Al Araby Al Jadeed

فيروز الفريدة مرتين

كذكرى تسبق وجود من يتذّكرونها استطاعت بصوتها أن تخلق نوعًا من حياة موازية، بل حياة فريدة، يشعر الجميع بها أنها موهوبة لهم. إنها، على نحو ما، داخليتهم وحياتهم األخرى

- عباس بيضون

فـيـروز تتقدم فـي الثمانينيا­ت، الجميع يـعـرف ذلـــك، لقد بـاتـت مسنة، مثلها في ذلك مثل جميع الناس. الشخص العادي يـمـكـنـه أن يــفـكـر اآلن أنــهــا تــغــدو هـرمـة، مثلي أنا. مثلي أنا، لن تكون شخصًا آخر. هـــذا قــد يعني أنـنـي كــفــيــر­وز، فــيــروز في سنها هذه تعود إلي، إن لي فيروزي، بل أنا قد أكون فيروز أخرى. الكل يستردون فيروز، الكل يتحولون إلى فيروزات. هـيـئـتـهـ­ا نـفـسـهـا تــتــبــد­ل مــثــل هـيـئـاتـن­ـا؛ ألــم تنشر لها صـورة تبدو فيها مسنة؟ لم تستطع الشهرة وال االســم الـرنـان أن يخفيا ذلك. أثار نشر هذه الصورة ضجة كـبـيـرة، اتـهـمـت االبــنــة، نــاشــرة الــصــورة، بأنها أسـاءت إليها، ولم يفهم أحد ملاذا نـشـرت الــصــورة. البعض وجـــدوا فرصة ليدافعوا عن شيخوخة فيروز، ليدافعوا بـذلـك عــن الشيخوخة فــي عمومها، عن حظ اإلنسان وقدره. لم نعلم ماذا شعرت فــيــروز، إنـهـا تـتـفـادى الـبـوح وال تتنازل لــه. لكن أمــرًا آخــر حصل: زيـــارة ماكرون وصـــورتــ­ـه فــي بـيـتـهـا، صـورتـهـا هــي في بيتها، في عباءتها. لقد كان هذا جديدًا، ثــمــة ســاعــة تــكــون فـيـهـا فــيــروز شخصًا عامًا، ثمة ساعة تكون فيها خارج السن وخارج االسم وخارج الشهرة، تكون فوق ذلك. إذ ذاك لن يحدق أحد في وجهها، لن يبحث أحد عن عالئم السن، فهي في هذه اللحظة لن تكون جسدًا ولن تكون هيئة؛ إنها، قبالة الرئيس الفرنسي، األسطورة التي خرجت من مكمنها. عند ذلك نراها وال نراها، بل ال نعرف ماذا رأينا. هل كان االسم، عند ذلك، هو الذي خرج الستقبال الـرئـيـس، هــل كــان ذلــك اسـمـنـا كـلـنـا، هل كنا جميعًا هناك؟ لكل فيروزه، لكن الكل قد يكون فيروز. فيروز تواصل انفرادها، إنها ما يوحي به صوتها، بل الحياة الثانية التي تخرج من صوتها. لقد استطاعت بهذا الصوت أن تخلق نوعًا من حياة موازية، بل حياة فريدة، يشعر الجميع بها أنها موهوبة لـــهـــم. إنــــهـــ­ـا، عـــلـــى نـــحـــو مـــــا، داخــلــيـ­ـتــهــم وحياتهم األخــــرى. أغنية فـيـروز ليست فقط دعاء لحظة، إنها نوع من ذكرى، بل هـي هــذه الــذكــرى املــوعــو­دة، ذكـــرى ليس لها زمن وليس لها وجـود. إنها الذكرى املالزمة، الذكرى التي، هي على نحو ما،

موجودة قبلنا. إنها نوع من خلق حياة، مـن اســتــردا­د حياة هـي وحـدهـا منذورة لــنــا، بـــدون أن تــكــون حــقــًا حـيـاتـنـا. إنها الحياة كلها أمـامـنـا، الحياة كما تكون الــحــيــ­اة، وكـمـا نـتـذكـرهـ­ا، عـلـى نـحـو مـا، فــي الــصــوت الـــذي يصنع فــضــاءهـ­ـا، بل يمنحنا نـحـن هـــذا الـفـضـاء. نـحـن نحب هـــكـــذا أغــنــيــ­ة فــــيــــ­روز، بـــل تـمـنـحـنـ­ا هــذه األغـــنــ­ـيـــة ســـمـــاء وزمـــنـــًا وواقــــعـ­ـــًا، وأكــثــر حقيقية، ليس بقدر ما لم نعشه، بل بقدر ما نستقبله ونصعد إليه. هـكـذا كـــان لــفــيــر­وز، ولـلـرحـاب­ـنـة إجــمــاال، أغنيتهم، التي كانت نموذجهم الخاص فـــي األغــنــي­ــة الــعــربـ­ـيــة، نــمــوذجـ­ـهــم الـــذي يـقـدم األغـنـيـة كمستوى آخــر مـن الـواقـع والحياة، كفضاء متصل وذاكـــرة ثانية. كــانــت فــيــروز هــكــذا أغــنــيــ­ة أخــــرى، ترفع الـــغـــن­ـــاء إلــــى مـــا يــكــونــ­ه الــشــعــ­ر وتــكــونـ­ـه املـوسـيـق­ـى، مــا يـكـونـان فـيـه مـرتـقـى ومـا يشبه أن يكون سيرة خاصة. كانت هذه املواء مة بن الغناء، وبن التذكر والحلم،

مـــا جــعــل لــفــيــر­وز أغـنـيـتـه­ـا ولـلـرحـاب­ـنـة فــنــهــم، الــــذي لـــم يــكــن بــعــيــدًا عـــن عـصـره وعامله. زياد الرحباني، الرحباني الثاني، جعل لـــفـــيـ­ــروز ريـــادتــ­ـهـــا الــثــانـ­ـيــة فـــي األغــنــي­ــة الـعـربـيـ­ة. هــذه املـــرة كـانـت األغـنـيـة عــودًا عـلـى الــتــذكـ­ـر، وعــلــى الـــواقــ­ـع، مــن مطرح ثــــــان، هـــو هــــذه املــــــر­ة اســتــحــ­ضــار مــــادي ونـــقـــد­ي لــهــمــا. إنـــه الـــتـــذ­كـــر، لــكــن لـحـيـاة مصنوعة مـن مفارقاتها، مـن المعناها وتهافتها وعدميتها. مرتن كانت فيروز وأغنيتها وفرادتها، وكــــان لـلـرحـابـ­نـة مـــن الـجـيـلـن أغنيتهم

أغنية تبقى فوق وخارج ما يطلبه الناس وينتظرونه

ونموذجهم، لكن الغريب هو أن األغنية بــقــيــت فـــريـــد­ة بـــل وواحــــــ­ــدة. الـــغـــر­يـــب أن أغنية فيروز، التي كانت جزءًا من عملية تــحــديــ­ث شــمــل الــثــقــ­افــة والـــفـــ­ن كليهما، بقيت خـاصـة ولــم تـتـحـول إلــى تــيــار. لم نـجـد وريــثــا حقيقيًا لــــإرث الـرحـبـان­ـي، بحيث إن عملية التجديد الثانية كانت أيـضـًا لـرحـبـانـ­ي آخـــر، ولـفـيـروز نفسها. أغـنـيـة الـــيـــو­م، كـمـا هــي فــي كــل مــكــان، ال تواصل أغنية فيروز األولى وال الثانية، كأن ما تحمله هذه األغنية، رغم كل شيء، لـــم يـجـعـل لــهــا شـعـبـيـة، ولـــم يـجـعـل لها مسارًا وسياقًا في الزمن. وكأن ما تحمله األغنية الفيروزية يبقى، على نحو ما، فـوق وخــارج ما يطلبه الجمهور، بل ما يعنيه الغناء للشارع والعامة. لقد كانت األغنية الرحبانية على هذا النحو، منذ كــانــت، فـــوق تـطـلـب الــعــام الـــذي يتراجع أحــيــانـ­ـًا إلـــى الــــــور­اء، كــكــل مــا يــحــدث لنا اآلن، وما حدث دائمًا لنا.

 ?? )Getty( ?? فيروز خالل حفل في «مهرجان بيت الدين»، لبنان، صيف 2001
)Getty( فيروز خالل حفل في «مهرجان بيت الدين»، لبنان، صيف 2001

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar