هل نعلّم ما يناقض النجاح؟
كانت املشكلة األساسية التي تواجه التعليم هــي كيف نــقــدم تعليما يـقـود إلـــى النجاح في الحياة؟ وكانت استراتيجيات التعليم والثقافة املدرسية تركز على خـالف ذلـك. .. صحيح أن بعض الجهود اهتمت باملناهج، وصــارت تقدم مهارات أو معلومات ومـواد أكــــثــــر ارتــــبــــاطــــا بـــالـــحـــيـــاة مــــثــــل: األخـــــــالق، والــتــعــلــيــم املـــهـــنـــي، ومــــهــــارات الــتــعــلــيــم، أو العلوم املنزلية، لكن ثقافة املدرسة والتعليم وقيمها بقيت بعكس ذلـــك تـمـامـا، وبقيت املدرسة في واد جاف بعيد عن أنهار الحياة الدافقة. ففي املدرسة نتعلم الطاعة والهدوء والــتــنــفــيــذ، بـيـنـمـا تـتـطـلـب الـــحـــيـــاة عـــنـــادا وصخبا ورفضا! ما زال املعلمون يشيدون بالطالب املطيع الهادئ، ويهنئون أهله بذلك. وفــي املــدرســة، يتعلم الطلبة التركيز على الذات، وعدم العمل مع اآلخرين، فالواجبات فردية، والتعاون مع اآلخرين ممنوع، وعدا ذلك يعد غشا، ومن غشنا فليس منا. وفي املـدرسـة، نتعلم أن نبعد عن الخطأ، بل كل خطأ يرتكبه طـالـب يعاقب عليه، ويحسم مــن رصــيــده! بــل مــن تــــزداد أخــطــاؤه يرسب في صفه. وفـي املـدرسـة، نتعلم الدقة بعدم الخروج عن النص، فالكتاب مقدس، وكذلك كالم املعلم، فليس مطلوبا من أحد غير ذلك أو خالف ذلك. وفي املدرسة، نتعلم أن نبحث عن الصحيح الــــواحــــد، وهـــــذا الـصـحـيـح واحـــــد فـــقـــط، فال ازدواجية وال تعددية: ال تروا إال ما أريكم أنا. وفي املدرسة نعلم املمنوعات أكثر مما نعلم املــســمــوحــات، فــالــصــوت مــمــنــوع، والـحـركـة ممنوعة، واالعتراض ممنوع، وحتى ترتيب الشعر ممنوع. وفي املدرسة نعلم ثقافة: إما أو، فـأنـت أمـــام خـيـار واحـــد مــحــدد، وغالبا مـا يكون الخيار بـن صحيح نمطي وآخـر مــغــامــر، فيميل الـطـلـبـة إلـــى عـــدم املــغــامــرة. وفي املدرسة نعلم التنافس واألنانية، وهي
نــتــاج عـــدم الــتــواصــل واالنـــفـــتـــاح، والـتـنـوع والتعددية! هذه هي قيم املدرسة بشكل عام، واملدرسة العربية بشكل خاص. صحيح أن بعض املـدارس املتقدمة في كل دولة عربية قد اتجهت نحو رفض هذه القيم، وصارت تؤمن بمجتمعات التعلم، والحوار والنقاش، وعدم قبول املعلومات والحقائق واآلراء من دون فحصها، لكن هذا كما قلت ليس شائعا في املــدارس العربية املنتشرة في أي مكان. وطبعا، انتقلت هذه القيم االجتماعية إلى املدرسة بحكم الضغط املجتمعي، تعلمها الطلبة، وأعــادوا نقلها إلى املجتمع سليمة كما هي، إذن: كيف يتطور املجتمع إذا كانت املدرسة تعيد إليه البضاعة نفسها؟ وعـــودة إلــى الـسـؤال الرئيسي: هـل نعلم ما يـنـاقـض الــنــجــاح فـــي الــحــيــاة؟ قــديــمــا جـــدا قال شوقي: وكم منجب في تلقي الدروس/
ٍِ تلقى الـحـيـاة فلم يــنــجــب. فما بـالـنـا اليوم بعد كل التغيرات ما بعد شوقي، ووصولنا إلـى حياة جديدة بالكامل تعتمد املغامرة والـــجـــرأة والــتــجــريــب، واإلفـــــادة مــن الخطأ، واملــشــاركــة والـعـمـل مــع اآلخــــر، والـثـقـة فيه، وهـــــذه قـــيـــم تــنــاقــض مــعــظــم قــيــم املـــدرســـة. واملـــدرســـة مـطـالـبـة بـالـتـجـدد إذا مــا أرادت املحافظة على دورها. هناك أهال يرفضون املدرسة، وال يرسلون أبناءهم إليها، وهناك تــهــديــدات رقـمـيـة ملـنـاهـج املـــدرســـة، وهـنـاك تـــهـــديـــدات ديــمــقــراطــيــة وحــقــوقــيــة لـثـقـافـة املـــدرســـة، وهــنــاك تــهــديــدات قيمية حياتية لـــلـــمـــدرســـة: فــلــلــحــيــاة اآلن وفـــــي املـسـتـقـبـل معايير نجاح مختلفة عما في املدرسة، فما معايير النجاح في الحياة؟ تتطلب الحياة القدرة على االبتكار، والقدرة على تصميم العمل الخاص، وعدم االعتماد عـــلـــى وظــــائــــف جــــاهــــزة ومـــعـــلـــبـــة. تـتـطـلـب الــحــيــاة الـــقـــدرة عـلـى الـتـجـريـب واملــحــاولــة والبحث، وارتــكــاب األخـطـاء وعــدم الخوف منها. تتطلب الـقـدرة على رؤيــة األمــور من زوايــــا جــديــدة، فـلـم تـعـد الحقيقة الــواحــدة
تتطلب إدارة المعرفة كل مهارات اإلبداع والتجديد والخروج عن مألوفاٍت كثيرة
أو اإلجابة الواحدة هي الصحيحة، فهناك إجــــابــــات تــســتــحــق أن نــفــكــر فــيــهــا أيـــضـــا. تتطلب أن نميز بــن اسـتـهـالك املعلومات وإنــتــاجــهــا، أو بـــن اجـــتـــرار املــعــلــومــات أو تجديدها. تتطلب إدارة املعرفة كل مهارات اإلبـــداع والتجديد والــخــروج عـن مألوفات كثيرة، فهذا التباين بن متطلبات املدرسة الـحـالـيـة ومـتـطـلـبـات الـحـيـاة لــن يــكــون في صــــالــــح بــــقــــاء املــــــدرســــــة، ولــــــن يـــســـاعـــد فـي جعلها ميدانا الختبار الحياة والتخطيط للمستقبل. قد تكون هذه املتباينات مألوفة، أو في ذهن بعض التربوين، لكن التحدي هـو فـي الــقــدرة على إحـداثـهـا. نجاحنا في إحــــداث هـــذه الـتـغـيـرات مــرهــون بـمـا يـأتـي: وضــع ثقافة جـديـدة للمدرسة تستند إلى قيم الحياة الجديدة، وتنحاز إلى الحاضر واملستقبل. إنـتـاج معلم جـديـد، بعيدا عن مكاسبه التاريخية، املتمثلة بمن علمني حـــرفـــا كــنــت لـــه عــــبــــدا، وثـــقـــافـــة االســتــعــالء املـعـرفـي، واإلحــســاس بالظلم االجتماعي. .. وهــــذا يـتـطـلـب عــمــال جــــــادا، فـمـتـى نـبـدأ؟ تطورت كل القطاعات اإلنسانية، من صحة، وهندسة، وقانون، ورياضة، وغيرها، فمتى نشهد تطورا تربويا؟