Al Araby Al Jadeed

نسائم الربيع

- نجم الدين خلف اهلل

َّ لم يعد العربي املتولد من نسمات الربيع العربي هو نفسه الذي عاش طيلة الـعـقـود الـسـابـقـ­ة تحت وطـــأة إعـــام حـكـومـي مـــدجـــن، تقتصر محتوياته التلفزية على تمجيد «الـزعـمـاء» واإلشـــاد­ة بإنجازاتهم بعد اإلصـغـاء إلى

ّّ ّّّ توجيهاتهم. ولن يقنع هذا العربي بما يقدمه اإلعـام التقليدي من قوالب بالية وطرق روتينية في التواصل املرئي، فضا عن محتويات مكررة تفتقد إلى التأصيل الفكري بسبب من الرقابة الصارمة والنفس التبجيلي. لذلك، كان ظهور «التلفزيون العربي»، سنة ،2015 شبه «ضرورة تاريخية»، أماها عمق التغيير الذي أسفر عنه «الربيع»، فراعى بمقتضاها القطائع التي حدثت في آفـاق االنتظار والتي تشكلت بعد سقوط األنظمة البائدة وقيام «كون تواصلي» مختلف، هيمنت عليه الشبكات االجتماعية الحرة، رديفة لإلعام الرسمي ومنافسة له، وسيطرت على نسيجه اليومي آليات الذكاء االصطناعي، فتغيرت خارطة الوعي وأنماط اشتغاله بعد أن تسارعت وتائر نقل املعلومات وتراكمت طبقاتها. أمام سلسلة هذه التحديات التي ال تنقضي، كان على «التلفزيون العربي» أن يتحرك لرفعها ضمن رؤيـــة معرفية متكاملة، هدفها تفكيك خطاب

ّْ املـركـزيـ­ة األوروبــي­ــة ونــزع الـــروح االستعماري­ة املتلبسة باإلنتاج الفكري، عربيه وغربيه، إضافة إلى قراءة التراث العربي-اإلسامي نقديًا، دون هضم لحقوِقه وال استاٍب في مقدساته. وفي ذات اآلن، فتح املجال رحبًا للعقل العربي وإنتاجاته الفكرية واإلبداعية، وليست بالعزيزة وال النادرة، كل ذلك في توضيب مرئي معاصر جــذاب، يشد مشاهدًا باتت «أعينه مفتوحة» ووعيه أحد. وهكذا، غدا «التلفزيون العربي» روح هذه الرؤية املعرفية صـورة وصوتًا، ينقلها ملمحًا وصــدى، حاما عبر األثير مشاغل عرب ما بعد «الربيع» واهتمامات مثقفيهم ومبدعيهم وإعامييهم، وقد ظهروا جليًا وأخيرًا بعد ما أتاحت لهم هذه الشاشة السخية أبوابها وبعد أن أزيحت وجوه السلط البائدة وأبواقها التي طاملا مألت قنوات اإلعام املحلية بمحتويات التدجني والتمجيد في تكرير لا-ثقافات السلطات وخوائها.

َْ استثمار كـبـيـر، كــبــره بــقــدر خــطــورة الـتـحـديـ­ات ونـبـالـة األهــــدا­ف: تحرير

ُّ املشاهد العربي من أوهام ضعفه وتبعيته، وتوعيته بأنه قادر، كأقرانه في الـتـاريـخ، على صنع التاريخ وإعطائه معنى ال يخالف قيم «الـرسـالـة» وال يجحد تحوالت الواقع وحركته الدائبة، يعي كونية القيم ونسبيتها، فيبني مع لداته من بني اإلنسان، فضاءاته اإلعامية، ينحتها بيديه في ثقة وبهاء،

ٍّ كما يفعل «التلفزيون العربي» حني يعرض لوحات من هذا البهاء الذاتي الــذي تزخر به عقول الـعـرب وأرضـهـم ومجتمعاتهم الخصيبة. عطاء لن تضن به هذه العقول في العقود القادمة، نشاهده ونسمعه في حلة تليق بما تقدمه أعرق املؤسسات اإلعامية؛ عطاء ينساب من شاشة صغرى تنفتح على العالم الكبير لتشيد وعيًا وليدًا به وبرهاناته التي يفككها في جرأة

َِ وثقة، ويكفي هذا ثمرة للربيع العربي ونسائمه.

(كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس)

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar