Al Araby Al Jadeed

الجنيه المصري والروبل الروسي

- شريف عثمان

أعلنت روسيا ضم الجنيه املصري لقائمة العمالت التي يحدد سعر صرفها بشكل رسمي، في البنوك الروسية، في خطوة احتفت بها وسائل اإلعالم املصرية التي تبحث عن قشة تتعلق بها، وسـط بحر ترتفع فيه موجة التضخم، ويقفز فيه سعر الـــدوالر مقابل الجنيه على فـتـرات متقاربة، وســط أزمــة مالية خانقة، لم تعرفها البالد خالل العقود األربعة األخيرة، على أقل تقدير. وبينما ال يجد املسؤولون غير الوعود يقدمونها للمصريني، طالبني منهم االنتظار لبعض الوقت، رغم عدم ثقتهم هم فيما ستؤول إليه األحــداث خـالل األشهر القادمة، اعتبر إعالميون الخطوة بمثابة «مسمار جديد في نعش الدوالر»، وعالمة على اقتراب انتهاء أزمة العملة األجنبية التي ضربت البالد منذ بداية العام املاضي. تناسى إعالميو مصر أمــورا عـدة، يسهل توقع تأثير الخطوة الروسية على مجريات األمور في مصر في ظل وجودها، أولها وأهمها حقيقة واضـحـة يعرفها كـل مـن عمل فـي أي بنك في مصر لبضع سنوات. فالحقيقة املؤكدة التي غابت عن إعالميي مصر، ومن سار على دربهم، هي أنه ال توجد عالقة مباشرة بني الجنيه املصري وأي عملة أخرى غير الدوالر. ال سوق للجنيه املصري مقابل الروبل، وال يتحدد سعر العملتني مقابل بعضهما البعض إال من خالل عالقة كل واحـدة منهما بالدوالر، والدوالر فقط، وليس حتى أي عملة أخرى، كاليورو أو الني أو الجنيه اإلسترليني. الحالة املصرية ليست فريدة، وإنما هي نتيجة طبيعية للنظام املالي العاملي الذي وضعت لبناته األولى في اعقاب انتهاء الحرب العاملية الثانية في عام ،1945 حيث تم االتفاق على أن يتم تسعير كـل عملة مقابل الـــدوالر، وأن تكون عالقة كـل عملة باألخرى – بخالف الـــدوالر – مـن خــالل عالقة وسعر كـل منها مقابل الـــدوالر األميركي فقط. لم تتغير األمــور خـالل العقود التالية، وال حتى مع عصر التضخم املتوحش الـذي ضـرب االقتصاد األميركي خــالل الفترة مـن 1965 وحتى ،1982 أو مـع تقديم اليورو في األسواق، أو مع ارتفاع سعر الني الياباني، أو اقتحام اليوان الصيني لألسواق العاملية. لـم تتغير الـقـاعـدة، وإنـمـا سمح بــتــداول بعض العمالت مقابل بعضها البعض بصورة مباشرة، في أسواق ضيقة أغلب الوقت، وبقي سعر كل منها مقابل الدوالر هو املحدد األكبر لسعرها مقابل بعضها البعض. وفي كل األحوال، لم يكن الروبل الروسي وال الجنيه املصري من العمالت التي وجدت لها تلك األســواق. لم يحدث ذلك في أقوى حاالت أي منهما أمام الدوالر، وبالتالي ال يمكن أن نتوقع حدوثه مع اقترابهما من أضعف حاالتهما على اإلطالق. ومع ورود أخبار بتفكير البنك املركزي الروسي في الحصول على قيمة صــادراتــ­ه ملصر بـالـروبـل الــروســي، تـصـور البعض أن في هذا تخفيفا من الطلب على العملة األميركية في مصر، ونسوا أو تناسوا أن املصريني ال يمكنهم الحصول على الروبل إال بطريقة من اثنتني: األولى هي املعمول بها حاليًا عند الحاجة لـشـراء الــروبــل، وهــي الخاصة بـشـراء الـــدوالر مـن الجنيه الـذي نملكه، ثم شراء الروبل، باستخدام الـدوالر الذي حصلنا عليه، من البنوك الروسية. أما الطريقة الثانية، فيمكن اللجوء إليها عند ورود الروبل إلينا في مصر، مع السائحني، أو من خالل تصدير بعض املنتجات أو السلع املصرية لروسيا، ووقتها لن نتمكن من الحصول على روبل، إال بقيمة ما بعناه لروسيا أو دفعه لنا سائحوها، لتتحول العملية إلى صورة شبيهة بعمليات املقايضة، التي كان تتم في عصور سابقة. تـسـتـورد مـصـر مــن روســيــا مجموعة مــن الـسـلـع واملـنـتـج­ـات، منها القمح وحبوب أخرى، ولحوم وبعض املدخالت التي تدخل في الصناعات البترولية. وقـال عضو باتحاد الغرف التجارية املصرية إن حجم واردات مصر من روسيا سنويا يقارب 7.5 مليارات دوالر، بينما الصادرات املصرية لها تمثل ما يقرب من 2 مليار دوالر! ولو طلبت روسيا من مصر دفع قيمة وارداتها بالروبل الروسي، فلن تجد مصر حال إال سد الفجوة من خالل شراء الفارق بني صادراتها إلى روسيا ووارداتها منها، ولن يمكنها ذلك إال إذا وفرت الثمن املطلوب دفعه بالدوالر، وهو ما يعني أن الخطوة ال يمكن أن تساعد في تخفيف الطلب على الدوالر في مصر، كما زعم البعض، ومنهم أعضاء في شعبة االستيراد باتحاد الغرف التجارية املصرية، أي الذين هم أولى بها صليًا. األرقــام املذكورة أعـاله ال تعني أننا خففنا الطلب على الـدوالر بقيمة صادراتنا لروسيا البالغة 2( مليار دوالر)، ألن استخدام هذا املبلغ في تخفيض إجمالي املبلغ املطلوب شــراؤه، من 7.5 مليارات دوالر إلـى 5.5 مليارات دوالر، يعني في نفس الوقت أننا حرمنا من 2 مليار دوالر كانت توجه إلـى البنك املركزي املصري. النتيجة إذا واحدة، سواء دفعنا قيمة وارداتنا بالدوالر األميركي، أو بـالـروبـل الــروســي، ولــن تتأثر األزمـــة فـي مصر باستخدام إحـــدى الطريقتني بـــدال مـن األخــــرى، ولــن تحل أزمـــة مصر إال بتقييد الـــــوار­دات بما الســتــيـ­ـراده ضـــرورة قــصــوى، أو بـزيـادة الصادرات، لتضييق فجوة امليزان التجاري، والحساب الجاري، وميزان املدفوعات، وأي حلول تتجاهل تلك الفجوات، أو تبحث عن حل بعيد عنها، لن تجدي. أقسم لكم. نقطة أخـيـرة، هي أن البعض تصور أن إدراج الجنيه املصري فـي العمالت املسعرة فـي البنوك الروسية يعني أن املستورد املصري ربما يستطيع دفع قيمة البضائع التي يشتريها من روسيا بالجنيه املصري، وهو ما ال أتصور أنه مطروح، أو يمكن أن يطرح قريبًا، ال في روسيا وال في غيرها. وللتذكرة، الجنيه املصري كان من العمالت املسعرة في البنوك في العديد من الدول العربية، وفي مقدمتها السعودية، بل وفي البنوك اإلنكليزية فـي بعض األحــيــا­ن، فلم يمنع ذلــك األزمـــات، ولم يسمح لنا بدفع قيمة الواردات بالجنيه املصري، ولم تتردد البنوك في الدولتني في إيقاف أي تعامل بالعملة املصرية مع كل اقتراب من أزمة عملة شهدناه خالل العقود األخيرة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar