخفف مـــن الــقــيــ­ود األخـــالق­ـــيـــة. أسـهـمـت التحقيقات في هـذه الـحـوادث في إعــادة االعتبار لبعض الضحايا، وفي تسليط الضوء على مشكلة لم تكن مطروقة كثيرًا، لكنها خلصت إلى حقيقة مؤسفة، أن البيئة البرملانية والسياسية في بــلــد ديــمــقــ­راطــي عـــريـــق كـبـريـطـا­نـيـا مــعــاديـ­ـة بــشــكــل كــبــيــر لـــلـــنـ­ــســـاء. والــــســ­ــؤال الـــــذي كــان يفرض نفسه، وشغل، وما زال، املهتمن، كان عما إذا كان هذا األمـر متعلقًا فقط بالبرملان وسلك السياسين البريطانين، أو أنه يمتد ليشمل قطاعات مختلفة ودوال غربية أخرى. بالنسبة إلـى باحثن أكاديمين، مثل ميري بيرد، التي قدمت محاضرات، ونشرت كتابًا مهمًا في موضوع «املرأة والسلطة»، ما زالت أوروبــــا، على الـرغـم مما يكسوها مـن بريق، رهينة أصولها اليونانية والرومانية، التي كانت موسومة باحتقار املـــرأة. بسبب عقدة الــذنــب، تـوجـد الــيــوم تـشـريـعـا­ت كـثـيـرة يبدو بعضها مبالغًا في تقديره للمرأة إلى درجة تـتـجـاوز املـــســـ­اواة بـالـرجـل بـــأن تجعلها هي األصل على املستوين، األسري واالجتماعي. على الرغم من التقدم الــذي حققته الحركات الـحـقـوقـ­يـة فـــي هـــذا املـــجـــ­ال، إال أن مـسـاحـات مظلمة ظلت هناك، كـان الـرجـال يفلحون في استغاللها، وهـو مـا ظهر بجالء فـي حــوادث مــثــل قـضـيـة «ويـسـتـمـن­ـسـتـر» أو غــيــرهــ­ا مما كشفته سلسلة فضائح «مي تو» (أنـا أيضًا) التي سببت استقاالت وزارية، قبل أن تشجع اآلالف مـــن الــنــســ­اء عـلـى اإلدالء بـشـهـادات­ـهـن وفضح املتحرشن. الــحــادث­ــة الـثـانـيـ­ة، وشـكـلـت صـدمـة لكثيرين، كشف عنها أواخـــر الـعـام، حـن نقلت وسائل اإلعالم الفرنسية اتهام نجم اليوتيوب الشاب، الذي يحظى بمتابعة املالين، نورمان تافو، باغتصاب ست نساء واستغالل مراهقن. كان لهذه القضية أهمية كبيرة ألنها نبهت، مرة أخرى، إلى خطورة املواقع االجتماعية، وأيضًا إلى مخاطر تأثر املراهقن بالشخصيات التي يـرونـهـا المـعـة إعـالمـيـًا، كـذلـك نبهت إلــى أنه ينبغي الحذر من هذه الشخصيات املشهورة، التي يسهل عليها استغالل شهرتها لإليقاع بالضحايا. قـد يشعر املتابع لـهـذه القضايا ببعض الــدهــشـ­ـة، فكيف يمكن أن تـكـون تلك املجتمعات اللطيفة، التي يظهر فيها الشارع كبيئة أكثر أمنًا للنساء من نظيراتها في دول الـعـالـم الـثـالـث، كيف يمكن أن تـكـون مشبعة بالتحرش، وبمفاهيم احتقار املرأة والتعامل معها كمجرد موضوع جنسي؟ لـإلجـابـة عــن هــذا الــســؤال، يمكن أن ننتقل إلــى مشهد آخــر كــان مــتــداوا­ل ملجموعة من الشباب، وهم يهجمون بأعداد كبيرة على مطعم لبيع الوجبات السريعة في بريطانيا. كان ذلك إبــان بداية صدمة التضخم، التي ترافقت مع شعور بتراخي الشرطة، بسبب اقـــتـــط­ـــاع جـــــزء كــبــيــر مــــن املـــيـــ­زانـــيـــ­ات الــتــي كــانــت مـخـصـصـة لـلـحـد مـــن الــجــريـ­ـمــة. في تلك الفترة، بلغ األمر بالسلطات حد تقديم

نــصــائــ­ح لـلـسـيـاح بــأخــذ الـحـيـطـة والــحــذر ومحاولة التقليل من التباهي باملمتلكات الــبــاهـ­ـظــة، حــتــى ال يــتــعــر­ضــوا لــلــســر­قــة أو ألعـمـال العنف، مـا أسـهـم بتغيير الـصـورة الذهنية للمدن األوروبـــ­يـــة اآلمــنــة. يمكننا أن نستحضر مع هذا مشهدًا آخر مشابهًا حـدث فـي الـواليـات املتحدة إبـــان العاصفة الـــثـــل­ـــجـــيــ­ـة الـــقـــا­ســـيـــة أخـــــيــ­ـــرًا، ونــــتـــ­ـج مـنـهـا عطل فـي الـكـهـربـ­اء، أدى بـــدوره إلــى تعطل الـكـامـيـ­رات ووســائــل الـتـأمـن واملــراقـ­ـبــة. ما حدث هو اندفاع أعداد كبيرة من املواطنن تــجــاه املـــحـــ­ال واملـــراك­ـــز الــتــجــ­اريــة، وتـحـول املـئـات، بل اآلالف، من الناس العادين إلى

شبكات عصابية ال تتورع عن كسر األبواب واقتحام املتاجر. وجـــه الـشـبـه كبير بــن حـــاالت الـفـوضـى هـذه وما كشف عنه من جرائم اغتصاب وتحرش. فـــفـــي األحــــــ­ــوال الـــعـــا­ديـــة ال يـــجـــرؤ أحـــــد عـلـى أخـذ سلعة لم يدفع ثمنها أو على سرقة أية بـضـائـع مــن أي مـنـتـج، هـــذا هــو بـالـضـبـط ما يــحــدث فــي الـــشـــا­رع الـــذي ال يــجــرؤ أحـــد فيه، في الظروف الطبيعية، على مضايقة النساء. االستنتاج أن ما كان يمنع من التعدي ليس الوازع األخالقي الداخلي كما نظن، بل أنظمة الرقابة التي تحيط باملكان، ولذلك فـإن هذه الــشــخــ­صــيــات نــفــســه­ــا، الـــتـــي تـــبـــدو مـلـتـزمـة ومحترمة، تتحول فـي األوقـــات االستثنائي­ة إلــــى لـــصـــوص أو مــتــحــر­شــن. يــتــضــح املــثــال األوضـــــ­ـح فـــي ســـلـــوك الـــرجـــ­ل األبـــيــ­ـض خـــارج حـــدود بـــالده واستسهاله كــل جــرم كــان يــراه كبيرًا فـي مجتمعه األصـلـي. حـــوادث الفساد املـــالــ­ـي واألخــــا­لقــــي، الــــذي مــارســتـ­ـه الــشــركـ­ـات والــجــيـ­ـوش واملــنــظ­ــمــات الـغـربـيـ­ة الــتــي عملت خارج حدود العالم األول أكثر من أن تحصى، فيكفي التذكير بأن الضمير الغربي يتغاضى عن التعذيب الوحشي في حـال نقل السجن إلى خارج الحدود. يــذكــر هـــذا بجملة سمعتها فــي أحـــد األفـــالم األمـــيــ­ـركـــيـــ­ة، حــيــنــم­ــا خـــاطـــب شـــرطـــي رفــيــقــ­ه قائال، وهو يحاول أن يثنيه عن التمادي في استخدام العنف: أنت لست في العراق.

ما كان يمنع من التعدي ليس الوازع األخالقي الداخلي، كما نظن، بل أنظمة الرقابة

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar