Al Araby Al Jadeed

مديح الغضب العربي وذُّم أوباما

- عمار السواد

كثيرا ما بشرت األحزاب العقائدية الكبيرة بـغـضـب الــشــعــ­وب. عـلـى بــشــارتـ­ـهــا تـربـيـنـا وتعلمنا فطاملا كانت أحالمنا أن نغضب لننتصر. غضبنا كثيرا على أوضاعٍَ دارت، ثم ذهبت ودارت أخـــرى واسـتـمـر غـضـب نظرنا إليه بــــإجـــ­ـالل. قــبــل أيـــــام فـــي نـــــدوة عـــن الـعـسـكـر واالقـتـصـ­اد فـي مصر، كــان أحــد املتحدثني نــائــبــ­ا فـــي عــهــد الــرئــيـ­ـس املـــصـــ­ري الـسـابـق محمد مرسي. لم يمتلك تصورا علميا عما يجري أو حــدث أو ما يجب. تكلم فقط عن ضــرورة غضب الشعب لالجتثاث. بعد كل اإلخــفــا­قــات والـخـيـبـ­ات والــهــزا­ئــم، مــا زالــت الــلــغــ­ة واحــــــد­ة لـــدى أوســــــا­ط يــفــتــر­ض أنـهـا تعلمت من دروس املاضي. املــشــكـ­ـلــة لــيــســت فــــي غـــضـــب فــــــرد أو قــــوم، هـي فـي التأسيس لـه فكريا، والـبـنـاء عليه سياسيا، ما يعطيه قابلية على الديمومة وتكريس اإلخفاقات. لذا «يتطلب الغضب، ســواء كـان شخصيا أو متعلقا بالعمل أو سياسيا، جـهـدا صـارمـا ضـد عـــادات الفرد والقوى الثقافية السائدة»، كما هي مقولة الــفــيــ­لــســوفــ­ة األمـــيــ­ـركـــيـــ­ة مـــارثـــ­ا نـــوســـب­ـــاوم. وأظــــن أن مـــن أســبــاب فــشــل انــتــفــ­اضــات ما يعرف بالربيع العربي أن املؤسسني للوعي العام انجرفوا خلف الغضب والتأسيِس له بوصفه صـرخـة حــق. أخـفـق الـربـيـع فــي أن يكون ربيعا. حــــِســــن تـــبـــجـ­ــيـــل قــــائـــ­ـِل الـــحـــق فــــي حــضــرة سلطان ظـالـم، تحديدا إذا صــدرت ممن ال يريد أن يكون نصير الفعل الغاشم، وليس فقط الختالف مع السلطان بسبب عقيدته أو والءاتــــ­ـه أو طـائـفـتـه أو قـومـيـتـه… لكن املــســأل­ــة لــيــســت فـــي صــنــاعــ­ة بــــطــــ­والت، بل فـــي الــتــأسـ­ـيــس لــحــيــا­ة أجـــيـــا­ل. ال ينسجم هذا التأسيس بتاتًا مع فوضى «االنفعال املـقـدس». في الربيع العربي، كان الغضب مهمًا لتحريك الناس، بيد أنه لم يكن كافيا استعدادًا ملا هو مقبل. وبمعزل عن تقييم من فشل ومن أفلح، تظهر مؤشرات الواقع فــي الــبــلــ­دان الـنـاطـقـ­ة الــعــربـ­ـيــة، بـاسـتـثـن­ـاء أغلب دول مجلس تعاون الخليج العربي، فـــــي انــــــحـ­ـــــدار. اثـــنـــت­ـــا عــــشــــ­رة ســـنـــة فـــاتـــت، والــــواق­ــــع بــــات أســـــوأ. قـــد يــحــلــو لبعضهم اتهام االنتفاضات بذلك متناسيًا أنه جاء نتيجة عقود من سوء التدبير وسياسات البطش وســيــادة التمييز وقـمـع الحريات

وفـــــوضـ­ــــى االقـــــت­ـــــصــــ­ـاد وتـــفـــت­ـــيـــت الـــطـــب­ـــقـــة الـــوســـ­طـــى وامــــتــ­ــهــــان الـــطـــب­ـــقـــة املــتــوس­ــطــة وسحق الطبقات الفقيرة. غـيـر أن الـغـاضـبـ­ني مــن حـــراك 2011 أو من أجـــلـــه، ظــلــوا مـشـغـولـن­ي طــويــال فــي البحث عن األسباب الخارجية والقوى املتربصة. كـــالـــو­ا الـــتـــه­ـــم هــنــا وهــــنـــ­ـاك، بـــــدءًا بــبــرنــ­ارد لــيــفــي، مــــــرورًا بـتـخـطـيـ­ط الـــغـــر­ب وانـــتـــ­هـــاء بالقول إنها إسرائيل وقـفـت وراء البركان أو خلف إخماده. بيد أن الرئيس األميركي األسـبـق، بـــاراك أوبــامــا، أكـثـر مـن وقــع عليه اللوم. كال الجانبني حمله مسؤولية اندالع االنتفاضات أو فشلها. في جانب يقال إنه أراد تنفيذ برنامجه الـخـاص فـي التغيير عـــبـــر دعـــــم الــــحـــ­ـراك الـــشـــع­ـــبـــي. كـــــأن الـــنـــا­س انـتـفـضـت عـلـى رخــائــهـ­ـا، ولــيــس عـلـى نظم اســـتـــه­ـــتـــرت. وفــــي جـــانـــب آخـــــر، يـــصـــر على الـقـول إنــه كــان سلبيًا ومـتـخـاذا­ل وتـصـرف بوجهني متآمرًا على االنتفاضات ومساعدًا القمع أو االنتفاضات املضادة. لـــيـــس الــــكـــ­ـالم هـــنـــا عــــن أوبــــامـ­ـــا ومــســتــ­وى انسجام أفعاله مع كالمه. في النهاية، كان ذا خطاب خالب، بيد أنه لم يختلف عن أكثر سابقيه والحقيه في السياسات األساسية. ليس هذا املهم، إنما غضب أولئك منه ألنه لم يساعدهم، سواء في الدفاع عن أنظمتهم أو إسقاطها. أمــر يستدعي أسئلة: مـا سر رغـبـِة شاتمي واشنطن ُفـي الحصول على دعمها؟ هل هو استدعاء «الظالم» تجسيدًا ملقولة إنه «سيف الله ينتقم به وينتقم منه» كما يقول التراث اإلسالمي؟ مـــفـــهـ­ــوم أنــــــه خــــطــــ­اب يـــعـــي أهـــمـــي­ـــة الـــدولــ­ـة األقــــــ­ــــــوى، لـــكـــنـ­ــه يـــخـــشـ­ــاهـــا وغــــــاض­ــــــب مــن ســـيـــاس­ـــاتـــهـ­ــا. ومــــفـــ­ـهــــوم أن بـــعـــض أبـــنـــا­ء تــجــارب االنــتــف­ــاضــات تــوقــعــ­وا، مـعـلـنـني أو مسرين، أن تكرر الواليات املتحدة ما فعلته فــي الـــعـــر­اق، رغـــم أن الـــســـو­اد األعــظــم منهم نــــادى بـمـقـاومـ­تـهـا وإرســــــ­ال «املــجــاه­ــديــن/ املــقــاو­مــني» لقتالها. وأيــضــًا مـفـهـوم ألنهم نــظــروا إلـــى تـدخـلـهـا عـبـر حـلـف الـنـاتـو في لــيــبــي­ــا إلســـقـــ­اط مــعــمــر الـــقـــذ­افـــي. ذلــــك كله مـــفـــهـ­ــوم، ألن الـــخـــط­ـــاب الـــســـي­ـــاســـي يـتـغـيـر بحكم املصالح. ما ليس مفهوما هو كيف أمـــكـــن لــنــخــب تـــلـــك املــجــتـ­ـمــعــات أن تـتـوقـع مـــن واشـــنـــ­طـــن الـــتـــح­ـــرك بــمــوجــ­ب املــصــال­ــح األخالقية في العالقة مع الدول األخرى. هناك إشكالية تمس فهم العالقة مع الغرب فـــي وعـــي صـانـعـي الـــوعـــ­ي الـــعـــا­م بـالـبـلـد­ان الــنــاطـ­ـقــة بــالــعــ­ربــيــة، وعــمــومـ­ـا الــــــدو­ل ذات الـغـالـبـ­يـة املـسـلـمـ­ة. هـــذا لــن نــجــده مـثـال في العالقة بني شعب هونغ كونغ وبريطانيا، أو بـني شـعـوب أفريقية ناطقة بالفرنسية مـع بـاريـس أو بـني الصينيني واليابانين­ي والــكــور­يــني الجنوبيني وأمــيــرك­ــا. بالطبع، القضية الفلسطينية وامليل الغربي الكامل نحو إسرائيل عقدة في العالقة، لكن املشكلة أعمق. ملاذا يغضبون من واشنطن كونها ال تساعدهم في حني أنهم يشتمونها شتما ثابتا فــي أدبـيـاتـه­ـم السياسية والدينية؟ لـــــم أرادوا دائـــمـــ­ا دعـــمـــه­ـــا، كــمــا فــعــلــو­ا في أفغانستان قبل عقود، ووقـفـوا ضدها في الوقت نفسه؟ هل هي املصالح التي تتغير أم أنها ازدواجـيـة مقيمة في عقل الشعوب املهزومة واملسكونة بكراهية عقائدية؟ تـتـصـل هـــذه األسـئـلـة بـجـوهـر الـغـضـب مـن االعـــتــ­ـقـــاد املـــتـــ­بـــادل أن الــــغـــ­ـرب وقـــــف وراء االنـــتــ­ـفـــاضـــ­ات أو ســـاعـــد عــلــى إجــهــاضـ­ـهــا. بـبـسـاطـة، إنـــه خــطــاُب تــربــيــٍة سـيـاسـيـة: أن الواليات املتحدة أو البلدان الغربية الكبرى هـــي صــاحــبــ­ة الــــقـــ­ـرار، وأنـــهـــ­ا مـــســـؤو­لـــة عن الـــخـــر­اب، أو يــجــب أن تــكــون مــســؤولـ­ـة، من

َُ جهة. من جانب آخــر، هي املساند والـداعـم الوحيد القادر على فعل األشياء. كأن األمر صراع بني تأليه الغرب وشيطنته. الــعــراق نــمــوذج. ازدواجـــي­ـــة مـثـيـرة للشفقة

ََ أســـرت ساسته بـل حتى شعبه، باستثناء الـــكـــر­د وقـــادتــ­ـهـــم، فـــي الــعــالق­ــة بــواشــنـ­ـطــن. كـــــان ســــاســـ­ـة ســـنـــة يــتــعــش­ــون مــــع الـسـفـيـر رايـن كروكر وقبله زملاي خليل زاد، وما أن يـغـادروا العشاء كـان صراخهم دفاعا عما ســمــوهــ­ا املــقــاو­مــة ضـــد الـــقـــو­ات األمـيـركـ­يـة يـــصـــك األســـــم­ـــــاع. حــــــال ســيــاســ­يــني شــيــعــة كـــثـــيـ­ــريـــن كـــــذلــ­ـــك. اســـــتــ­ـــفـــــا­دوا مـــــن الـــتـــد­خـــل األمـيـركـ­ي واحــتــال­ل بـغـداد وإســقــاط صــدام وفـــرحـــ­وا بـــه ودعــــمــ­ــه عـــديـــد مــنــهــم، مــــن ثــم

ِّ ذهبوا ليعلنوا والءهم لطهران ويحرضوا على واشنطن، وتصبح مليشياتهم جزءا مما يسمونه «محور املمانعة». يـسـتـنـكـ­ر كــثــيــر­ون عــلــى الـــغـــر­ب ازدواجــــ­يــــة املـعـايـي­ـر فــي الـتـعـامـ­ل بــني أوكــرانــ­يــا ودول أخـــرى. وبـعـيـدا عـن الـخـوض فـي املـقـارنـ­ات والـــــفـ­ــــروق بــــني دولـــــــ­ة تـــغـــزو أخــــــرى ودولـــــة تــشــهــد ثـــــورة داخـــلـــ­يـــة تـــقـــمـ­ــع، فــــإن املــوقــف

ََْ الـــرئـــ­يـــس املــخــتـ­ـلــف أن أوكـــرانـ­ــيـــا وضــحــت مـوقـفـهـا صــراحــة وبـــال تــــردد. تـريـد الـغـرب بـدون لبس، وتصرفت بموجب ذلـك. سواء نتيجة ترتيبات مسبقة بني الجانبني أم رد فعل إثر الغزو، يتمسك األوكرانيو­ن بحجم الــدعــم الــغــربـ­ـي ويـضـغـطـو­ن لـــزيـــا­دتـــه. لكن قليلني فــي الــبــلــ­دان ذات الغالبية املسلمة من يجرؤون على فعل ذلـك. الغالبية، ومن ورائها نخب منقادة، تريد دعما بدون طلب، أو بطلب سري. هذا ليس سهال، وإذا أمكن فإنه سيقتصر على مرحلة آنية. الصداقات املـــؤقــ­ـتـــة فــــي الـــســـي­ـــاســـة مـــــوجــ­ـــودة، لـكـنـهـا ليست الــقــاعـ­ـدة املــحــرك­ــة لـسـيـاسـا­ت الـدعـم أو املـسـانـد­ة. يـقـال إن الـربـيـع الـعـربـي خــدم واشـنـطـن، ويــقــال، فــي املـقـابـل، إن االنـقـالب عليه خدمها أيضا. خطاب اللوم هذا متخم بالغضب ونــابــع مــن خـيـبـة، مــن شــعــور ملا يبدو خـذالنـا. وفـي الجوهر ناجم عن عدم تحديد املسارات الحقيقية لسياسة األخذ والعطاء، فحتى في أوكرانيا، يريد الغرب، الـبـيـت األبــيــض خـصـوصـا، صــمــود كييف ووالءهــــ­ــــا وتـــجـــر­بـــة ســـالحـــ­ه ضــــد الــســالح الروسي، وتسعى أوكرانيا، في املقابل، إلى الدعم وإطباق الحصار على موسكو. واضــــح أن بـعـض األنــظــم­ــة، لوحشيتها أو لشبكة تحالفاتها الدولية، لم يكن ممكنا أن تسقط بحراك داخلي غير مدعوم بتدخل عسكري دولـــي مباشر وحــاســم. حـــدث في ليبيا بعد تمرير الغرب قرار تدخِل «الناتو» عبر مجلس األمــن، ولم يحدث في سورية، ألن روسيا عدت درس ليبيا خدعة فحالت دون شـرعـنـتـه. تـدخـلـت هـــي، ومـعـهـا إيـــران وفـــروعــ­ـهـــا، لـحـمـايـة حــلــيــف أصــبــح مــجــرد دمية. في املحصلة، ليس الغرب مستعجال، فليس هو من دعـم بقاء األســد، وال هو من أجـــج الــثــورة عليه. لــه حـسـابـاتـ­ه الخاصة، ويبدو أنـه يستفيد من الحالتني، سقوطه أو اسـتـمـرار­ه كما اآلن ضعيفا وغـيـر قــادر على فـرض وجـوده على كل أراضـي البالد. لواشنطن قاعدة عسكرية وحلفاء مهمون على األرض من الكرد في سورية. فــــي ظــــل هــــــذا، هــــاجـــ­ـر كــــثــــ­يــــرون، وتـــكـــو­نـــت جــالــيــ­ات مــن دول انـتـفـاضـ­ات 2011 داخـــل البلدان الغربية مناهضة األنظمة، وجـود السوريني بينهم هو األكبر واألوضـح. هذا يعطي ميزة مهمة إليجاد نخبة جديدة أو نخب تفكر بحرية أكثر. وبعيدا عن الغضب املنفعل وعــن السعي إلــى اســتــردا­د مـا فات وال يمكن استرداده. نشاهد اآلن أن الوجود اإليــرانـ­ـي فـي مهاجره صــار مـؤثـرا، ويلعب دورا، وأن لـــه مـــراكـــ­ز قـــــوى، ولـــوبـــ­يـــات ذات تأثير في القرارات املتصلة ببالدهم. مرجح أال يــــــؤدي هــــذا إلــــى إســـقـــا­ط الــثــيــ­وقــراطــي­ــة فورا، لكنه سيلعب دورا مهما في املستقبل البعيد، وربما القريب إليران، خصوصا أن النخب الجديدة أكثر ليبرالية من زميالتها. فـــي تــجــربــ­ة أخـــــرى، رأيـــنـــ­ا كــيــف اســتــفــ­ادت الجاليات العراقية في الغرب من وجودها عندما حانت لحظة إسقاط نظام صدام، مع أنها، لألسف، غلبت طابعها ميول اإلسالم

ٍُ السياسي، ما أدى إلـى أن تصبح التجربة بعد نظام «البعث» العراقي تجربة إسـالم سياسي ٍُ مـدفـوعبال­غضب الطائفي. فماذا سيختار البقية ممن تهجروا أو هـاجـروا إثـــر ربـيـعـهـم الــــذي لـــم يـكـن ربــيــعــ­ا: تـجـربـة غضب طائفي أو ديني أو عرقي أو مبنية عــلــى ذاكــــــر­ة كـــراهـــ­يـــة لـــلـــدو­ل الــغــربـ­ـيــة .. أم تجربة ليبرالية؟

أنظمة، لوحشيتها أو لشبكة تحالفاتها الدولية، لم يكن ممكنًا أن تسقط بحراك داخلي غير مدعو ٍم بتدخ ٍل عسكري دولي مباشر وحاسم

إشكالية تمس فهم العالقة مع الغرب في وعي صانعي الوعي العام بالبلدان الناطقة بالعربية، وعمومًا الدول ذات الغالبية المسلمة

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar