Al Araby Al Jadeed

فيرجينيا وولف والتأسيس لمعنى الكتابة

- عبد الحكيم حيدر

مــرورًا بكتابها الرائد «الـقـارئ الـعـادي» («الـقـارئ العام» في ترجمات أخــرى)، ومن قبله مقالها «الرواية الحديثة»، في ،1919 ثم «آراء في فن الرواية»، نحن أمام كاتبة تتأمل كتاباتها وكتابات اآلخرين بنباهة قارئ ملم، يتعذب روحيًا في سبيل إتقان حرفته وتأملها من خالل تاريخ الكتابة ومنجزها في قـرون، وذلك ليس من خالل مهنٍة نقديٍة داخل أسوار الجامعة، للحصول على درجة وظيفية أو أستاذية في قسم بكلية، بـل مـن خــالل قناعٍة روحـيـة، وتـأّمـل عميق لطبيعة الشخصيات واألحـــدا­ث ورصد األجواء واملواضعات والقالع والحصون واملعمار السائد ما بني القرية واملدينة وتحديثهما، كاتبة ال تعبر أبدًا الكتابة سهوًا، مكتفية فقط بموهبتها اآلسرة، ولكنها تلّم بمجمل املنجز الكتابي وتتأّمله مرارًا. وأحيانًا تسخر من بالهة املوهبة سخرية هـادئـة، وكأنها تتهكم على ألعاب عصافير خانتها الفطنة في أثناء عبور البحر، سخرية هادئة ورقيقة على طقوس الكتابة التي تحمل أطنان اليقني الصلب، من دون أن يعتريها أي شك. بالطبع، تختلف القناعات الروحية من قرن إلى قرن وأحيانا من جيل إلى جيل، إال أن فطنة الكتابة مقام آخر وحساسية تحمل ذبذبات روح الكاتب، وكانت فيرجينيا وولف تحمل قدرًا هائال من تلك الحساسية التي جعلتها في عداد املتفرد، كتابة وتنظيرًا، من دون معارك دامية في حقول النقد ودون حجارة أو سهام، مكتفية بكتاباتها وخيباتها ورحيلها األليم. الكتابة عند فيرجينيا ترتبط إلى حد كبير بمزاج صاحبها وتقلباته وتلك األهوال التي مرت بأوروبا خالل حربيها، األولى والثانية، كانت فيرجينيا تنصت لدبيب الخراب في قلب القارة وقلب النخب املهيمنة مجتمعيًا، والتي كم هللت للحرب ومـا تــزال، حتى وصـل مصير الـقـاّرة إلـى حافة الخراب، وصار جسدها الرقيق وكأنه هو املستهدف كرمز أو كقربان، فداء لروحها املعذبة على األقل، فمشت إلى املوت هادئة، للماء وحده، مبتعدة عن النار، هل يعيد العالم اآلن مرة ثانية تلك األهوال التي ذاقتها هي من قرن؟ لكل كاتب بالطبع مهارته في ملء الصفحات وفقا ملا وصل إليه من قاموس الكلمات الذي يملكه، ووفقا ملا وصل إليه من عبقرية البناء والحبكة وتحريك الشخصيات على الورق، مهارة عرق وكد وثقافة ومعرفة ومناطحة مع الفن سنوات. نظرت فيرجينيا إلى عالم الكتابة كجراح يحب املهنة، ويتفرج على موظفيها وأطقم عملياتها وباقي معارفها األخرى في تأمل النبهاء املخلصني. وكأنها قفزت إلى قرن إلى األمام، بعيدا عن زحام املهنة، كي تكتب أطيافها التي تخاتلها أو تراها فجأة وتهرب منها، لكنها ال تستطيع أبدًا الفكاك منها، وكأنها ذلك الكابوس الجميل الذي سوف يحكي لها كل شيء بطريقتها هي. كانت عني فرجينيا وولف وكأنها مصوبة ناحية الظالل، ظالل الحكاية، وظالل الشخصيات، وظالل األحــداث أيضًا من دون يقني قاطع باإلمساك بأول الخيط، إذ ال خيوط تمسك بها، فكل الخيوط لديها غير متماسكة وغير منطقية. كانت فيرجينيا وولف تهوى املفاجأة للشخصية، وإعادة محاولتها لفهمها، كما حدث مع شخصية السيدة براون، فهل مسكتها، أم تركتها على قارعة طريق، كي يلحقها كل من يحاول اإلمـسـاك بتلك السيدة في ذلـك القطار. وقـد تكون بــراون شخصية حقيقية، أو تم اختراعها. وقد تكون أطياف براون هي أطياف فرجينيا وولف الهاربة منها وتنتظرها من سنوات على حافة النهر، حتى التقت بها في املاء بعد الغرق، وقد ارتاحت من أهوال العالم والناس والحروب ووجع الكتابة. هل كانت فيرجينيا ساعتها تدرك أن الكتابة هي األخرى مجرد حرب ليست على أبــواب أوروبــا فقط، بل على أعتاب بيتها وغرفتها الوحيدة «مـجـازا»، وقلبها فائق الحساسية، حرب غير مضمونة العواقب، حرب ما بني الواقع والخيال، ما بني املوت غرقًا أو تحت القنابل، حرب ال تدرك كيف يتم نسج خيوطها، وأين، كالكتابة تمامًا، كذلك األلم الذي ظل محدقًا بها قبل أن تلقي نفسها للماء في صحبة أخيرة لبعض أحجار أثقلت جيوبها كي تساعدها على الغرق.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar