Al Araby Al Jadeed

نديم عوض... موسيقي من مدينة مطفأة

- صنعاء ـ جمال حسن

وصف املايسترو وعازف الكمان اليمني نديم عوض ‪،)2023 -1944(‬ الذي رحل أخيرًا، عاقة يتمه بعشق آلــة الكمان. فما افتقده عائليا، وجده في صوتها العذب والحنون. ينتمي عـــوض لـزمـن استثنائي عـاشـه الفن فــي عـــدن، مــا زال يــعــرف بـالـزمـن الجميل؛ إذ سـاهـم فـي تشكل وعـيـه الـفـنـي، ليصبح بعد ذلك أحد أصواته، كواحد من أشهر عازفيها وقـائـدًا للفرقة الوطنية. ورحيله أخـيـرًا، كما لــو أنـــه يعيد تـذكـيـر مدينته بحقبة ذهبية، كان واحدًا من رجالها، رجال مدينة تمر اآلن بأكثر فتراتها ظلمة. نشأ نديم عوض في قلب كريتر، محاطا بفورة من النشاط الفني. فمنذ الثاثينيات، أمست عـــدن مـركـز املـوسـيـق­ـى اليمنية، إذ اجتمعت فيها كــل األشــكــا­ل املوسيقية اليمنية، وفـي نفس الوقت اختمرت هوية موسيقية جديدة، مثلها تيار الندوة املوسيقية العدنية. كانت غاية هذا التيار تطوير الغناء، متأثرًا باملوسيقى العربية، وعلى وجه الخصوص في مصر. وأحد مامح هذا التطوير، توسيع اســــتـــ­ـخــــدام اآلالت املـــوســ­ـيـــقـــي­ـــة، املـــصـــ­احـــبـــة لــلــغــن­ــاء، خـــافـــا ملـــا هـــو ســـائـــد مـــن االعــتــم­ــاد على آلة العود. وتمخض عن ذلك والدة فرق مـوسـيـقـي­ـة، سـاهـمـت فــي اسـتـيـعـا­ب عــازفــن، على رأسهم نديم عوض. بدأ عوض العزف ضمن فرقة الفنان الراحل أحمد بن أحمد قاسم. واألخير أصبح صوتا بارزًا في االتجاه املوسيقي الجديد في عدن. قال عازف الكمان إن أحمد قاسم كان يشترط عـــلـــى عــــازفــ­ــي فـــرقـــت­ـــه عـــــدم الــــوجــ­ــود بـجـانـب فنان آخــر، بما في ذلـك محمد مرشد ناجي. وعموما، لم تكن الفرق التي تشرك الفنانن ثابتة، باستثناء فرقة أحمد قاسم، إذ يتجمع العازفون حول فنان بصحبة آالتهم الخاصة. وبـدافـع الشغف، قـال عـوض إن بعضهم كان يطلب مـن املسافرين املعروفن لهم إحضار آالت لهم، مثل العود أو الكمان أو املاندولن. وكـــــان الـــتـــو­جـــه املــجــتـ­ـمــعــي يــشــجــع الــنــشــ­اط املوسيقي، خصوصا الجمهور الذي يحضر الحفات املوسيقية. وفي الفترة االستعماري­ة، انـــتـــع­ـــشـــت، إلــــــى حـــــد مــــــا، شـــــركــ­ـــات اإلنــــتـ­ـــاج املوسيقي. وظهر أول معهد موسيقي الـذي

تزامنت تجربته مع انفتاح موسيقي شهده اليمن منذ الستينيات

أنشأه الفنان جميل غانم، وكان نديم عوض على صلة شخصية به. هكذا، التحق األخير باملعهد لتحصيل تعليم أكاديمي، كان يوفره بـوجـود أسـاتـذة موسيقى يمنين وأجـانـب. وتــخــرج بــشــهــا­دة دبــلــوم فــي املــوســي­ــقــى، مع تغير فـي الــظــروف االجتماعية والسياسية بعد االستقال. فالفنون، بما فيها املوسيقى، أصـبـحـت تـحـت رعــايــة الـحـكـومـ­ة ذات النهج االشــــــ­تــــــراك­ــــــي، واخــــتــ­ــفــــت شـــــركــ­ـــات اإلنـــــت­ـــــاج املوسيقي نتيجة التأميم. ووضعت الحكومة نفسها املسؤولة بشكل مطلق على الفنون، واتــجــهـ­ـت لــتــأســ­يــس فــــرق مـوسـيـقـي­ـة وفـنـيـة تـــحـــظـ­ــى بـــرعـــا­يـــتـــهـ­ــا. وجـــمـــي­ـــعـــهــ­ـا كــــانـــ­ـت مـن مخرجات معهد املوسيقى الذي أصبح معهد الـفـنـون الجميلة، ثــم الحـقـا أطـلـق عليه اسم مؤسسه جميل غانم. وتم تعين نديم عوض قائدًا للفرقة الوطنية للموسيقى. وقتها، كان العازف األبـرز في عدن، وبعد مسيرة مهنية طويلة سيطلق عليه لقب شيخ املوسيقين. بـعـد انـطـاقـتـ­ه كـقـائـد للفرقة املـوسـيـق­ـيـة، لم يعد محتكرًا لفنان بعينه. وفــي آخــر حديث له على إحدى القنوات، كان يستعيد مدينته بنوع من الحنن. وفـي كل ذكــرى، كـان هناك دائـــمـــ­ا صـــف مـــن الــفــنــ­انــن والــفــنـ­ـانــات الــذيــن عمل معهم، أو ارتبط بصداقات معهم، منذ وقـــت مـبـكـر. عـــاش نـديـم عـــوض ثـــاث فـتـرات زمـــنـــي­ـــة ســيــاســ­يــة وفـــنـــي­ـــة. بــــــدءًا مــــن الـحـقـبـة االسـتـعـم­ـاريـة، مـــرورًا بالعهد االشـتـراك­ـي ما بعد االستقال، وحتى فترة الوحدة. وخال حياته، كان عمره مقياسا ملا شهدته عدن من روح املوسيقى، حيث تـزامـن ربيع شبابها، مـــع ربـــيـــع ألـــحـــا­نـــه، وبــــــدأ­ت شــيــخــو­خــتــه مع انــطــفــ­اء شـمـعـة املــوســي­ــقــى، ألســـبـــ­اب عــديــدة، منها التكالب السياسي الذي لم يعط الفن أي أهمية. ومع احتضاره وموته، كانت مدينته تـحـتـضـر مـــن دون أفــــق لـــلـــعـ­ــودة. مـثـلـمـا هو الحال في اليمن ككل. وخــــافــ­ــا ملــــا شـــهـــدت­ـــه املـــوســ­ـيـــقـــى مــــن تــطــور أكــــاديـ­ـــمــــي فــــي الـــعـــا­لـــم الــــعـــ­ـربــــي، كــــــان نــديــم عـــوض مـــثـــاا­ل لــاجــتــ­هــاد الـــذاتــ­ـي، والـتـكـوي­ـن املـــعـــ­رفـــي املـــــتـ­ــــاح. فــتــخــل­ــقــت لــــه ســـيـــرة فـنـيـة محترمة. ترعرع نديم في حي القاضي، أحد أشهر أحياء كريتر. ومنذ صباه تجاور مع فنانن معروفن، منهم حسن فقيه وفتحية الـصـغـيـر­ة، وآخــــرون. وقـبـل رحـيـلـه، تعرضت مدينة عــدن لسيول أتلفت كثيرًا مـن صـوره الــتــي يــتــذكــ­ر فـيـهـا مــشــاركـ­ـاتــه فـــي فـعـالـيـا­ت دولـيـة. واحـــدة مـن تلك الفعاليات، كانت في سمرقند باالتحاد السوفييتي. وحن جاءت فقرته ألداء شيء من ألحان باده، عزف على كمانه لحن أغنية «أال يـا طير يـا األخـضـر». وهو أحد أكثر األلحان العدنية الشعبية التي اشتهرت على نطاق واسع في اليمن والخليج العربي. وألن النسيج اللحني لم يكن يتيح لـلـمـشـار­كـن مــن دول مختلفة أن يــشــاركـ­ـوه، قـال إن عازفا أذربيجانيا صعد معه املسرح وعزف معه، كما لو أنه أحد رفاقه. وحن غادر الجميع املسرح، كان األذربيجان­ي أمــــامــ­ــه فــــي الـــبـــه­ـــو، مـــرحـــب­ـــا بـــــه. كـــــان يـشـعـر بسعادة أن يعثر على شخص تفاعل مع أحد ألحانه الوطنية. لكن صــوره التي انطمست فــيــهــا كــثــيــر مــــن ذكــــريــ­ــاتــــه، لــيــســت وحـــدهـــ­ا، فــمــديــ­نــتــه تــضــمــح­ــل خـــلـــف ذكــــريــ­ــات مـغـلـفـة بـــالـــت­ـــأويـــل الـــســـي­ـــاســـي. ولــــم تــبــق ســــوى تلك األلحان التي أبقت على بعض من روح عدن، وعزف معظمها من روحه.

 ?? (كريم صاحب / فرانس برس) ?? شهد الفنان الراحل تحوالت مدينته الفنية والسياسية
(كريم صاحب / فرانس برس) شهد الفنان الراحل تحوالت مدينته الفنية والسياسية

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar