Al Araby Al Jadeed

هل نحن حقًا عاجزون عن حكم أنفسنا؟

- مروان قبالن

ليس تفصيال أو خبرًا عابرًا إيفاد مجموعة من املحققني األوروبيني للتحقيق مع حاكم مصرف لبنان املركزي رياض سالمة بشأن قضايا فساد واختالسات تصل قيمتها إلى 330 مليون دوالر. هذا يعني أن السلطة القضائية اللبنانية، وهي إحدى فروع سلطة الدولة، قد عجزت عن أداء مهامها في هذه القضية التي تشغل بال الرأي العام اللبناني، كما عجزت قبلها عن التعامل مع قضية تفجير مرفأ بيروت، وقبلها قضية ضياع أموال املودعني في املصارف، ليعكس ذلك فشال عامًا للدولة في فرض هيبتها وحماية حقوق مواطنيها نتيجة تعاضد شبكات الفساد ونشوء سلطات تنافس سلطة الدولة أو حتى تعلو عليها. وال تقف حدود فشل الدولة في لبنان طبعًا عند عجز السلطات التي تمثلها عن فرض هيبتها وبسط سيادتها على إقليمها، رغم أن هذه تعد أبرز مظاهر الفشل، بل تتخطاه إلى قصور شديد في أداء وظائفها األخــرى، وهـذه تشمل، إلى جانب فرض األمـن واحتكار االستخدام املشروع للقوة على أراضيها، تقديم الخدمات األساسية (صحة، تعليم، فرص عمل .. إلخ)، وحماية الحقوق املدنية الرئيسة ملواطنيها. إذا عجزت الدولة عن أداء هذه الوظائف تسمى دولة فاشلة، لكن انتقال هذه الوظائف إلى فاعل من غير الدولة، بحيث يصير الحصول عليها منوطا بغيرها، يعني أنـهـا (الــدولــة) انتقلت مـن مرحلة الفشل إلــى مرحلة االنهيار، وهي الصيغة النهائية للفشل. لبنان إلى جانب دول عربية أخرى (سورية، وليبيا، واليمن، والصومال، وغيرها)، بلغت هذه املرحلة، إذ باتت الدولة عاجزة عن االضطالع بمسؤولياته­ا، تخلت عن أداء مهامها لغيرها، أو نازعتها فيها سلطات دونـهـا. هــذا يعني أن نخب هــذه الـــدول فشلت مـن دون شـك فـي بناء الــدولــة، أو في الحفاظ على ما وصل إليها من هذه الدولة، وأن الجزء األكبر من الفشل كان بأيديها وتتحمل وحدها املسؤولية عنه. مع ذلك، ال ينبغي استغالل الحال التي وصلنا إليها، والتي تتشارك فيها معنا دول عديدة، بما في ذلك دول أوروبية (أوكرانيا مثال التي تعد انقساماتها املجتمعية وانتشار الفساد بني نخب الحكم فيها أحد أسباب أزمتها الراهنة)، كما يحاول أن يفعل بعضهم، الستعادة مقوالت راجت في فترات سابقة تشكك في قدرتنا وقدرة شعوبنا على حكم نفسها، بزعم أن حالنا كان أفضل في ظل االستعمار الغربي. ويردد بعضهم هذا الكالم من باب األسف على الحال التي وصلنا إليها، لكن آخرين يرددونه في محاولة لتبرير االستعمار أو حتى الدعوة إلى عودته، غير مكترثني بجرعة العنصرية وتقليل احترام الذات املنطوية عليها مثل هذه املقوالت، التي ظهرت أول ما ظهرت في أوروبا قبل نحو قرنني، لتبرير نزعات بعض دولها إلـى االستعمار واستعباد شعوب الــدول والحضارات املختلفة عنها، وهي، منذ ذلك الحني، تعلو وتخفت، حسب الظروف واألزمـــا­ت. تؤمن هذه املقولة بتفوق عرق أو حضارة على باقي األعـراق والحضارات، وترى أن مهمة الغرب الحضاري (الفرنسيون تحديدًا كانوا يؤمنون بهذا) تحضير الشعوب غير املتحضرة عبر تغيير ثقافتهم ولغتهم إذا أمكن (انصب تركيز البريطانين­ي أكثر على العوائد املادية لالستعمار من دون النظر إلى الثقافة واللغة والدين لدى شعوب املستعمرات). بعدما خفتت عقودًا عديدة في فترة التحرر الوطني واالستقالل، عادت هذه املقوالت لتطفو مجددًا على السطح مع الشروع بالتحضيرات لغزو العراق، وقد عبر عنها بقوة تيار املحافظني الجدد في الواليات املتحدة ونظرائهم في بريطانيا، حني حاولوا تبرير غزو العراق ومجمل ما سميت حينها «الحرب على اإلرهــاب» بالحاجة إلى «دمقرطة» العالم العربي واإلسالمي، ألن بقاءه على حاله يمثل «تهديدًا» لدول الغرب محاصصة طائفيّ مقيت، إلى انزواء هذه األصوات لتعود ِوترتفع بعد فشل ثورات الديمقراطي «املتحضر». دفع الفشل في العراق، حيث استبدل نظام استبدادي بنظام الربيع العربي وانهيار بعض الدول املتصلة بها. من األجـدى، ربما، بدال من ترديد مثل هذه املقوالت البائسة التي تعبر عن شعور بالنقص والعجز تجاه اآلخر «املتفوق»، دراسة أسباب الفشل ومعاودة املحاولة، علمًا أن هذا اآلخر املتفوق كان قبل أن تطل عليه «شمس الحضارة» في وضع أكثر بؤسًا من وضعنا اليوم. نحتاج فقط إطاللة سريعة على التاريخ.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar