Al Araby Al Jadeed

الجوكر السوري المفلس وفّن إدارة «التوّحش األعمى»

- عبير نصر

أفــــــــ­ـــــرز الــــــنـ­ـــــظــــ­ــام الــــــــ­ـســــــــ­ـوري الــــــــ­ـــــذي تــــســــ­لــــح بـــأيـــد­يـــولـــو­جـــيـــات شــمــولــ­يــة مــعــتــم­ــرة الــــروح االنقالبية، ومن زاوية صفتي «القهر والجبر» اللتني يشتمل عليهما مفهوم الطغيان، دولة مختلة تعاني من أزمات بنيوية حادة، قائمة عـلـى الـعـنـف الـكـامـن الـــذي انـفـجـر فــي وجهه أخـيـرًا، ليبدو الـيـوم، كاملستنقع الــذي تصب فيه املياه اآلسنة للدول التي تدير دفة الصراع، بــعــدمــ­ا تـــحـــول إلـــى «الــجــوكـ­ـر املــفــلـ­ـس» الـــذي يستخدمه الجميع ورقــة للضغط والضغط املـعـاكـس. والـعـدمـي­ـة الـسـوريـة، بـهـذا املعنى، هــي النتيجة املنطقية لـذلـك الــشــرخ الـواسـع والالنهائي بني الحلم الطوباوي بدولة حرة مدنية وواقـــع اسـتـمـرار «الطغيان األســـدي»، الـــذي لــم ينتج عـنـه ســـوى الــيــأس والـتـحـطـ­م وفــقــدان األمـــل. والــحــال أن الجحيم الـسـوري جـــــرى الـــــوصـ­ــــول إلــــيـــ­ـه، فــــعــــ­ال، بـــعـــد تــحــويــ­ل البالد إلى كارثة هائلة، سوف يحتاج العالم الجتراح املعجزات لتجاوزها. كارثة تنبأ بها الشعب السوري نفسه. ومنذ البداية، فعندما صرخ متضرعًا «يا الله ما لنا غيرك يا الله» كان يعي تمامًا هول املجزرة املتوقعة. وفـــــي خـــضـــم الــتــحــ­لــيــالت والــــــد­راســــــا­ت الــتــي تناولت «التوحش األعمى» للنظام السوري، وآثــــــا­ره الــكــارث­ــيــة عــلــى أجـــهـــز­ة الـــدولــ­ـة، تــبــرز مقاربة املفكر الفرنسي ميشيل سورا في فهم بنيته، إبــان حكم األسـد األب، واحــدة من أهم األطـروحـا­ت التي تفحصت أسـس السلطوية الــــســـ­ـوريــــة وأســـــبـ­ــــاب اســــتـــ­ـمــــراره­ــــا، مـــانـــح­ـــة الباحثني مفاتيح فهم أساسية فـي التعرف إلى حجم املصيبة التي وقعت على السوريني،

وتـسـتـمـر آثـــارهــ­ـا بــال انــقــطــ­اع. ويــجــزم ســورا إن األســد لم يهتم قـط ببناء نظام للحكم، أو بتثبيت شــرعــيــ­تــه. ومـــن هــنـا تــأتــي صعوبة اقتالعه، فسلطته، فـي جوهرها، قائمة على تــحــالــ­ف بـــراغـــ­مـــاتـــي يـــدمـــج فــيــه الـــتـــع­ـــدديـــا­ت والتناقضات، ليصنع وسيلة ملك أو سيطرة بدائية، يشيع فيها اإلرهاب داللة مباشرة إلى كونه عالمة نفي الدولة ال عالمة وجود الدولة. هــكــذا تــصــبــح الــعــالق­ــة بـــني الـــدولــ­ـة والـشـعـب والنظام محكومة بالحذر والخوف الدائمني، لـــتـــتـ­ــصـــحـــ­ر فـــــي هــــــذه األرضـــــ­يـــــة املــــمــ­ــارســــا­ت الـــســـي­ـــاســـيـ­ــة، وتــــعـــ­ـود الــســلــ­طــة الـــحـــا­كـــمـــة فـي الحقيقة إلى ما قبل الدولة الحديثة. ومـــــن يـــتـــأم­ـــل الــــواقـ­ـــع الــــســـ­ـوري الـــحـــا­لـــي يـــرى كـيـف تـخـلـق الـشـكـل الـثـانـي «لـلـدولـة األسـديـة املـتـوحـش­ـة». وهـــذا، بالطبع، لـم يولد اعتباطًا ولـــــم يـــتـــرا­كـــم جـــــزافـ­ــــًا، فــــ«الـــطـــغ­ـــيـــان األســــــ­دي» محايث ًللحروب واألزمــــ­ات، وهــو ّليس شيئًا منفصال عـنـهـا. فــي املـقــابـ­ـل، ســوريــو الــداخــل، ومن باب طول تعودهم على االسترقاق وعناق األغالل، إلى الدرجة التي يبدو ملن يراهم أنهم لـم يـخـسـروا حريتهم، بـل كسبوا عبوديتهم، يدركون جيدًا، وللمفارقة، أن هزيمة الطاغية املستبد ال تستدعي سوى االمتناع عن طاعته، فيسقط «كتمثال هائل سحبت قاعدته فهوى عـلـى األرض بـقـوة وزنـــه وحـــدهـــ­ا... وانـكـسـر». وعليه، الوضع الـسـوري فريد حقًا، ألننا هنا أمــــام قـــوة احـــتـــا­لل صـريـحـة، وال جــــدال فــي أن وحشية معاملتها السوريني تفوق بأشواط ما عرفته البالد أيـام االحتاللني العثماني ثم الـفـرنـسـ­ي، عـلـى أن الـــدولــ­ـة األســـديـ­ــة يمكن أن توصف بأنها هي بالذات من منظمات ما دون الــدولــة، ليس فقط مـذ آلــت الـسـيـادة فــي البلد

لـإيـرانـي­ـني والـــــرو­س، ولـكـن مــذ أطـلـق النظام الـدمـوي جحافل العنف في ثمانينيات القرن املـــاضــ­ـي، فــأثــبــ­ت، بـمـا ال يــدعــو إلـــى الــشــك، أن املمارسات «القمعية» املتراكمة من قبله ثقافة حياة، وأن طبيعة صراعه صفرية تمامًا. فإما أن ينتصر بــــأي أثـــمـــا­ن كــانــت، وإمــــا ال شــيء. ويبدو هذا الخيار املريع الذي تستبطنه مثل هذه األنظمة والتشكيالت الحاكمة دافعًا قويًا لها ألن تتخلى عـن أي مـسـاومـات أو خطوط حـــمـــرا­ء عــــاديــ­ــة، وأن تـعـتـبـر مــجــمــل أفـعـالـهـ­ا وانــتــهـ­ـاكــاتــه­ــا شـــكـــال مـــن الــــدفــ­ــاع عـــن الـنـفـس مــن الــغــرق. هـنـا، بالضبط، تـبـرز األدوار غير املسؤولة للنخب املعارضة، التي تفشل، مرة بعد أخرى، في وضع تصورات وحلول جذرية، وإن لم تكن عادلة تمامًا. في كتاب «إدارة التوحش» يعرض مؤلفه أبو بكر نـاجـي وبــدقــة متناهية األســـس النظرية الستراتيجي­ات تنظيم الـدولـة اإلسالمية. مع هــــذا، فــاقــه الــنــظــ­ام الـــســـو­ري دهــــاء وتــوحــشـ­ـًا، عندما طـــور مـفـرداتـه العنفية، الـرمـزيـة منها خــــصــــ­وصــــا، بــــهــــ­دف إشــــاعــ­ــة الــــفـــ­ـوضــــى الــتــي ستخلق له مجددًا بيئة ومناخًا مناسبًا لنمو خــاليــاه الـسـرطـان­ـيـة وتـــمـــد­دهـــا. وال ضـيـر من استعراض آخر تجاوزاته بحق السوريني: إزالة إحـدى أهم ساحات العاصمة دمشق، «ساحة السبع بحرات»، بزعم تجديدها وتحويلها إلى «شكل أكثر جمالية بمنظور حضاري حديث»، وبكلفة خمسة مليارات ليرة سورية، في الوقت الــذي تعاني فيه الـبـالد مـن انهيار اقتصادي غير مسبوق وظـــروف معيشية قــاهــرة... إفرغ الـتـكـيـة السليمانية مــن الـحـرفـيـ­ني وإغـالقـهـ­ا نــهــائــ­يــًا، أيــضــًا بــحــجــة تــرمــيــ­مــهــا... إغــــالق 15 مــعــمــا­ل لـتـصـنـيـ­ع األدويــــ­ــــة رفـــــض أصــحــابـ­ـهــا

مــشــاركـ­ـة شـخـصـيـات «مــافــيــ­اويــة» مـــن عائلة األسد بنصيبهم من األرباح. وفــــــــ­ي خـــــبـــ­ــر تــــــداو­لــــــتــ­ــــه وســــــائ­ــــــل الــــتـــ­ـواصــــل االجـــتــ­ـمـــاعـــ­ي، فـــرضـــت حـــكـــوم­ـــة الـــنـــظ­ـــام عـلـى أصـــحـــا­ب بــعــض املـــحـــ­ال الــتــجــ­اريــة فـــي حلب ضـــرائـــ­ب بــاهــظــ­ة، فـــي مــحــاولـ­ـة واضـــحـــ­ة ملــلء خزائنها الفارغة، بعدما رهنت مقدرات البالد لـلـحـلـفـ­اء. ولــــم تـــوفـــر حــتــى مــحــال «الــحــمــ­ص والـفـول»، إذ قـال أحـد أصحابها إن الضريبة التي فرضت عليه تبلغ ستني مليون ليرة، رغم أن مساحة محله ال تتجاوز 18 مترًا مربعًا. وهـــكـــذ­ا يــكــتــو­ي الـــســـو­ريـــون يــومــيــًا بـالـعـنـف الذي اعتبرته الفلسفة دومًا موازيًا للفوضى والعبث وانــعــدا­م األمـــان، والـــذي يتمظهر في

أثـــواب أخـــرى. كــأن، مـثـال، يخرج أحــد أعضاء مجلس الـشـعـب لـيـدلـي بتصريح اسـتـفـزاز­ي عجيب، مفاده أنه في حال حصل املواطن على كهرباء 24 ساعة متواصلة، لن يتمكن من دفع الفاتورة التي قد تصل إلـى مائتي ألـف ليرة سورية، وهو ما يعادل ضعف راتبه! العنف الصريح أو العنف الرمزي املمارس من النظام السوري يطرح إشكالية مهمة تتعلق بطبيعة الـــدولــ­ـة ووظـيـفـتـ­هـا، والـــدولـ­ــة، بهذا املعنى، ال تستطيع أن ترتكب العنف، إال وهي خارجة عن القانون. تحتكر االقتصاد والسالح وإدارة املال العام وكل أمر كلّي جامع، فالدولة املــتــوح­ــشــة املــتــعـ­ـيــشــة مـــن الــفــســ­اد واإلفـــسـ­ــاد تتجاوز حدودها في تكريس القمع، وتتغول عـلـى مـواطـنـيـ­هـا. نــافــل الـــقـــو­ل.. يبقى املـعـيـار الـــذي يميز العنف العميم فـي سـوريـة غياب الشرعية. ولهذا ال يمكن فهم جوهره بمعزل عن بحث مسألة شرعية النظام الحاكم نفسه، فإعادة إنتاجه اإلرهــاب هو إمعان في رفض السياسة وإيــثــار للقمع ونـفـي أي معارضة. ولــذلــك فــــإن إدارة «الــتــوحـ­ـش األعـــمــ­ـى» باتت لعبة مـبـتـذلـة تعكس نـسـبـيـة مـفـرطـة تتبدل بحسب املصالح وحـسـابـات الــزمــان واملـكـان! واملنطق أن النظام وحــده يتحمل مسؤولية مـآالت األحــداث السورية الراهنة، من منطلق أنـه الحاضن واملنتج واملشكل لنمط الصراع الحاصل، بوصفه واقعًا متوحشًا ومفتوحًا وبـال نهاية واضحة في األفــق. بينما لم تعد ســــوريــ­ــة، فـــي الـــنـــه­ـــايـــة، إال مـــيـــدا­نـــًا لتصفية الحسابات وتحصيل االمــتــي­ــازات، بوصفها أرضًا «للدماء والرمال» والجوع واالنحطاط، والحروب الدولية بالوكالة.

المعيار الذي يميز العنف العميم في سورية غياب الشرعية. ولهذا ال يمكن فهم جوهره بمعزل عن بحث مسألة شرعية النظام الحاكم

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar