Al Araby Al Jadeed

60 عامًا على دفء المصالح

أربعة ملفات تنغص عالقات فرنسا وألمانيا التاريخية

- باريس ـ ناصر السهلي

تنغص أربعة ملفات رئيسية العالقات االقتصادية التاريخية بين فرنسا وألمانيا، على رأسها التعامل مع أزمة الطاقة في أوروبا تليه ملفات الديون الوطنية والتقارب مع الصين واالتفاق على تكاليف خفض التضخم

يوم األحد املاضي، احتفل األملان والــــفــ­ــرنــــسـ­ـــيــــون عــــلــــ­ى املـــســـ­تـــوى الـــــرسـ­ــــمـــــ­ي بــــــالـ­ـــــذكـــ­ـــرى الـــســـت­ـــن للمصالحة التاريخية بن البلدين، وبرغم نغمة أن البلدين «روحان في جسد واحد»، كــمــا ذهــــب الـــرئـــ­يـــس الــفــرنـ­ـســي، إيــمــانـ­ـويــل مــــاكـــ­ـرون، إال أن دفء الــعــاقـ­ـة لــيــس بـــذات الـــــحــ­ـــرارة الــــتـــ­ـي كـــــان عــلــيــه­ــا فــــي املــــاضـ­ـــي، السيما في ثمانينات القرن املاضي. وتـــواجــ­ـه الـــعـــا­قـــات بـــن الــبــلــ­ديــن اخــتــبــ­ارًا حقيقيًا، السيما فــي ظــل تـداعـيـات الحرب الروسية في أوكرانيا املستمرة منذ نهاية فبراير/ شباط من العام املاضي، إذ تطرح أربـــعـــ­ة مـلـفـات رئـيـسـيـة نـفـسـهـا بــقــوة على رأسها التعامل مع أزمة الطاقة في أوروبا تليه الديون الوطنية والتقارب مع الصن واالتفاق على تكاليف خفض التضخم. ومــــع ذلـــــك، يـــبـــدو أن إدراك ســـاســـة الــبــلــ­ديــن ألهميتهما فـي اسـتـمـرار املـشـروع األوروبـــ­ي، وملصالحهما االقتصادية والجيوسياس­ية، يدفعهم نحو االلتقاء على مساحة مشتركة وتـــســـو­يـــات. جــــاءت تـصـريـحـا­ت مـــاكـــر­ون عن عمق العاقات بن باريس وبـرلـن، ولقاءات بــرملــان­ــيــي الــبــلــ­ديــن فـــي جــامــعــ­ة الـــســـو­ربـــون، والــــلــ­ــقــــاء ات الـــرســـ­مـــيـــة بــــن الـــحـــك­ـــومـــتـ­ــن فـي اإللـيـزيـ­ه، بمشاركة املستشار األملـانـي أوالف شولتز، قبل ثاثة أيــام، الستذكار املصالحة التاريخية يوم 22 يناير/كانون الثاني ،1963 التي سميت «معاهدة اإلليزيه»، بعد أن سالت دماء كثيرة بينهما لنحو قرن من الزمن. ذلك ال يعني أنها احتفالية وتبادل الكلمات املــعــسـ­ـولــة فــحــســب، بـــل خـــوض فـــي نـقـاشـات عميقة حول التحديات التي تواجه عاقتهما وبــقــاءه­ــمــا كـــقـــوة مــحــركــ­ة ودافـــعــ­ـة لـاتـحـاد األوروبـــ­ــي، نـظـرًا لضخامة اقـتـصـاد البلدين على مستوى القارة العجوز، وإن كانت الغلبة ألملــانــ­يــا، الـتـي تـصـدر سـنـويـًا بـأكـثـر مــن 1.3 مليار يورو 1.4( مليار دوالر) بينما باريس تصدر ما قيمته نحو 540 مليار يورو. يــخــوض األملـــــ­ان والــفــرن­ــســيــون نــقــاشــ­ا حــول «خـريـطـة طــريــق» الـعـقـد الــقــادم فــي االتــحــا­د األوروبـي، لتحديد التعاون بينهما وماهية أوروبــــا الـتـي يتطلعان إلـيـهـا عـلـى مستوى مـــجـــاا­لت مــتــنــو­عــة مــثــل الــصــنــ­اعــة والــطــاق­ــة والــــبــ­ــيــــئــ­ــة واألمـــــ­ـــــــن، بــــالـــ­ـرغــــم مـــــن أن أغـــلـــب التحليات األوروبية ترى أن «كيمياء» عاقة شولتز ومــاكــرو­ن ليست بخير، وهــو أيضا رأي قدمه الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هـوالنـد بحسب تصريحات نقلتها صحف أملـانـيـة وفرنسية مـؤخـرًا بـقـولـه: «شـولـتـز ال يقول شيئا وماكرون يتحدث طوال الوقت».

تاريخ من الهزات والنجاحات في عالقة الطرفين

بـالـطـبـع لـيـسـت الــحــالـ­ـة املـــزاجـ­ــيـــة لــرؤســاء وقـادة الـدول في أوروبــا من تحدد التوافق والــــــخ­ــــــافــ­ــــات عــــلــــ­ى املـــــصـ­ــــالــــ­ـح ومـــســـت­ـــوى العاقات، التي بدت مهتزة وغير منسجمة مع بدء الغزو الروسي ألوكرانيا قبل نحو عــــــام، ومـــــا خــلــقــه ذلـــــك مــــن مـــصـــاع­ـــب عـلـى األوضـــاع الصناعية والتجارية فـي القارة األوروبـــ­ــيـــــة، كــمــا االنـــعــ­ـكـــاســـ­ات الـسـيـاسـ­يـة األخــرى التي ال تـزال تشكل حجر عثرة في محركات املحور األملاني ـ الفرنسي. عـــاوة عـلـى ذلـــك، فـــإن مـعـاهـدة الــصــداق­ــة بن الـــجـــا­نـــبـــن فــــي عـــــام 1963 ال تـــتـــحـ­ــدث فـقـط عـــن الــثــقــ­افــة والـــلـــ­غـــة وغـــيـــر­هـــا مـــن مــواضــيـ­ـع تـــعـــزز عـــاقـــا­ت الــشــعــ­بــن، بـــل إنـــهـــا مــعــاهــ­دة تتعلق أيضا بالسياسة األمنية والخارجية والـــتـــ­جـــاريـــ­ة الـــصـــا­رمـــة. فـبـالـنـس­ـبـة لـلـرئـيـس الفرنسي األسبق، الراحل شـارل ديغول، كان األمر يتعلق إلى حد كبير بضمان أال تصبح أملانيا الغربية صديقة حميمة مـع الـواليـات املتحدة وبريطانيا، حيث ظل يرفض دخول األخــــيـ­ـــرة إلـــــى الــــســـ­ـوق األوروبـــ­ــيـــــة املــشــتـ­ـركــة (االتحاد الحقا)، لتوجس ديغول من عاقات لــنــدن بــواشــنـ­ـطــن، وإلضـــعــ­ـاف تــحــدي مـوقـف

فــرنــســ­ا بـشـكـل مــشــتــر­ك فـــي أوروبـــــ­ا والــعــال­ــم. يـعـرف األوروبـــ­يـــون بالتأكيد حجم البلدين، فعلى مستوى السكان أو ســوق املستهلكن واإلنتاج يشكان سوية قوة هائلة، إذ يتجاوز عـــدد سـكـان فـرنـسـا 67 مـلـيـون نـسـمـة، بينما يتخطى سكان أملانيا 83 مليونًا، وهما حن الحديث عن أنهما يشكان «محرك» االتحاد األوروبي، فذلك ليس تسمية با خلفية. ففي سبعينات القرن املاضي وضع الرئيس الفرنسي األسبق فاليري جيسكار ديستان ومستشار أملانيا األسبق هيلموت شميدت، أسس االتحاد التجاري األوروبــي. وساهم البلدان بصورة رئيسة في ثمانينات القرن املـاضـي بخلق «الـسـوق الـداخـلـي»، وتغلب الــطــرفـ­ـان عـلـى تـشـكـك فـرنـسـا حــيــال عـــودة

أملانيا إلى التوحد بعد سقوط جدار برلن، بــاتــفــ­اق فــرانــسـ­ـوا مــيــتــر­ان وهـيـلـمـو­ت كـول على األســـاس الـــذي ستقوم عليه معاهدة ماستريخت (االتـفـاقـ­يـة املؤسسة لاتحاد األوروبــي عام ،)1991 فيما جـاءت الجهود املــشــتـ­ـركــة لــلــمــس­ــتــشــار األســـبــ­ـق غــيــرهــ­ارد شرودر وشيراك مثمرة في توسيع االتحاد األوروبي باتجاه شرق القارة العجوز. في العاقة الحديثة واجه الطرفان معرقا تـمـثـل فـــي أزمــــة الـــديـــ­ون األوروبـــ­ـيــــة، ولـكـن خـــال جــائــحــ­ة فـــيـــرو­س كـــورونــ­ـا، اسـتـطـاع مـــــاكــ­ـــرون انـــــتــ­ـــزاع مــــوقـــ­ـف مــــن املـــســـ­تـــشـــار­ة األملـــان­ـــيـــة الــســابـ­ـقــة أنــغــيــ­ا مــيــركــ­ل بتحمل مــــشــــ­تــــرك لــــلــــ­ديــــون األوروبـــ­ـــــيــــ­ــــة لــلــتــع­ــامــل مــــع تــــداعــ­ــيــــات الـــــوبـ­ــــاء. حــــن دخـــــل األملـــــ­ان

والفرنسيون في معاهدتهما قبل 6 عقود كــانــا أيــضــًا يختلفان فــي كثير مــن األمـــور املــتــعـ­ـلــقــة بــمــكــا­نــتــي وســـيـــا­ســـات الــبــلــ­ديــن الخارجية. ففرنسا قوة نووية استعمارية، وبلد زراعـي وصناعي كبير، تحافظ حتى اليوم على سياسة البقاء كاعب دولي في السياسة والتجارة. في املقابل كانت أملانيا الــغــربـ­ـيــة تــعــانــ­ي فـــي فــتــرة مـــا بــعــد الــحــرب العاملية الثانية )1945-1939( مـن الـديـون الــــتـــ­ـي تـــثـــقـ­ــل كـــاهـــل­ـــهـــا وتـــخـــض­ـــع ملــــا يـشـبـه انـقـسـامـًا تـحـت سـيـطـرة عـسـكـريـة أجنبية متعددة الجنسيات، قبل أن تطلق العنان القـــتـــ­صـــاداتــ­ـهـــا وصـــنـــا­عـــاتـــه­ـــا بـــعـــد إعـــــادة تعمير ما دمرته الحرب في بناها التحتية. و«الــشــراك­ــة» بـن الجانبن ال تعني أنهما

الغلبة االقتصادية أللمانيا من حيث حجم الصادرات ومستويات الديون

دائـــمـــ­ا عــلــى وفـــــاق فــيــمــا يــخــص األزمـــــ­ـات. فـــأزمـــ­ة الـــغـــز­و الــــروسـ­ـــي ألوكـــران­ـــيـــا شكلت تحديًا للطرفن، مع تراجع أميركي ملحوظ في عاقته بالحلفاء األوروبـيـ­ن، وفتح ما يشبه «حربًا تجارية» وحمائية للصناعات األمــيــر­كــيــة، وبـنـفـس الـــقـــد­ر لـــم تـعـد الـصـن ضامنة دائمة للنمو االقتصادي العاملي.

كـذلـك كشفت أزمـــة الـطـاقـة بعد الــحــرب في أوكـــرانـ­ــيـــا عـــن مـشـكـلـة عـمـيـقـة فـــي صـفـوف األوروبـــ­يـــني، بمن فيهم الـشـريـكـ­ان األملـانـي ـ الــــفـــ­ـرنــــســ­ــي. فـــبـــيـ­ــنـــمـــ­ا عـــلـــقـ­ــت أملــــانـ­ـــيــــا فــي فــــخ االعـــتــ­ـمـــاد عـــلـــى الــــغـــ­ـاز الـــــروس­ـــــي، كـــان الـفـرنـسـ­يـون يتمتعون بنصيب هــائــل من الطاقة النووية لتوليد الكهرباء. واســتــطـ­ـاع مـــاكـــر­ون، بـعـد أن أصــبــح سجال الـطـاقـة أولــويــة فـي بـيـوت األوروبـــ­يـــني قبيل مــــوســـ­ـم الــــشـــ­ـتــــاء الــــحـــ­ـالــــي، بـــفـــضـ­ــل الـــحـــز­م الـحـكـومـ­يـة حـمـايـة املستهلكني مــن ارتــفــاع األسعار ونسب التضخم بصورة جنونية، ولــكــن ذلـــك جـــاء عـلـى حــســاب ديـــن حكومي أعلى، وهو يسجل منذ 2021 نحو %112.8 من الناتج املحلي اإلجمالي، بينما في أملانيا

شكل %69.3 من الناتج املحلي اإلجمالي. ويـــــتــ­ـــقـــــا­رب الـــــطــ­ـــرفـــــ­ان مـــــن حــــيــــ­ث اإلنــــفـ­ـــاق الــحــكــ­ومــي مـــن الــنــاتـ­ـج املــحــلـ­ـي اإلجــمــا­لــي، حـــيـــث تــنــفــق بــــاريــ­ــس %59 مــنــهــا وبـــرلـــ­ني ،%51 وفقا ألرقام املعهد الوطني الفرنسي لإلحصاء والدراسات االقتصادية وموقعي عاملنا في البيانات واقتصاديات التجارة ‪OUR WORLD IN DATA, INSEE.FR,(‬ ‪.)TRADING ECONOMICS‬

أوروبا المستقبل... سيناريو االعتماد على الذات

وشكل الـخـاف على دعــم حكومتي البلدين لـــلـــمـ­ــســـتـــ­هـــلـــكـ­ــني نـــقـــطـ­ــة خـــــــــ­اف. فــــحــــ­ني قــــرر املــســتـ­ـشــار أوالف شــولــتــ­ز فـــي خـــريـــف 2022 تخصيص حزمة اقتصادية ضخمة، بنحو 200 مليار يورو، لدعم عجلة االقتصاد وكبح التضخم وارتفاع األسعار، أثار ذلك امتعاضًا فرنسيًا ألنه لم يناقش معهم، وهو في عيون بــــاريــ­ــس يــشــكــل خـــطـــرًا بــمــنــح األملـــــ­ـــان مــيــزة تنافسية على حساب صناعاتهم الوطنية. كذلك برز خاف حني عارض األملان الفكرة الفرنسية املتمثلة فــي وضــع سقف لسعر الــــغـــ­ـاز فــــي جــمــيــع أنــــحـــ­ـاء أوروبـــــ­ــــا، لـكـنـهـا تــراجــعـ­ـت بــحــذر عــن مـعـارضـتـ­هـا تـلـك بعد الكثير من التحذيرات.

 ?? )Getty( ?? ماكرون وشولتز خالل االحتفال بالذكرى الستين للمصالحة بين فرنسا وألمانيا
)Getty( ماكرون وشولتز خالل االحتفال بالذكرى الستين للمصالحة بين فرنسا وألمانيا
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar