متاهات الحوار المصري واستراتيجيات كسب الوقت
انقضت تسعة شهور، منذ إطالق الدعوة إلى حوار وطني مصري، ولكنه لم يدخل موضع التنفيذ الـفـعـلـي مــع قـــرب الـــذكـــرى السنوية األولـى إلطالقه، وبعد قضاء وقت طويل في االنتهاء من مخاض تشكيل مجلس األمناء وتسمية مقرري اللجان ومساعديهم. اتفق، أخــيــرا، مجلس األمــنــاء على تحديد اللجان الــفــرعــيــة ومــــحــــاور الـــنـــقـــاش الـــخـــاصـــة بــهــا، لـــتـــؤشـــر إلــــى قــــرب انـــعـــقـــاد الــجــلــســات الــتــي يـنـتـظـرهـا الــجــمــيــع بـــفـــارغ الــصــبــر، فـــي ظل إحـبـاطـات سياسية متوالية بسبب تأخير غــيــر مـــبـــرر فـــي عــقــد مــــداوالتــــه، والـــــذي أدى إلــــى تـــهـــديـــدات ضـمـنـيـة مـــن أحـــــزاب الـحـركـة املــدنــيــة بــاالنــســحــاب أكـــثـــر مـــن مـــــرة. وحــــدد بـــيـــان املـــجـــلـــس، فـــي شــهــر ديــســمــبــر/كــانــون األول املاضي، وجود 19 لجنة فرعية تندرج ضمن مـحـاور ثـالثـة (سـيـاسـيـة، اقتصادية، اجتماعية)، ضمت خمس لجان فـي املحور األول، وثــمــانــي لـلـثـانـي وهـــو األكـــبـــر، وستا لـــلـــمـــحـــور االجـــتـــمـــاعـــي. وهــــنــــاك مــالحــظــات أساسية على مسار هذا الحوار أهمها: أوال، استمرار االجتماعات التحضيرية من دون وضع مدى زمني لبدء جلسات الحوار الفعلي وانتهائه وتوصياته، ولم يشر بيان املجلس إلــى مـوعـد مـحـدد لـهـذه الجلسات، مــكــتــفــيــًا بــــــاإلشــــــارة إلــــــى بــــدئــــه فـــــي األيــــــام املقبلة. ويـبـدو أن ذلــك التأخير يأتي وكــأن هـنـاك مــن يتعمد ذلـــك أو يستخدم الـحـوار ألهــــــداف أخــــــرى. ثـــانـــيـــًا، ال يــظــهــر ملــجــريــات هــذا الـحـوار الـعـام أي عالقة بما يـحـدث في ســـيـــاســـات صـــانـــع الــــقــــرار عـــلـــى املــســتــويــني الـداخـلـي والــخــارجــي، حيث ينفصل تماما عما يقوم به النظام من إجـــراءات سياسية واقتصادية مؤثرة في جميع الجهات، وكأن الحوار يجري في دولة أخرى، فال تغيير في خيارات النظام، وال مبادرات تعكس اإليمان بمفهوم الشراكة والحوار، خاصة في ضوء األزمـــــة االقــتــصــاديــة والـسـيـاسـيـة الـطـاحـنـة الـــتـــي يـــعـــانـــي مــنــهــا املــــصــــريــــون بـمـخـتـلـف شرائحهم االجتماعية. وحتى لو كانت تلك السياسات تتناقض مـع مالحظات شركاء الــحــوار ومـطـالـبـه بـمـراجـعـة الـنـظـام مـسـاره الحالي، أو بحد أدنى التشاور مع املعارضة في الخطوط الرئيسية. ثالثًا، لم تقدم الدولة أي مبادرة لحسن النية تــجــاه هـــذا الـــحـــوار، بـاسـتـثـنـاء تـفـعـيـل لجنة الـعـفـو الــرئــاســيــة، وتـهـمـيـش االسـتـراتـيـجـيـة الوطنية لحقوق اإلنسان، إذ تأتي حصيلتهما مخيبة لــآمــال. ومـــن أحــــداث تــؤكــد اسـتـمـرار الـــنـــهـــج الـــــفـــــردي فـــــي تـــلـــك الــــســــيــــاســــات عـقـد املؤتمر االقتصادي في شهر أكتوبر/تشرين األول املـــاضـــي بـــــدون أي مـــشـــاركـــة لــلــخــبــراء االقـتـصـاديـني املستقلني أو املحسوبني على الحركة املدنية الذين لديهم تحفظات عديدة على النهج االقتصادي؛ بل بالعكس استغلت اإلدارة هذا املؤتمر لتأييد إجراء اتها، سواء في مزيد من القروض أو بيع مزيد من األصـول، لــكــي تـسـتـطـيـع ســـــداد أقــســاطــهــا وفـــوائـــدهـــا. وثـــانـــيـــهـــا، طـــــرح مــــا يـــســـمـــى صــــنــــدوق هـيـئـة قــنــاة الــســويــس. وثــالــثــا، فــي إصــــدار مـشـروع آخـــر لـــأحـــوال الـشـخـصـيـة، وفـــي كــل منها لم يأخذ النظام بمشاركة الــرأي العام بشأنها، أو مــنــاقــشــة جـــدواهـــا وآثــــارهــــا االقــتــصــاديــة واالجتماعية على الدولة والشعب. وبـإلـقـاء نـظـرة على املــحــاور املــقــررة فـي تلك
ٍّ اللجان املـتـعـددة، تبدو املالحظة األساسية أن الدولة كأنها تخترع العجلة مــرة أخـرى، بــــطــــرح املــــشــــكــــالت الـــرئـــيـــســـيـــة والـــبـــنـــيـــويـــة املـخـتـلـفـة، مـــن دون االســـتـــفـــادة مـــن الـجـهـود والكتابات النقدية والبحثية السابقة التي طـرحـتـهـا املــعــارضــة والـــخـــبـــراء فـــي مـجـاالت الـــتـــنـــمـــيـــة واالقــــتــــصــــاد والــــصــــحــــة والـــســـكـــن وحــــقــــوق اإلنــــســــان والــــشــــبــــاب وغـــيـــرهـــا مـن املحاور. وهو ما يؤدي إلى استمرار الحوار وقـــتـــا قــــد يـــصـــل إلـــــى شــــهــــور أخـــــــرى. وعــلــى الرغم من شمول محاور اللجنة االقتصادية
مـــــوضـــــوعـــــات مـــــتـــــعـــــددة تـــشـــمـــل الـــتـــضـــخـــم وغــالء األسـعـار، الـديـن الـعـام وعجز املـوازنـة واإلصـــــــــالح املـــــالـــــي، االســــتــــثــــمــــارات الـــعـــامـــة وسياسة ملكية الـدولـة، االستثمار الخاص (املحلي واألجنبي)، الصناعة، الزراعة واألمن الغذائي، العدالة االجتماعية، والتي توجه، في أغلبها، انتقادات للمسار الرسمي، إال أن النظام يسير عمليا في تنفيذها ويتجاهل وقــفــهــا مــؤقــتــا فـــي انـــتـــظـــار نــتــائــج الـــحـــوار،
ومنها وثيقة ملكية الدولة، واالستمرار في تـلـقـي الـــقـــروض والـتـخـلـي عـــن األصـــــول، من دون االلتفات إلى مالحظات املعارضة على اآلثار السلبية لتلك السياسات. وهـــنـــاك مـــحـــاور كــثــيــرة مـــطـــروحـــة، ينبغي التركيز فيها على تنفيذ الدولة تعهداتها الرسمية بشأنها، وليس طرحها في حوار سياسي، وبشكل خاص على مجال الحقوق والحريات التي تتضمن تعهدات حكومية ســــابــــقــــة بـــتـــنـــفـــيـــذهـــا بــــمــــوجــــب الــــدســــتــــور واملـــــواثـــــيـــــق الـــــدولـــــيـــــة لــــحــــقــــوق اإلنـــــســـــان، واملـــراجـــعـــة الـــدوريـــة ملـلـفـهـا الـحـقـوقـي أمـــام مــجــلــس حـــقـــوق اإلنـــــســـــان، ومـــنـــهـــا تـغـيـيـر تـــعـــريـــف الـــتـــعـــذيـــب فــــي الــــقــــانــــون، وتـفـعـيـل اإلشـــــراف الـقـضـائـي عـلـى الــســجــون ومــقــار االحتجاز، وإلغاء العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر، وإنشاء مفوضية ملناهضة التمييز بموجب الدستور املصري، وكذلك تعديل مــواد الحبس االحتياطي، وإصــدار قـوانـني خـاصـة بحرية املـعـلـومـات وحماية الــشــهــود واملــبــلــغــني، والــتــأكــيــد عــلــى حـريـة اإلعــــالم واســتــقــالل الـصـحـافـة، واألولـــــى من ذلك اتخاذ خطوات حكومية نحو تنفيذها الــفــعــلــي، بــمــوجــب الـــتـــزامـــاتـــهـــا الــقــانــونــيــة والحقوقية، ال طرحها للنقاش مجددا.
ال تغيير في خيارات النظام، وال مبادرات تعكس اإليمان بمفهوم الشراكة، خاصة في ضوء األزمة االقتصادية والسياسية