الدبلوماسية القطرية والملف األفغاني
على الرغم من استمرار االنشغال العاملي بتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، تـــواصـــل الـسـيـاسـة الـقـطـريـة جــهــودهــا في إعــــادة تـذكـيـر الــــدول بــضــرورة عـــدم إهـمـال الــقــضــايــا واألزمـــــــات الـــدولـــيـــة األخــــــرى؛ إذ تنشط الدوحة في محاوالتها إعـادة امللف األفغاني إلى «األجندة الدولية»، وتستمر، عبر دبلوماسيتها «الوقائية»، في التحذير من خطورة ترك أوضاع أفغانستان، تنزلق مجددا نحو صراع داخلي، يعمق «املأساة األفـــغـــانـــيـــة»، ويــــــــؤدي، فـــي املــحــصــلــة، إلــى تحويلها إلـــى «بــــؤرة عـــدم اســتــقــرار»، بما يـــهـــدد مــصــالــح الــــــدول املـــــجـــــاورة، ويـعـيـد أفغانستان إلــى «الحلقة املـفـرغـة» نفسها مــن إضــعــاف الــبــاد وتفكيكها، عـلـى مــدار الـــعـــقـــود الــخــمــســة املـــاضـــيـــة، عـــبـــر هـيـمـنـة ثـاثـيـة «االضـــطـــراب الــداخــلــي، واحـتـضـان حركات راديكالية عنيفة/ عابرة للحدود، واستمرار الصراع الدولي حول أفغانستان مـــع تـــضـــارب ســيــاســات الـــقـــوى اإلقـلـيـمـيـة بـــشـــأنـــهـــا». وفـــــي إطــــــار تــحــلــيــل الــســيــاســة الـــقـــطـــريـــة تــــجــــاه أفـــغـــانـــســـتـــان ومــســتــقــبــل الـــصـــراع الـــدولـــي/ اإلقـلـيـمـي حــولــهــا، ثـمـة أربــــــع مـــاحـــظـــات؛ أوالهـــــــا تــتــعــلــق بـسـعـي قطر إلــى إقــنــاع مختلف األطــــراف بأهمية وقف تدهور األوضاع األفغانية، نظرا إلى خــطــورة تداعياتها على اإلقـلـيـم والـعـالـم؛ إذ عـمـد وزيــــر الـخـارجـيـة الــقــطــري، محمد بن عبد الرحمن، إلى تذكير املجتمعني في املــنــتــدى االقـــتـــصـــادي الــعــاملــي فـــي دافـــوس بـــهـــذه الـــقـــضـــيـــة، عـــلـــى الــــرغــــم مــــن انـــتـــقـــاده الصريح سياسات حكومة حركة طالبان، سيما قــرارهــا )2022/12/24( حـظـر عمل الـنـسـاء فــي مـنـظـمـات اإلغـــاثـــة والتحاقهن بالجامعات واملدارس الثانوية. ولــعــل هـــذا يــوضــح سـيـاسـة قـطـر القائمة عــلــى أهــمــيــة االســـتـــمـــرار فـــي الــــحــــوار مع مسؤولي حكومة «طالبان»، بغض النظر عـــن االعـــتـــراضـــات عـلـى سـيـاسـاتـهـا، بـــدال مـن املـقـاربـة اإلقصائية الـتـي تعكس ميل واشـــنـــطـــن (وأطــــــــراف غــربــيــة كـــثـــيـــرة) إلــى عزل/ معاقبة «طالبان»؛ إذ تقدر الدوحة أن حاجة الحركة إلى اعتراف املجتمع الدولي ودعمه، ستؤدي إلى «عقلنة» سياساتها، ولـــو فــي املـــدى الـبـعـيـد، عـلـى النقيض من سياسة العقوبات التي قـد تأتي بنتائج عكسية تماما. ويكشف تحليل كلمة أمير قطر، تميم بن حمد، أمام الجمعية العامة لـأمـم املـتـحـدة ،)2021/9/21( أن مقاربة باده مللف أفغانستان ارتكزت على ثاثة أمور؛ أولها تعزيز مسار الدوحة لتحقيق تسوية شاملة فــي أفـغـانـسـتـان. وثانيها توصيف قضية أفغانستان بأنها «ليست مسألة انتصار وال هزيمة، بل مسألة فشل فـــــرض نـــظـــام ســـيـــاســـي مــــن الــــخــــارج بـعـد 20 عـــامـــا». وثـالـثـهـا الـفـصـل بــني الـخـاف الـسـيـاسـي مـــع حــركــة طــالــبــان واســتــمــرار تقديم املساعدات للشعب األفغاني. تــتــعــلــق املـــاحـــظـــة الــثــانــيــة بــاســتــمــراريــة الــوســاطــات الـتـي تـقـوم بـهـا قـطـر فــي عـدة ملفات إقليمية ودولية؛ فقد تحولت هذه الوساطات، (إضافة إلى «دبلوماسية إدارة األزمات»، وبذل الجهود الحميدة لتقريب مــــواقــــف أطــــــــراف الــــصــــراعــــات اإلقــلــيــمــيــة والدولية من بعضها)، إلى جزء من أدوات السياسة الخارجية القطرية؛ إذ تواصل الـــدوحـــة حــراكــهــا فـــي األزمــــــات اإلقـلـيـمـيـة
والــدولــيــة، خـصـوصـا الـتـي تــؤثــر فــي أمن منطقة الخليج العربي واستقرارها. وغـــنـــٌّي عـــن الــبــيــان أن الــوســاطــة الـقـطـريـة فــي املــلــف األفــغــانــي تــحــديــدا لـيـسـت وليد الــلــحــظــة؛ إذ تــعــود إلـــى يــونــيــو/ حــزيــران 2013 عــلــى األقــــــل، حــيــنــمــا جــــرى افــتــتــاح مكتب سياسي لحركة طالبان في الدوحة، كـــــان إيـــــذانـــــا بـــانـــطـــاق «مــــفــــاوضــــات غـيـر مباشرة»، قبل النجاح في إقناع واشنطن و«طـالـبـان»، بالجلوس وجـهـا لوجه على مائدة املفاوضات، التي أثمرت في النهاية «اتفاق الدوحة» 29( فبراير/ شباط ،)2020 الــــــذي كـــــان مــــن بــــنــــوده اكـــتـــمـــال انــســحــاب الـــجـــيـــش األمــــيــــركــــي مــــن أفـــغـــانـــســـتـــان فـي ،2021/8/31 مقابل تعهدات من «طالبان» بـــالـــدخـــول فــــي مـــفـــاوضـــات ســيــاســيــة مـع حـــكـــومـــة أشـــــــرف غــــنــــي، ومــــنــــع أي حــركــة مسلحة من استغال األراضـــي األفغانية، لـــشـــن هـــجـــمـــات عـــلـــى الـــــواليـــــات املـــتـــحـــدة. واســـتـــطـــرادا، تــدرجــت سـيـاسـة قـطـر تجاه أفغانستان عبر خطوات دقيقة، بداية من توفير منصات التفاوض مع حركة طالبان، مــــــرورا بــبــذل املــســاعــي الــحــمــيــدة لطمأنة واشـــنـــطـــن ومــخــتــلــف األطـــــــراف اإلقـلـيـمـيـة والدولية املعنية بالشأن األفغاني، وصوال إلــــى تـــدشـــني الـــخـــطـــوط الـــجـــويـــة الـقـطـريـة جسرا جويا (صيف ،)2021 بهدف تقديم املـسـاعـدة اللوجستية فـي عمليات إجـاء الــرعــايــا الــغــربــيــني مـــن كـــابـــول، فــضــا عن إجاء األفغان الراغبني في مغادرة بادهم، وانتهاء بتوفير أغلب التجهيزات الازمة إلعادة تشغيل مطار كابول ومنشآته، في وقٍت قياسٍّي ا، بهدف انتظام خطوط الرحات الداخلية والدولية من أفغانستان وإلـيـهـا، بـاإلضـافـة إلــى استضافة الجئني أفــغــان فــي قـطـر مـؤقـتـا، إلـــى حــني ذهابهم إلــى وجهتهم النهائية. تتعلق املاحظة الثالثة بتركيز قطر على استخدام أدوات الـــقـــوة الــنــاعــمــة، والـــتـــواصـــل الــــــدؤوب مع األطــــراف الـداخـلـيـة واإلقـلـيـمـيـة والـدولـيـة املـنـخـرطـة فــي الـــصـــراع األفــغــانــي. وبــهــذا، تمكنت الدوحة من جعل نفسها «وسيطا مقبوال»، يحظى بتقدير أميركي وغربي وأممي واضح، وإشادات متتالية بدورها، نـــاهـــيـــك عــــن تــمــتــعــهــا بــــدرجــــة عـــالـــيـــة مـن القبول من الطرف اآلسيوي املقابل، املعني باستقرار الساحة األفغانية وعدم عودتها إلــــى االضـــــطـــــراب، بــســبــب تـــداعـــيـــاتـــه على األمـن اإلقليمي، سيما على طرق التجارة واالستثمارات، خصوصا مشروع الصني «الحزام والطريق»، وهذا يؤكد ديناميكية الـــســـيـــاســـة الـــقـــطـــريـــة، وطــــمــــوح نـخـبـتـهـا الـــحـــاكـــمـــة، وحـــســـن قـــراءتـــهـــا وتـوظـيـفـهـا مـتـغـيـرات البيئتني الــدولــيــة واإلقليمية، لتوسيع هامش حركة السياسة الخارجية لدولة قطر، التي تحولت إلى «نقطة عبور إلـــزامـــيـــة» بــالــنــســبــة إلــــى جــمــيــع الــبــلــدان املـهـتـمـة بــاملــســألــة األفــغــانــيــة، حــتــى غــدت مقصدا لزيارة كبار املسؤولني الدوليني، نـــاهـــيـــك عــــن نـــقـــل دول عــــديــــدة بــعــثــاتــهــا الدبلوماسية من أفغانستان إلى الدوحة. تتعلق املاحظة الـرابـعـة بتعقيدات امللف األفــغــانــي الــداخــلــيــة والــخــارجــيــة، فـــي ظــل تفاقم األزمـــات املعيشية واالجتماعية في الباد، ونتائج الفيضانات التي اجتاحت مـنـاطـق مختلفة مـنـهـا فــي أغــســطــس/ آب املاضي، وعودة هجمات تنظيم داعش على املصالح الدولية، وجديدها أخيرا التفجير الذي وقع قرب وزارة الخارجية األفغانية في
لم تتمكن حركة طالبان ألسباب داخلية وخارجية، من التحول من «تنظيم قَبلي مقاتل» إلى بنية «دولة حديثة»
كابول 11( يناير/ كانون الثاني الجاري)، ما يعطي مؤشرا على احتمال فشل حركة طـالـبـان فـي إدارة املـرحـلـة االنتقالية التي أعـقـبـت «االنـــســـحـــاب األمــيــركــي والــغــربــي» صـــيـــف ،2021 ســـيـــمـــا فــــي مـــلـــفـــات األمـــــن، واالقــتــصــاد، وضـمـان الـحـريـات/ الحقوق، وتشكيل حكومة شاملة تستطيع تمثيل مـــجـــتـــمـــع مـــتـــنـــوع فـــــي إثـــنـــيـــاتـــه وأعـــــراقـــــه وإدارتـــــــه؛ إذ لـــم تـتـمـكـن الـــحـــركـــة، ألســبــاب داخلية وخارجية، من التحول من «تنظيم قــبــلــي مــقــاتــل» إلـــى بـنـيـة «دولـــــة حــديــثــة»، وإدارة مــعــضــات الـــتـــحـــول مـــن فـــاعـــل من غير الــدول إلـى املأسسة والحوكمة ورسم سـيـاسـات عــامــة مـائـمـة. وعــلــى الــرغــم من الوهن الداخلي الواضح للحالة األفغانية، ما يزيد «قابليتها» للتوظيفات املختلفة، فـا يمكن تجاهل التأثير الحاسم للبيئة الــخــارجــيــة عـلـى تعقيد املـشـهـد الــداخــلــي، خـصـوصـا اسـتـمـرار الــصــراع الــدولــي على أفغانستان. ويبرز في هذا السياق اإلصرار األمـــــيـــــركـــــي عــــلــــى عـــــــزل حــــكــــومــــة طـــالـــبـــان ومــعــاقــبــتــهــا بـــعـــدم االعـــــتـــــراف الــســيــاســي بحكمها وحــصــارهــا مــن خـــال العقوبات االقــتــصــاديــة، بحجج غــيــاب الديمقراطية وعـــدم الـتـزامـهـا بـحـقـوق اإلنــســان وحـقـوق الـنـسـاء، مــا يعكس مـقـاربـة ذرائـعـيـة تنكر تــداعــيــات/ مسؤولية االحــتــال األمـيـركـي، في توسيع الفجوات االجتماعية والعرقية داخــــل املـجـتـمـع األفــغــانــي. بـيـد أن األخـطـر هـــو ســيــنــاريــو الـــدفـــع بــأفــغــانــســتــان نحو الهاوية مجددا، بغية منع الصني وروسيا وبـاكـسـتـان وإيــــران وتـركـيـا مـن االسـتـفـادة مــــن «االنــــســــحــــاب األمــــيــــركــــي»، والـــتـــركـــيـــز على تحويل أفغانستان إلـى «مستنقع أو ثقب أســـود»، السـتـنـزاف خصوم الـواليـات املتحدة، ما يزيد من تـردد/ إحجام القوى اإلقليمية عن تشكيل «شبكة أمان» إقليمية تدعم استقرار أفغانستان، وتمنع انزالقها إلى صراعات داخلية مجددا. يبقى القول إن طبيعة السياسة األميركية تـــــجـــــاه روســــــيــــــا والــــــصــــــني بــــعــــد األزمــــــــة األوكــرانــيــة، وتأجيج واشنطن سياسات
ا، ربما تؤدي إلى تزايد بؤر التوتر واألزمـات اإلقليمية والدولية، ما يعني في املحصلة النهائية، تعقيدا أكبر في «املرحلة االنتقالية»، التي يــمــر بــهــا الــنــظــامــان الـــدولـــي واإلقــلــيــمــي، وتـــــرجـــــيـــــح احـــــتـــــمـــــال اســــــتــــــمــــــرار األزمــــــــة األفـغـانـيـة وتــزايــد تشعباتها السياسية واالجتماعية واألمنية.