صراع القدس لن تحسمه قمم وال تفاه
تــؤكــد تـقـاريـر إعـامـيـة أن رئـيـس الــــوزراء اإلســـرائـــيـــلـــي، بــنــيــامــن نــتــنــيــاهــو، تـعـهـد للعاهل األردنــــي، عبد الـلـه الـثـانـي، بعدم املــس بالوضع القائم فـي الـحـرم القدسي الـــشـــريـــف تـــحـــت «الــــرعــــايــــة الـــهـــاشـــمـــيـــة». جــاء ذلــك خــال زيـــارة نتنياهو السريعة واملـفـاجـئـة عــمــان الــثــاثــاء املــاضــي. إال أن يـــومـــا واحـــــــدًا لــــم يـــمـــض عـــلـــى الـــلـــقـــاء بـن الـطـرفـن، حتى كــان عـشـرات املستوطنن يقتحمون املسجد األقـصـى تحت حماية شــرطــة االحـــتـــال. لــيــس هـــذا فــحــســب، بل أكـــــد وزيــــــر األمــــــن الـــقـــومـــي اإلســـرائـــيـــلـــي، املـتـطـرف إيتمار بـن غفير، أنــه سيواصل اقـتـحـامـاتـه الــحــرم الــشــريــف، بـعـد أن كـان اقتحمه مطلع شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، بعد أيام قليلة من تسلم حكومة نتنياهو الــســادســة مـهـامـهـا. وعـمـلـيـا، ال يمكن لتحالف نتنياهو اليميني املتطرف االســتــمــرار فــي الـحـكـم مــن دون أمــثــال بن غفير وحزبه «العظمة اليهودية». يدرك األردن املعطيات والحقائق السابقة، كـمـا أنـــه يــــدرك أن الـــقـــدرة األمـيـركـيـة على الضغط على إسرائيل، رغم أهميتها، تبقى مـــحـــدودة ومـحـكـومـة بــاعــتــبــارات داخلية أمــيــركــيــة كــثــيــرة، وبــالــتــواطــؤ واالنــحــيــاز كـذلـك. إال أن الـتـحـدي فـي سـيـاق السيادة عـلـى الـــحـــرم الــقــدســي الــشــريــف، تـحـديـدًا، أعــــمــــق وأبـــــعـــــد مـــــن حـــكـــومـــة إســـرائـــيـــلـــيـــة «يمينية» و«مــتــطــرفــة»، وكـــأن سابقاتها أو بعضها كـانـت أقـــل خـطـرًا عـلـيـه. مـثـا، خال فترة الحكومة اإلسرائيلية السابقة، سمح يئير لبيد، ألعـضـاء مـن الكنيست، مــن بينهم بــن غـفـيـر، وآالف املستوطنن بـــاقـــتـــحـــام بــــاحــــات املـــســـجـــد األقــــصــــى فـي ذكــــرى مــا يــوصــف بــــ«خـــراب الـهـيـكـل» في أغـــســـطـــس/ آب .2021 ولــبــيــد هــــذا نفسه الـــذي يجلس اآلن عـلـى مـقـاعـد املـعـارضـة بــدل مقعد رئـيـس الــــوزراء اعتبر تدنيس بــن غفير للمسجد األقــصــى، مطلع شهر الــجــاري، «اســتــفــزازًا ســيــؤدي إلــى عنف»، وبالتالي دعا إلى منعه من ذلـك! وهو ما لم يحدث طبعا. الـحـقـيـقـة الـــتـــي ال جـــــدال فـيـهـا أن الـــدولـــة الـعـبـريـة، بغض النظر عـمـن يتولى زمـام الحكم فيها، ســـواء مـن اليمن أم اليسار أم الـــوســـط، لـيـسـت فـــي وارد الـتـخـلـي عن أطماعها في الحرم الشريف التي تلبس لبوسا تـوراتـيـا وتـاريـخـيـا وقـومـيـا. ومن ثــم، فــإن كـل مـا يجري مـن اتـفـاقـات تهدئة فــي الــحــرم الــقــدســي الــشــريــف وتـفـاهـمـات عـــلـــى إدارة أوضـــــاعـــــه، إنـــمـــا هــــي حــبــوب مــــخــــدرة تــشــتــت االنـــتـــبـــاه عـــن أن تـهـويـد الحرم يمضي يوميا على قدم وساق، وأن التقسيم الـزمـانـي واملـكـانـي قائم بالفعل. بــــل إن الـــحـــديـــث عــــن الــتــقــســيــم الـــزمـــانـــي واملـــكـــانـــي وكـــأنـــه أســـــوأ الــســيــنــاريــوهــات املمكنة هو بحد ذاته من باب خداع الذات، فاألمر أخطر من ذلـك، ويتمثل في إصرار
إسرائيل على تحقيق سيطرة مطلقة على الـحـرم الـقـدسـي الـشـريـف، وبـنـاء مـا يزعم أنـه «املعبد الثالث» على أنـقـاض املسجد األقصى املبارك. املــــشــــكــــلــــة، أنـــــــه ال تــــوجــــد اســـتـــراتـــيـــجـــيـــة فلسطينية أو عربية أو إسامية للتصدي للنوايا واملخططات اإلسرائيلية. هـذا إن لــم نـقـل إن املــوقــف الفلسطيني الـرسـمـي تائه، بل ومتواطئ في التهويد التدريجي ملدينة الـقـدس القديمة والــحــرم القدسي، منذ االتفاقات الكارثية مع الدولة العبرية، بدءًا من أوسلو، عام ،1993 وصعودًا، والتي وصلت في عام 2008 إلى أن يعرض «كبير املفاوضن الفلسطينين» السابق، الراحل صــائــب عــريــقــات، عـلـى وزيــــرة الـخـارجـيـة اإلســـرائـــيـــلـــيـــة حــيــنــئــذ، تـسـيـفـي لـيـفـيـنـي، «يـــروشـــالـــيـــم (الــكــلــمــة الــعــبــريــة لــلــقــدس) الكبرى التي عرفها التاريخ»، وهـو األمر الذي رفضته األخيرة على أساس أنه «غير كاف»! أما ما عرضه عريقات، ومعه أحمد قريع حينها، فهو السماح سرًا إلسرائيل بــضــم جــمــيــع املــســتــوطــنــات الـــتـــي أقـيـمـت فـــي الـــقـــدس الــشــرقــيــة املـحـتـلـة بـاسـتـثـنـاء واحـــدة، هـي هـار حوما (جبل أبـو غنيم)، فــــضــــا عـــــن الــــتــــنــــازل عـــــن جـــــــزء مـــــن حـــي الـشـيـخ جــــراح. أمـــا ثـالـثـة األثـــافـــي، فكانت فـــي اقــتــراحــهــمــا تـشـكـيـل لـجـنـة مـشـتـركـة، فلسطينية – إســرائــيــلــيــة، إلدارة الــحــرم الشريف. هذا ما كان املفاوض الفلسطيني مستعدًا لتقديمه، وهـذا هو رأس الجليد
من التنازالت الفلسطينية الرسمية التي كــشــف عــنــهــا. وإذا كـــنـــا نـــديـــن لـلـصـفـاقـة اإلســـرائـــيـــلـــيـــة فــــي إفــــشــــال تـــلـــك الـــعـــروض املــــخــــزيــــة، فــــــإن الــــخــــوف األكــــبــــر هــــو مـمـا يحمله املـفـاوض الفلسطيني فـي جعبته مـن «أفـكـار خـاقـة» أخــرى إلخـــراج القدس والـــحـــرم الــشــريــف مـــن مــعــادلــة «تــعــويــق» إقامة الدولة الفلسطينية العتيدة! األردن، الذي له «دور خاص.. في األماكن املـقـدسـة اإلسـامـيـة فــي الــقــدس»، حسب نــص املــعــاهــدة األردنـــيـــة - اإلسـرائـيـلـيـة، عــام ،1994 والـتـي تحيل إليها األدبـيـات الــــســــيــــاســــيــــة األردنــــــــيــــــــة بــــــ «الـــــوصـــــايـــــة الهاشمية»، هـي األخـــرى أضعفت الحق اإلســامــي فــي الــحــرم الـقـدسـي الـشـريـف. كــــــان الـــفـــصـــل بــــني «الــــرعــــايــــة الـــديـــنـــيـــة» و«الــــــســــــيــــــادة» عــــلــــى املــــديــــنــــة الـــقـــديـــمـــة واألمــــاكــــن املـــقـــدســـة فــيــهــا مــوقــفــا لـطـاملـا سـعـت الـــواليـــات املــتــحــدة لتحقيقه منذ زمـــــن رئــــاســــة هــــــاري تــــرومــــان 1945( – ،)1953 وهـــو مــا تحقق تـحـت إدارة بيل كـلـيـنـتـون 1993( – )2001 الــتــي أصـــرت على مأسسة هــذا التمييز فـي املعاهدة األردنـــيـــة – اإلسـرائـيـلـيـة. وعـنـدمـا قامت «هبة القدس»، في أكتوبر/ تشرين األول ،2015 ردًا على االعــتــداءات اإلسرائيلية على املسجد األقصى، ومحاوالت فرض الـــتـــقـــســـيـــمـــني، الــــزمــــانــــي واملــــكــــانــــي، بـني املـسـلـمـني والــيــهــود فـــي الـــحـــرم الـقـدسـي الشريف، تحركت إدارة الرئيس األميركي بــاراك أوبـامـا وفرضت تفاهمات أردنية – فـلـسـطـيـنـيـة – إســرائــيــلــيــة فـــي سبيل «اســــتــــعــــادة الـــــهـــــدوء»، رســــخــــت مــقــاربــة كـلـيـنـتـون لـنـاحـيـة الــفــصــل بـــني الــرعــايــة الـــديـــنـــيـــة لـــأمـــاكـــن املـــقـــدســـة والـــســـيـــادة عليها، ونظمت «زيـــارة غير املسلمني»، أي الـــيـــهـــود، الــــحــــرم. أمــــا األخـــطـــر فــكــان فـــي «وضـــــع كـــامـــيـــرات فــيــديــو أردنــــيــــة - إسرائيلية مشتركة» ملراقبة األوضاع في الحرم القدسي الشريف على مدار الساعة. وحــــتــــى هــــــذه الــــتــــنــــازالت الــفــلــســطــيــنــيــة واألردنـــــيـــــة، يـــبـــدو أنـــهـــا لـــم تــقــنــع بعض األطراف العربية، كالسعودية واإلمارات، فــكــان أن دخـلـتـا عـلـى الــخــط، عـارضـتـني تــــــنــــــازالت أكـــــبـــــر، ســــــــواء عـــبـــر «االتـــــفـــــاق اإلبـراهـيـمـي» فـي حالة اإلمــــارات، أم عبر مـا يــتــداول عـن مـسـاع سعودية ملزاحمة األردن عــلــى دور «الـــرعـــايـــة الـهـاشـمـيـة» للمقدسات اإلسـامـيـة فـي الـقـدس، وهو األمــــر الــــذي دفـــع املــلــك عـبـد الــلــه الـثـانـي، عام ،2019 إلى التحذير علنا مما يحاك ضـد دور بـــاده فـي هــذا املـلـف. وتـعـززت املخاوف األردنية أكثر عام ،2020 بعدما ذكرت وسائل إعام إسرائيلية وأميركية أن نتنياهو زار الـسـعـوديـة ســـرا برفقة وزيـر الخارجية األميركي حينها، مايك بــومــبــيــو، ونـــوقـــش خــــال الــــزيــــارة ملف تحويل «الرعاية الدينية» على األماكن اإلسامية في القدس إلى الرياض. بـاخـتـصـار، معركة الــقــدس ومقدساتها أبعد مـن أن تنتهي اآلن، وكــل مـا يجري هو محاوالت لتأخير الكارثة أو االنفجار الـــقـــادم، إذ ثــمــة إصـــــرار إســرائــيــلــي على حسمها، فـي حـني أن املــواقــف الرسمية، الــفــلــســطــيــنــيــة والـــعـــربـــيـــة واإلســـامـــيـــة، تائهة وضعيفة وغير مبالية. ولوال بقية خشية من املواقف الشعبية الفلسطينية والــعــربــيــة واإلســـامـــيـــة فـــي حــــال وقـــوع اعتداء كبير على املسجد األقصى لربما كانت إسرائيل حسمت املعركة منذ أمد طويل.
معركة القدس ومقّدساتها أبعد من أن تنتهي اآلن، وكل ما يجري محاوالت لتأخير الكارثة أو االنفجار القادم