فيروز الفريدة مرتين
كذكرى تسبق وجود من يتذّكرونها استطاعت بصوتها أن تخلق نوعًا من حياة موازية، بل حياة فريدة، يشعر الجميع بها أنها موهوبة لهم. إنها، على نحو ما، داخليتهم وحياتهم األخرى
فـيـروز تتقدم فـي الثمانينيات، الجميع يـعـرف ذلـــك، لقد بـاتـت مسنة، مثلها في ذلك مثل جميع الناس. الشخص العادي يـمـكـنـه أن يــفـكـر اآلن أنــهــا تــغــدو هـرمـة، مثلي أنا. مثلي أنا، لن تكون شخصًا آخر. هـــذا قــد يعني أنـنـي كــفــيــروز، فــيــروز في سنها هذه تعود إلي، إن لي فيروزي، بل أنا قد أكون فيروز أخرى. الكل يستردون فيروز، الكل يتحولون إلى فيروزات. هـيـئـتـهـا نـفـسـهـا تــتــبــدل مــثــل هـيـئـاتـنـا؛ ألــم تنشر لها صـورة تبدو فيها مسنة؟ لم تستطع الشهرة وال االســم الـرنـان أن يخفيا ذلك. أثار نشر هذه الصورة ضجة كـبـيـرة، اتـهـمـت االبــنــة، نــاشــرة الــصــورة، بأنها أسـاءت إليها، ولم يفهم أحد ملاذا نـشـرت الــصــورة. البعض وجـــدوا فرصة ليدافعوا عن شيخوخة فيروز، ليدافعوا بـذلـك عــن الشيخوخة فــي عمومها، عن حظ اإلنسان وقدره. لم نعلم ماذا شعرت فــيــروز، إنـهـا تـتـفـادى الـبـوح وال تتنازل لــه. لكن أمــرًا آخــر حصل: زيـــارة ماكرون وصـــورتـــه فــي بـيـتـهـا، صـورتـهـا هــي في بيتها، في عباءتها. لقد كان هذا جديدًا، ثــمــة ســاعــة تــكــون فـيـهـا فــيــروز شخصًا عامًا، ثمة ساعة تكون فيها خارج السن وخارج االسم وخارج الشهرة، تكون فوق ذلك. إذ ذاك لن يحدق أحد في وجهها، لن يبحث أحد عن عالئم السن، فهي في هذه اللحظة لن تكون جسدًا ولن تكون هيئة؛ إنها، قبالة الرئيس الفرنسي، األسطورة التي خرجت من مكمنها. عند ذلك نراها وال نراها، بل ال نعرف ماذا رأينا. هل كان االسم، عند ذلك، هو الذي خرج الستقبال الـرئـيـس، هــل كــان ذلــك اسـمـنـا كـلـنـا، هل كنا جميعًا هناك؟ لكل فيروزه، لكن الكل قد يكون فيروز. فيروز تواصل انفرادها، إنها ما يوحي به صوتها، بل الحياة الثانية التي تخرج من صوتها. لقد استطاعت بهذا الصوت أن تخلق نوعًا من حياة موازية، بل حياة فريدة، يشعر الجميع بها أنها موهوبة لـــهـــم. إنــــهــــا، عـــلـــى نـــحـــو مـــــا، داخــلــيــتــهــم وحياتهم األخــــرى. أغنية فـيـروز ليست فقط دعاء لحظة، إنها نوع من ذكرى، بل هـي هــذه الــذكــرى املــوعــودة، ذكـــرى ليس لها زمن وليس لها وجـود. إنها الذكرى املالزمة، الذكرى التي، هي على نحو ما،
موجودة قبلنا. إنها نوع من خلق حياة، مـن اســتــرداد حياة هـي وحـدهـا منذورة لــنــا، بـــدون أن تــكــون حــقــًا حـيـاتـنـا. إنها الحياة كلها أمـامـنـا، الحياة كما تكون الــحــيــاة، وكـمـا نـتـذكـرهـا، عـلـى نـحـو مـا، فــي الــصــوت الـــذي يصنع فــضــاءهــا، بل يمنحنا نـحـن هـــذا الـفـضـاء. نـحـن نحب هـــكـــذا أغــنــيــة فــــيــــروز، بـــل تـمـنـحـنـا هــذه األغـــنـــيـــة ســـمـــاء وزمـــنـــًا وواقــــعــــًا، وأكــثــر حقيقية، ليس بقدر ما لم نعشه، بل بقدر ما نستقبله ونصعد إليه. هـكـذا كـــان لــفــيــروز، ولـلـرحـابـنـة إجــمــاال، أغنيتهم، التي كانت نموذجهم الخاص فـــي األغــنــيــة الــعــربــيــة، نــمــوذجــهــم الـــذي يـقـدم األغـنـيـة كمستوى آخــر مـن الـواقـع والحياة، كفضاء متصل وذاكـــرة ثانية. كــانــت فــيــروز هــكــذا أغــنــيــة أخــــرى، ترفع الـــغـــنـــاء إلــــى مـــا يــكــونــه الــشــعــر وتــكــونــه املـوسـيـقـى، مــا يـكـونـان فـيـه مـرتـقـى ومـا يشبه أن يكون سيرة خاصة. كانت هذه املواء مة بن الغناء، وبن التذكر والحلم،
مـــا جــعــل لــفــيــروز أغـنـيـتـهـا ولـلـرحـابـنـة فــنــهــم، الــــذي لـــم يــكــن بــعــيــدًا عـــن عـصـره وعامله. زياد الرحباني، الرحباني الثاني، جعل لـــفـــيـــروز ريـــادتـــهـــا الــثــانــيــة فـــي األغــنــيــة الـعـربـيـة. هــذه املـــرة كـانـت األغـنـيـة عــودًا عـلـى الــتــذكــر، وعــلــى الـــواقـــع، مــن مطرح ثــــــان، هـــو هــــذه املــــــرة اســتــحــضــار مــــادي ونـــقـــدي لــهــمــا. إنـــه الـــتـــذكـــر، لــكــن لـحـيـاة مصنوعة مـن مفارقاتها، مـن المعناها وتهافتها وعدميتها. مرتن كانت فيروز وأغنيتها وفرادتها، وكــــان لـلـرحـابـنـة مـــن الـجـيـلـن أغنيتهم
أغنية تبقى فوق وخارج ما يطلبه الناس وينتظرونه
ونموذجهم، لكن الغريب هو أن األغنية بــقــيــت فـــريـــدة بـــل وواحــــــــدة. الـــغـــريـــب أن أغنية فيروز، التي كانت جزءًا من عملية تــحــديــث شــمــل الــثــقــافــة والـــفـــن كليهما، بقيت خـاصـة ولــم تـتـحـول إلــى تــيــار. لم نـجـد وريــثــا حقيقيًا لــــإرث الـرحـبـانـي، بحيث إن عملية التجديد الثانية كانت أيـضـًا لـرحـبـانـي آخـــر، ولـفـيـروز نفسها. أغـنـيـة الـــيـــوم، كـمـا هــي فــي كــل مــكــان، ال تواصل أغنية فيروز األولى وال الثانية، كأن ما تحمله هذه األغنية، رغم كل شيء، لـــم يـجـعـل لــهــا شـعـبـيـة، ولـــم يـجـعـل لها مسارًا وسياقًا في الزمن. وكأن ما تحمله األغنية الفيروزية يبقى، على نحو ما، فـوق وخــارج ما يطلبه الجمهور، بل ما يعنيه الغناء للشارع والعامة. لقد كانت األغنية الرحبانية على هذا النحو، منذ كــانــت، فـــوق تـطـلـب الــعــام الـــذي يتراجع أحــيــانــًا إلـــى الــــــوراء، كــكــل مــا يــحــدث لنا اآلن، وما حدث دائمًا لنا.