Al Araby Al Jadeed

المؤشر العربي :2022 اعتدال في التديّن

- عبداهلل هداري

أصـــدر املـركـز الـعـربـي لـأبـحـاث ودراســـة السياسات نهاية ديسمبر/ كانون األول املـــاضــ­ـي بــرنــامـ­ـجــه لــقــيــا­س الـــــرأي الــعــام العربي «املؤشر العربي ،»2022 الذي قدم استطالعات وخالصات لجوانب حيوية عدة في املنطقة، من بينها دور الدين في الحياة العامة والحياة السياسية. في تصنيفه املتدينني في العالم العربي، خــلــص املـــؤشــ­ـر إلــــى وجـــــود ثــــالث فـئـات كبرى: املتدينون جدًا ،)%24( واملتدينون إلــــــى حــــد مــــا ،)%61( وغــــيـــ­ـر املــتــدي­ــنــني .)%11( يغلب على الفئة األولــى تعريف تدينهم بالتركيز على العناصر اآلتية: إقـــامـــ­ة الـــفـــر­وض والـــعـــ­بـــادات ،)%53( ثم تــلــيــه­ــا الــــصـــ­ـدق واألمـــــ­انـــــة .)%22( أمـــا املتدينون إلى حد ما، فيعرفون تدينهم بالتقارب بني إقامة الفروض والعبادات )%35( والصدق واألمانة )%32( وخدمة اآلخـريـن .)%17( أمــا الفئة الثالثة، وهم مـــن يــعــتــب­ــرون أنــفــســ­هــم غــيــر مــتــديــ­نــني، فـــهـــم أيـــضـــا مـــشـــاب­ـــهـــون لــلــفــئ­ــة الــســابـ­ـقــة فـــي الــتــقــ­ارب بـــني نــســب إقـــامـــ­ة الــفــروض والـــعـــ­بـــادات )%32( والــــصــ­ــدق واألمـــان­ـــة ،)%27( واملـــالح­ـــظ ارتـــفـــ­اع نـسـبـة حسن معاملة اآلخرين عندهم ،)%19( وحضور الفت لقيمة مساعدة الفقراء واملحتاجني .)%13( ويفيد «املؤشر» بأن نسبة الذين يــعــتــب­ــرون إقـــامـــ­ة الــــفـــ­ـروض والـــعـــ­بـــادات املعرف األساس للتدين آخذة بالتناقص، مقارنة باملؤشر العربي سنة .2014 كذلك أفـــاد بـــأن أكـثـريـة الــــرأي الــعــام الـعـربـي ال تقبل اآلراء املــتــشـ­ـددة فــي تفسير الـديـن أو التدين، بل تمثل تعددية في املواقف واالتــجــ­اهــات. وبــنــاء على هــذه النسب، السمات املميزة للمتدينني في املنطقة، بـاعـتـبـا­ر أن أغلبيتهم مـتـديـنـة إلـــى حد ما، هي التوازن ما بني عنصر العبادات وإقامة الفروض وحسن معاملة اآلخرين والصدق واألمانة، وهي تعني محافظة الـتـديـن عند عــامــة الــنــاس على طبيعته املعتدلة واملـتـواز­نـة، رغـم كل االتجاهات والـتـأثـي­ـرات التي تتجاذبهم نحو مزيد من التشدد أو االنغالق. ومن الالفت لالنتباه أيضا ارتفاع نسب حسن معاملة اآلخرين ومساعدة الفقراء واملـــحــ­ـتـــاجـــ­ني عـــنـــد الـــفـــئ­ـــة الــــتـــ­ـي عـــرفـــت نــفــسـهـ­ـا غــيــر مــتــديــ­نــة، الـــــذي نــفــهــم منه أنها فئة فاترة اإليمان فحسب، ومتدينة هـي األخـــرى إلــى حــد مــا، وإن بطريقتها الــــخـــ­ـاصــــة، لــكــنــه­ــا تــمــيــل إلـــــى تــعــويــ­ض هــذا الفتور باإلحسان وحسن املعاملة. وبمنطق «اليد الخفية» عند آدم سميث، عمل هذه الفئات داخـل املجتمع تفاعلي ومــتــبــ­ادل الــتــأثـ­ـيــر، يــمــنــح، فـــي الـنـهـايـ­ة، صورة عفوية إلى حد ما ومعتدلة للتدين فــي املـنـطـقـ­ة. وهـــي تركيبة جــد مساعدة على فهم طبيعة التدين الشعبي السائد دائما. ولكن، ما هي إفــادات املؤشر العربي عن حــضــور الـــديـــ­ن فـــي الــحــيــ­اة الـسـيـاسـ­يـة؟ لتحصيل أجــوبــة فــي ذلــــك، طــــرح ســؤال أفضلية تولي املتدينني املناصب العامة في الدولة؟ فكانت اإلجابة انحياز نسبة هامة مـن الـــرأي الـعـام إلــى قبول توليهم ذلك )%46( في مقابل رفض ،%48 وهي الــنــســ­بــة الـــتـــي اعــتــبــ­رهــا االســـتــ­ـطـــالع قد ارتفعت مقارنة باالستطالع­ات السابقة، ولــــــم يـــســـبـ­ــق أن ســـجـــلـ­ــت إال فــــي تــقــريــ­ر ،2014 غـيـر أن فـهـم املـسـألـة يـحـتـاج منا إلــــى اســتــحــ­ضــار مــســألــ­ة أســاســيـ­ـة هـنـا، وهـــي تــذكــر انـحـيـاز أغلبية الــــرأي الـعـام الـــعـــر­بـــي إلـــــى تـــعـــري­ـــف الـــتـــد­يـــن بــســمــا­ت أخــالقــي­ــة وقـيـمـيـة، فـيـكـون بــذلــك تفسير املــوافــ­قــة الـجـزئـيـ­ة عـلـى تــولــي املتدينني هذه املناصب، يقصد بها الذين يتحلون بصفات الصدق واألمانة وحسن معاملة اآلخرين ويهتمون بالفقراء واملحتاجني. وهي نتيجة طبيعية تؤكد مجددًا اعتدال الرأي العام العربي دينيا، وتمييزهم بني الجوانب األخالقية والقيمية ذات األثـر على املـجـال الـعـام، والـجـوانـ­ب التعبدية الــصــرفـ­ـة ذات األثــــر الـــفـــر­دي، وإن كـانـت هذه األخيرة ضرورية الكتمال الجوانب العملية ورسوخها عند املتدين، لكنها عندما تغلب من دون أن تترافق بالجانب العملي املرتبط باآلخر، تدفع نحو تدين مـــعـــزو­ل ومـــتـــع­ـــال. ولـــهـــذ­ا، أفـــــاد الـتـقـريـ­ر بانخفاض نسب حسن معاملة اآلخرين ومـــســـا­عـــدة الـــفـــق­ـــراء واملــحــت­ــاجــني وصـلـة الرحم عند من عرفوا أنفسهم باملتدينني جـــــــدًا. وقـــــد يـــســـاع­ـــدنـــا عـــلـــى الـــفـــه­ـــم هـنـا إدراكنا أهمية مؤسسات التقليد الديني داخل مجتمعاتنا، الذي يحافظ على تلك التكاملية في التدين، واالتزان واالعتدال، والذي ال يزال، رغم كل شيء، هو املسيطر على الساحة الدينية. أما السؤال الثاني، فكان عن تأييد فصل الدين عن الدولة؟ ويفيد املؤشر العربي بــــأن نــســب املـــؤيــ­ـديـــن بـلـغـت ،%48 وهــي نـــســـبـ­ــة ال يـــســـتـ­ــهـــان بـــهـــا حـــســـب وصـــف الـــتـــق­ـــريـــر، رغـــــم تــــقــــ­ارب نـــســـب املـــؤيــ­ـديـــن واملـــعــ­ـارضـــني طــــوال الـــســـن­ـــوات املــاضــي­ــة، حــيــث بــلــغــت نـسـبـتـهـ­م %43 فـــي ،2011 آخـــذة فــي االرتـــفـ­ــاع فــي مـسـار تصاعدي إلــى أن بلغت %53 فـي ،2016 لتنخفض مجددًا إلى %49 في .2020/2019 ويرجع

أكثرية الرأي العام العربي ال تقبل اآلراء المتشددة في تفسير الدين أو التدين، بل تمثل تعددية في المواقف واالتجاهات

«املــــؤشـ­ـــر» ســبــب ارتـــفـــ­اع نـسـبـة مــؤيــدي الــفــصــ­ل إلــــى انــخــفــ­اض نــســبــة الـــذيـــ­ن لم يـحـددوا رأيــا تجاه املسألة، بمعنى ميل هـذه الفئة نحو تأييد الفصل سنة بعد أخــــرى، وخــروجــه­ــم مــن دائــــرة الـــتـــر­دد أو الــصــمــ­ت. ويــمــكــ­ن أن نـضـيـف أن الـــتـــر­دد الـــذي كــان تـجـاه اتـخـاذ مـوقـف مــا، مــرده التزامن مع تجارب سياسية في املنطقة يتميز أصحابها بالطابع الديني، التي لم تكن عند مستوى تطلعات كتلة كبيرة مــن الــــرأي الــعــام الــعــربـ­ـي. كـذلـك انـحـازت الغالبية إلى قبول مقولة: «يجب أال يؤثر رجـال/ شيوخ الدين في كيفية تصويت الناخبني» ،)%75( وقبول مقولة «ال يحق للحكومة استخدام الدين للحصول على تأييد الناس سياساتها» .)%72( وإذا أردنــــا أن نـسـحـب هـــذه الـخـالصـا­ت وســابــقـ­ـاتــهــا ونــدمــجـ­ـهــا فـــي ســيــاق فهم تــــــحــ­ــــوالت املـــجـــ­تـــمـــعـ­ــات الــــعـــ­ـربــــيــ­ــة، فــــإن املـــالحـ­ــظ أن الـــتـــد­يـــن الـــغـــا­لـــب يــمــيــل إلــى التمييز العملي، الــذي ال يعني الفصل، بـل يعني حـرصـا على امـتـالك الشخص حضورًا قيميا وأخالقيا في أي منصب أو مـسـؤولـيـ­ة كيفما كــانــت، مــن دون أن تـغـلـب عــلــى جـــانـــب الـــكـــف­ـــاءة والــتــجـ­ـربــة. ولــــهـــ­ـذا مـــــال أغـــلـــب­ـــهـــم إلـــــى عـــــدم اعـــتـــب­ـــار الشخص غير املتدين سيئا، حيث رفض أغـــلـــب­ـــهـــم هـــــذه املـــقـــ­ولـــة .)%78( وتـــؤكـــ­د املــســأل­ــة أيــضــا أن الــحــالـ­ـة الـديـنـيـ­ة آخـــذة في االنسجام شيئا فشيئا مع متطلبات الحياة العامة الحديثة، من دون أن يعني ذلك تقويضا للدين أو تجاهال أو انتهاكا ملـبـادئـه. وإذا أضفنا موقف الـــرأي العام مــن املـخـالـف ديـنـيـا، حـيـث وافـــق أغلبهم )%57( على قبول مقولة «ليس من حق أي جهة تكفير الذين ينتمون إلى أديان أخــــرى»، فــإن الــصــورة سـتـقـدم رأيـــا عاما عـربـيـا بـلـغ درجـــة مهمة مــن الـنـضـج في اختياراته وأحكامه، بناء على توافق بني شبكة مصالحه وقيمه الدينية. وأخيرًا، يمكن القول إن املالحظ على دور الدين فــي هـــذا الــتــقــ­ريــر، تــــوازن كـفـتـه مــع بقية الـــعـــن­ـــاصـــر األخــــــ­ــرى فــــي حـــيـــاة املـــواطـ­ــن العربي، بشكل ال يجعل الدين متحكما بـــاملـــ­طـــلـــق فـــــي حـــيـــات­ـــهـــم كــــمــــ­ا يـــــصـــ­ــوره بعضهم، بــل يتموقع كـطـرف فــي سياق تـدافـعـات مـتـبـادلـ­ة بــني جــوانــب مـتـعـددة فـــي واقــعــهـ­ـم املـعـيـشـ­ي، يـــحـــاو­ل كـــل جـــزء منها الـقـيـام بـــدوره بـنـاء على حاجيات املواطنني وتبدالت واقعهم.

 ?? (عمر )Getty/داهج ?? صالة أمام الجامع األزهر بالقاهرة في رمضان الماضي
(عمر )Getty/داهج صالة أمام الجامع األزهر بالقاهرة في رمضان الماضي

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar