Al Araby Al Jadeed

الدبلوماسي­ة القطرية والملف األفغاني

- أمجد أحمد جبريل

على الرغم من استمرار االنشغال العاملي بتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، تـــواصـــ­ل الـسـيـاسـ­ة الـقـطـريـ­ة جــهــودهـ­ـا في إعــــادة تـذكـيـر الــــدول بــضــرورة عـــدم إهـمـال الــقــضــ­ايــا واألزمــــ­ـــات الـــدولــ­ـيـــة األخــــــ­رى؛ إذ تنشط الدوحة في محاوالتها إعـادة امللف األفغاني إلى «األجندة الدولية»، وتستمر، عبر دبلوماسيته­ا «الوقائية»، في التحذير من خطورة ترك أوضاع أفغانستان، تنزلق مجددا نحو صراع داخلي، يعمق «املأساة األفـــغــ­ـانـــيـــ­ة»، ويــــــــ­ؤدي، فـــي املــحــصـ­ـلــة، إلــى تحويلها إلـــى «بــــؤرة عـــدم اســتــقــ­رار»، بما يـــهـــدد مــصــالــ­ح الــــــدو­ل املـــــجـ­ــــاورة، ويـعـيـد أفغانستان إلــى «الحلقة املـفـرغـة» نفسها مــن إضــعــاف الــبــاد وتفكيكها، عـلـى مــدار الـــعـــق­ـــود الــخــمــ­ســة املـــاضــ­ـيـــة، عـــبـــر هـيـمـنـة ثـاثـيـة «االضـــطــ­ـراب الــداخــل­ــي، واحـتـضـان حركات راديكالية عنيفة/ عابرة للحدود، واستمرار الصراع الدولي حول أفغانستان مـــع تـــضـــار­ب ســيــاســ­ات الـــقـــو­ى اإلقـلـيـم­ـيـة بـــشـــأن­ـــهـــا». وفـــــي إطــــــار تــحــلــي­ــل الــســيــ­اســة الـــقـــط­ـــريـــة تــــجــــ­اه أفـــغـــا­نـــســـتـ­ــان ومــســتــ­قــبــل الـــصـــر­اع الـــدولــ­ـي/ اإلقـلـيـم­ـي حــولــهــ­ا، ثـمـة أربــــــع مـــاحـــظ­ـــات؛ أوالهـــــ­ــا تــتــعــل­ــق بـسـعـي قطر إلــى إقــنــاع مختلف األطــــرا­ف بأهمية وقف تدهور األوضاع األفغانية، نظرا إلى خــطــورة تداعياتها على اإلقـلـيـم والـعـالـم؛ إذ عـمـد وزيــــر الـخـارجـي­ـة الــقــطــ­ري، محمد بن عبد الرحمن، إلى تذكير املجتمعني في املــنــتـ­ـدى االقـــتــ­ـصـــادي الــعــامل­ــي فـــي دافـــوس بـــهـــذه الـــقـــض­ـــيـــة، عـــلـــى الــــرغــ­ــم مــــن انـــتـــق­ـــاده الصريح سياسات حكومة حركة طالبان، سيما قــرارهــا )2022/12/24( حـظـر عمل الـنـسـاء فــي مـنـظـمـات اإلغـــاثـ­ــة والتحاقهن بالجامعات واملدارس الثانوية. ولــعــل هـــذا يــوضــح سـيـاسـة قـطـر القائمة عــلــى أهــمــيــ­ة االســـتــ­ـمـــرار فـــي الــــحـــ­ـوار مع مسؤولي حكومة «طالبان»، بغض النظر عـــن االعـــتــ­ـراضـــات عـلـى سـيـاسـاتـ­هـا، بـــدال مـن املـقـاربـ­ة اإلقصائية الـتـي تعكس ميل واشـــنـــ­طـــن (وأطـــــــ­ـراف غــربــيــ­ة كـــثـــيـ­ــرة) إلــى عزل/ معاقبة «طالبان»؛ إذ تقدر الدوحة أن حاجة الحركة إلى اعتراف املجتمع الدولي ودعمه، ستؤدي إلى «عقلنة» سياساتها، ولـــو فــي املـــدى الـبـعـيـد، عـلـى النقيض من سياسة العقوبات التي قـد تأتي بنتائج عكسية تماما. ويكشف تحليل كلمة أمير قطر، تميم بن حمد، أمام الجمعية العامة لـأمـم املـتـحـدة ،)2021/9/21( أن مقاربة باده مللف أفغانستان ارتكزت على ثاثة أمور؛ أولها تعزيز مسار الدوحة لتحقيق تسوية شاملة فــي أفـغـانـسـ­تـان. وثانيها توصيف قضية أفغانستان بأنها «ليست مسألة انتصار وال هزيمة، بل مسألة فشل فـــــرض نـــظـــام ســـيـــاس­ـــي مــــن الــــخـــ­ـارج بـعـد 20 عـــامـــا». وثـالـثـهـ­ا الـفـصـل بــني الـخـاف الـسـيـاسـ­ي مـــع حــركــة طــالــبــ­ان واســتــمـ­ـرار تقديم املساعدات للشعب األفغاني. تــتــعــل­ــق املـــاحــ­ـظـــة الــثــانـ­ـيــة بــاســتــ­مــراريــة الــوســاط­ــات الـتـي تـقـوم بـهـا قـطـر فــي عـدة ملفات إقليمية ودولية؛ فقد تحولت هذه الوساطات، (إضافة إلى «دبلوماسية إدارة األزمات»، وبذل الجهود الحميدة لتقريب مــــواقــ­ــف أطــــــــ­راف الــــصـــ­ـراعــــات اإلقــلــي­ــمــيــة والدولية من بعضها)، إلى جزء من أدوات السياسة الخارجية القطرية؛ إذ تواصل الـــدوحــ­ـة حــراكــهـ­ـا فـــي األزمـــــ­ـات اإلقـلـيـم­ـيـة

والــدولــ­يــة، خـصـوصـا الـتـي تــؤثــر فــي أمن منطقة الخليج العربي واستقرارها. وغـــنـــٌّي عـــن الــبــيــ­ان أن الــوســاط­ــة الـقـطـريـ­ة فــي املــلــف األفــغــا­نــي تــحــديــ­دا لـيـسـت وليد الــلــحــ­ظــة؛ إذ تــعــود إلـــى يــونــيــ­و/ حــزيــران 2013 عــلــى األقــــــ­ل، حــيــنــم­ــا جــــرى افــتــتــ­اح مكتب سياسي لحركة طالبان في الدوحة، كـــــان إيـــــذان­ـــــا بـــانـــط­ـــاق «مــــفــــ­اوضــــات غـيـر مباشرة»، قبل النجاح في إقناع واشنطن و«طـالـبـان»، بالجلوس وجـهـا لوجه على مائدة املفاوضات، التي أثمرت في النهاية «اتفاق الدوحة» 29( فبراير/ شباط ،)2020 الــــــذي كـــــان مــــن بــــنــــ­وده اكـــتـــم­ـــال انــســحــ­اب الـــجـــي­ـــش األمــــيـ­ـــركــــي مــــن أفـــغـــا­نـــســـتـ­ــان فـي ،2021/8/31 مقابل تعهدات من «طالبان» بـــالـــد­خـــول فــــي مـــفـــاو­ضـــات ســيــاســ­يــة مـع حـــكـــوم­ـــة أشـــــــر­ف غــــنــــ­ي، ومــــنـــ­ـع أي حــركــة مسلحة من استغال األراضـــي األفغانية، لـــشـــن هـــجـــمـ­ــات عـــلـــى الـــــوال­يـــــات املـــتـــ­حـــدة. واســـتـــ­طـــرادا، تــدرجــت سـيـاسـة قـطـر تجاه أفغانستان عبر خطوات دقيقة، بداية من توفير منصات التفاوض مع حركة طالبان، مــــــرور­ا بــبــذل املــســاع­ــي الــحــمــ­يــدة لطمأنة واشـــنـــ­طـــن ومــخــتــ­لــف األطــــــ­ـراف اإلقـلـيـم­ـيـة والدولية املعنية بالشأن األفغاني، وصوال إلــــى تـــدشـــن­ي الـــخـــط­ـــوط الـــجـــو­يـــة الـقـطـريـ­ة جسرا جويا (صيف ،)2021 بهدف تقديم املـسـاعـد­ة اللوجستية فـي عمليات إجـاء الــرعــاي­ــا الــغــربـ­ـيــني مـــن كـــابـــو­ل، فــضــا عن إجاء األفغان الراغبني في مغادرة بادهم، وانتهاء بتوفير أغلب التجهيزات الازمة إلعادة تشغيل مطار كابول ومنشآته، في وقٍت قياسٍّي ا، بهدف انتظام خطوط الرحات الداخلية والدولية من أفغانستان وإلـيـهـا، بـاإلضـافـ­ة إلــى استضافة الجئني أفــغــان فــي قـطـر مـؤقـتـا، إلـــى حــني ذهابهم إلــى وجهتهم النهائية. تتعلق املاحظة الثالثة بتركيز قطر على استخدام أدوات الـــقـــو­ة الــنــاعـ­ـمــة، والـــتـــ­واصـــل الــــــدؤ­وب مع األطــــرا­ف الـداخـلـي­ـة واإلقـلـيـ­مـيـة والـدولـيـ­ة املـنـخـرط­ـة فــي الـــصـــر­اع األفــغــا­نــي. وبــهــذا، تمكنت الدوحة من جعل نفسها «وسيطا مقبوال»، يحظى بتقدير أميركي وغربي وأممي واضح، وإشادات متتالية بدورها، نـــاهـــي­ـــك عــــن تــمــتــع­ــهــا بــــدرجــ­ــة عـــالـــي­ـــة مـن القبول من الطرف اآلسيوي املقابل، املعني باستقرار الساحة األفغانية وعدم عودتها إلــــى االضـــــط­ـــــراب، بــســبــب تـــداعـــ­يـــاتـــه على األمـن اإلقليمي، سيما على طرق التجارة واالستثمار­ات، خصوصا مشروع الصني «الحزام والطريق»، وهذا يؤكد ديناميكية الـــســـي­ـــاســـة الـــقـــط­ـــريـــة، وطــــمـــ­ـوح نـخـبـتـهـ­ا الـــحـــا­كـــمـــة، وحـــســـن قـــراءتــ­ـهـــا وتـوظـيـفـ­هـا مـتـغـيـرا­ت البيئتني الــدولــي­ــة واإلقليمية، لتوسيع هامش حركة السياسة الخارجية لدولة قطر، التي تحولت إلى «نقطة عبور إلـــزامــ­ـيـــة» بــالــنــ­ســبــة إلــــى جــمــيــع الــبــلــ­دان املـهـتـمـ­ة بــاملــسـ­ـألــة األفــغــا­نــيــة، حــتــى غــدت مقصدا لزيارة كبار املسؤولني الدوليني، نـــاهـــي­ـــك عــــن نـــقـــل دول عــــديـــ­ـدة بــعــثــا­تــهــا الدبلوماسي­ة من أفغانستان إلى الدوحة. تتعلق املاحظة الـرابـعـة بتعقيدات امللف األفــغــا­نــي الــداخــل­ــيــة والــخــار­جــيــة، فـــي ظــل تفاقم األزمـــات املعيشية واالجتماعي­ة في الباد، ونتائج الفيضانات التي اجتاحت مـنـاطـق مختلفة مـنـهـا فــي أغــســطــ­س/ آب املاضي، وعودة هجمات تنظيم داعش على املصالح الدولية، وجديدها أخيرا التفجير الذي وقع قرب وزارة الخارجية األفغانية في

لم تتمكن حركة طالبان ألسباب داخلية وخارجية، من التحول من «تنظيم قَبلي مقاتل» إلى بنية «دولة حديثة»

كابول 11( يناير/ كانون الثاني الجاري)، ما يعطي مؤشرا على احتمال فشل حركة طـالـبـان فـي إدارة املـرحـلـة االنتقالية التي أعـقـبـت «االنـــســ­ـحـــاب األمــيــر­كــي والــغــرب­ــي» صـــيـــف ،2021 ســـيـــمـ­ــا فــــي مـــلـــفـ­ــات األمـــــن، واالقــتــ­صــاد، وضـمـان الـحـريـات/ الحقوق، وتشكيل حكومة شاملة تستطيع تمثيل مـــجـــتـ­ــمـــع مـــتـــنـ­ــوع فـــــي إثـــنـــي­ـــاتـــه وأعـــــرا­قـــــه وإدارتــــ­ـــه؛ إذ لـــم تـتـمـكـن الـــحـــر­كـــة، ألســبــاب داخلية وخارجية، من التحول من «تنظيم قــبــلــي مــقــاتــ­ل» إلـــى بـنـيـة «دولـــــة حــديــثــ­ة»، وإدارة مــعــضــا­ت الـــتـــح­ـــول مـــن فـــاعـــل من غير الــدول إلـى املأسسة والحوكمة ورسم سـيـاسـات عــامــة مـائـمـة. وعــلــى الــرغــم من الوهن الداخلي الواضح للحالة األفغانية، ما يزيد «قابليتها» للتوظيفات املختلفة، فـا يمكن تجاهل التأثير الحاسم للبيئة الــخــارج­ــيــة عـلـى تعقيد املـشـهـد الــداخــل­ــي، خـصـوصـا اسـتـمـرار الــصــراع الــدولــي على أفغانستان. ويبرز في هذا السياق اإلصرار األمـــــي­ـــــركـــ­ــي عــــلــــ­ى عـــــــزل حــــكــــ­ومــــة طـــالـــب­ـــان ومــعــاقـ­ـبــتــهــ­ا بـــعـــدم االعـــــت­ـــــراف الــســيــ­اســي بحكمها وحــصــاره­ــا مــن خـــال العقوبات االقــتــص­ــاديــة، بحجج غــيــاب الديمقراطي­ة وعـــدم الـتـزامـه­ـا بـحـقـوق اإلنــســا­ن وحـقـوق الـنـسـاء، مــا يعكس مـقـاربـة ذرائـعـيـة تنكر تــداعــيـ­ـات/ مسؤولية االحــتــا­ل األمـيـركـ­ي، في توسيع الفجوات االجتماعية والعرقية داخــــل املـجـتـمـ­ع األفــغــا­نــي. بـيـد أن األخـطـر هـــو ســيــنــا­ريــو الـــدفـــ­ع بــأفــغــ­انــســتــ­ان نحو الهاوية مجددا، بغية منع الصني وروسيا وبـاكـسـتـ­ان وإيــــران وتـركـيـا مـن االسـتـفـا­دة مــــن «االنــــسـ­ـــحــــاب األمــــيـ­ـــركــــي»، والـــتـــ­ركـــيـــز على تحويل أفغانستان إلـى «مستنقع أو ثقب أســـود»، السـتـنـزا­ف خصوم الـواليـات املتحدة، ما يزيد من تـردد/ إحجام القوى اإلقليمية عن تشكيل «شبكة أمان» إقليمية تدعم استقرار أفغانستان، وتمنع انزالقها إلى صراعات داخلية مجددا. يبقى القول إن طبيعة السياسة األميركية تـــــجـــ­ــاه روســــــي­ــــــا والــــــص­ــــــني بــــعــــ­د األزمـــــ­ـــة األوكــران­ــيــة، وتأجيج واشنطن سياسات

ا، ربما تؤدي إلى تزايد بؤر التوتر واألزمـات اإلقليمية والدولية، ما يعني في املحصلة النهائية، تعقيدا أكبر في «املرحلة االنتقالية»، التي يــمــر بــهــا الــنــظــ­امــان الـــدولــ­ـي واإلقــلــ­يــمــي، وتـــــرجـ­ــــيـــــ­ح احـــــتــ­ـــمـــــا­ل اســــــتـ­ـــــمــــ­ــرار األزمـــــ­ـــة األفـغـانـ­يـة وتــزايــد تشعباتها السياسية واالجتماعي­ة واألمنية.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar