هل تفقد حكومة طرابلس الحاضنة اإلقليمية؟
على الرغم من أن القبول اإلقليمي لحكومة الـــوحـــدة الــوطــنــيــة لــــدى تـشـكـيـلـهـا، مــــارس/ آذار ،2021 حيث لقيت تأييدًا ساعدها على تــــجــــاوز الـــقـــيـــود الـــتـــي واجــــهــــت الــحــكــومــات الــلــيــبــيــة الـــســـابـــقـــة، يـــشـــكـــل تـــجـــاهـــل أغـلـبـيـة الـــدول العربية دعـوتـهـا لحضور االجتماع التشاوري لوزراء الخارجية في طرابلس في 22 يناير/ كانون الثاني الحالي مؤشرًا على تغير واسـع في املوقف اإلقليمي، ال يقتصر هــــذا الــتــطــور عــلــى طـبـيـعـة الــتــحــديــات الـتـي تـــواجـــه حــكــومــة طـــرابـــلـــس، بــقــدر مـــا يعكس أهمية أسباب التغير شبه الجماعي ومالمح السياسات اإلقليمية تجاه حكومة طرابلس. ومــــع انـــعـــقـــاد املـــؤتـــمـــر الــصــحــافــي فـــي وزارة الخارجية الليبية، بدت املالحظات األساسية فـي غياب دول عربية كثيرة، بجانب ضعف التغطية اإلعـالمـيـة واقـتـصـارهـا على قنوات محلية. وقـد ارتبطت االنتقادات باملناقشات حـــــول إصـــــــرار الـــحـــكـــومـــة الــلــيــبــيــة عـــلـــى عـقـد االجـــتـــمـــاع بـــــدون تــأكــيــد حـــضـــور املــنــدوبــني وظهور اعتراض بعض الدول، وهو ما يتسق مـــع ســلــوك ســابــق عـنـدمـا أصـــــّرت الـخـارجـيـة الـلـيـبـيـة عــلــى اســـتـــالم رئـــاســـة دورة جـامـعـة الـــدول العربية فـي سبتمبر/ ايـلـول املـاضـي. وفي ظل رئاسة حكومة الوحدة دورة الجامعة الــعــربــيــة، واجـــهـــت رفـــضـــًا مـــتـــزايـــدًا، حــيــث لم يــتــوقــف االعــــتــــراض مـــن مــصــر وانــســحــابــهــا مــــن اجـــتـــمـــاع مـــجـــلـــس الـــجـــامـــعـــة، بــــل تـــزايـــد عندما تجاهلت أغلبية الــدول العربية دعوة الخارجية الليبية إلى اجتماع تشاوري على مستوى وزراء الخارجية، فقد اقتصر القبول بالتعامل مــع حكومة الــوحــدة على الجزائر وتونس من االتحاد املغاربي في مقابل غياب املـــغـــرب ومــوريــتــانــيــا، بــجــانــب غـــيـــاب األمـــني الــعــام للجامعة، لـعـدم تـوفـر الـنـصـاب الـــالزم النعقاد االجتماعات، وهـو ما رأتـه الحكومة الـلـيـبـيـة انــعــكــاســًا التـــســـاع الــتــأثــيــر املــصــري وهيمنته على األمانة العامة للجامعة. وفيما لم تكشف الدول عن أسباب امتناعها، تعتبر مصر حكومة الـوحـدة غير قانونية، فيما تعترف بمشروعية املجلس الرئاسي.
وهنا، تبدو أهمية تفسير زيـادة عدد الدول املمتنعة منذ اجتماع جامعة الدول العربية فـــي سـبـتـمـبـر/ أيـــلـــول املـــاضـــي، واحـتـمـالـيـة تــــحــــولــــه مـــوقـــفـــًا مـــشـــتـــركـــًا، يـــعـــكـــس اتـــســـاع دائــرة خصوم الحكومة الليبية. تبقى داللة االمتناع والقبول أكثر ارتباطًا بالرغبة في التعاون مع الحكومة القائمة أو مقاطعتها، وليس في إثارة االعتراف بالدولة وسيادتها. وبــشــكــل عـــــام، تــســاعــد مــتــابــعــة الــســيــاســات اإلقليمية تجاه الحكومة الليبية في تفسير الــتــغــيــر مــــن حـــكـــومـــة طـــرابـــلـــس خـــــالل فــتــرة قـــصـــيـــرة، حــيــث شـــهـــدت مــرحــلــتــني، اتـسـمـت األولى باالنفتاح الشامل، عندما تمكن رئيس الـحـكـومـة، عبد الحميد الـدبـيـبـة، مـن القيام بــجــوالت خــارجــيــة، شملت كــل الــبــلــدان دون قيود أو تحفظات، فخالل عامها األول، لقيت حكومة طرابلس انفتاحًا إقليميا ساعدها عـلـى بـــدء عــالقــات مــع كــل الــــدول، وبصفتها الحكومة الــوحــيــدة، منذ ،2014 تمكنت من بناء عالقات سياسية واقتصادية مع الدول العربية، بحيث اكتسبت سمعة ديبلوماسية مستقرة. فمن ضمن 27 دولة شاركت أغلبية الـــدول العربية فـي مؤتمر «اسـتـقـرار ليبيا» املــنــعــقــد فــــي طـــرابـــلـــس فــــي يـــنـــايـــر/ كـــانـــون الثاني ،2021 كان منها دول الجوار والـدول املتجاهلة لالجتماع التشاوري في طرابلس، باإلضافة إلى أربع منظمات دولية وإقليمية. وبجانب االنـفـتـاح على دول الخليج، جرت لقاء ات رفيعة ما بني القاهرة وطرابلس، نجم عنها توقيع 14 مذكرة تفاهم في سبتمبر/ أيلول ،2021 شملت التجارة واالقتصاد. فـــيـــمـــا بـــــــدأت املـــرحـــلـــة الـــثـــانـــيـــة، بـــعـــد تــوقــف انتخابات ديسمبر/ كانون األول ،2021 حيث ثار النزاع بشأن مشروعية الحكومة والسعي إلــــى تــشــكــيــل حــكــومــة أخــــــرى، وبـــــدء خـريـطـة طـريـق جــديــدة. ومـنـذ فــبــرايــر/ شـبـاط ،2022 حـدث تغير حـاد في سياسة حكومتي مصر ولـيـبـيـا، حـيـث تشكلت الـعـالقـة بينهما على خلفية عاملني، كان األول بسبب قبول مصر تسمية رئيس حكومة جديدة، فتحي باشاغا، الســتــنــاده لتفاهمات مشتركة بــني مجلسي الـنـواب والــدولــة، وفـي الشهر نفسه، مـن دون االعـتـراف بالحكومة التي تشكلت والتعامل الرسمي معها، أما العامل الثاني، فقد تمثل في استدعاء الخارجية الليبية رئيس البعثة الديبلوماسية املصرية في طرابلس، على أثر كــالم لــواحــد مــن إعـالمـيـي الـقـنـوات الخاصة، شبه فيه العالقة مع ليبيا بما هي بني روسيا وأوكــــرانــــيــــا. وبــجــانــب عــــدم تـــوفـــر مـسـؤولـيـة الــــدولــــة مــــبــــررًا لـــالســـتـــدعـــاء، تــظــهــر الـــصـــورة املــــنــــشــــورة لـــالجـــتـــمـــاع كـــمـــا لــــو كــــــان الـــقـــائـــم باألعمال خاضعًا للمساءلة. شكل هذا املناخ أســـــاس الــتــصــرفــات الــالحــقــة بـــني الــجــانــبــني. وبـــغـــض الـــنـــظـــر عــــن تــــأويــــل رغـــبـــة الــحــكــومــة الليبية في إثبات وضعها القانوني وحقها في ممارسة السيادة، جاء قرارها باالستدعاء في مناخ مفعم بالتوتر واهتزاز الثقة، فعلى نـحـو مـتـتـابـع، ســـارت مـصـر فــي مــشــوار عـدم االعـــتـــراف بـحـكـومـة طــرابــلــس مــمــثــال لليبيا واعتبرتها منتهية فـي 22 يـونـيـو/ حـزيـران .2022 وفي هذا السياق، فسرت إقرار مجلس األمن (القرار )2647 باستمرار خريطة الطريق منطبقًا على املجلس الرئاسي يمثل الجهة الشرعية بجانب مجلسي النواب والدولة. وعـلـى هــذا األســــاس، ســـارت مصر فــي اتجاه وقــف التعامل مـع أي مستوى يمثل حكومة طـــرابـــلـــس، وخــــالل األشـــهـــر املـــاضـــيـــة. رفـضـت مشاركة وزراء اإلعـــالم، الشباب والثقافة في األنشطة الرسمية، منها رفـض مشاركة دور الــنــشــر فـــي مــعــرض الــقــاهــرة لــلــكــتــاب. وهــنــا، يمكن النظر إلى تماسك املوقف املصري نوعًا من رد االعتبار الستدعاء السفير املصري من دون مبرر حقيقي، فمنذ هـذه الواقعة، حدث تــغــيــر جـــــذري فـــي مـــوقـــف مــصــر مـــن حـكـومـة الوحدة الوطنية، ويتضاعف تأثير السياسة املـصـريـة بـمـسـاعـدة عـامـلـني، اتــســاع الـخـالف حــول حكومة الــوحــدة الوطنية داخـــل ليبيا، وعـدم قدرتها على تكوين املصالح املشتركة بـــــني الـــلـــيـــبـــيـــني وعــــــــدم وضــــــــوح ســيــاســتــهــا الخارجية. وعلى املستوى اإلقليمي، تشكل الدول املمتنعة عن حضور اجتماع طرابلس مـركـز الثقل فــي الـجـامـعـة، وتتمتع بالقدرة على تحديد جدول أعمالها. وبجانب التأثير اإلقليمي لدول الخليج، استقر نفوذ املغرب ومـــصـــر خــــالل ســـنـــوات الــــحــــوار الــســيــاســي، بحيث شكلتا مـركـزًا الجـتـمـاعـات الليبيني. تـتـمـتـع هــــذه الــكــتــلــة بــإمــكــانــيــة الــتــأثــيــر في الوضع الليبي. وعلى الوجه املقابل، ترجح نـــــدرة تــفــاعــل الـــجـــزائـــر مـــع شـبـكـة الــعــالقــات اإلقـــلـــيـــمـــيـــة فــــي املــــشــــرق الـــعـــربـــي انــخــفــاض تــأثــيــرهــا فـــي الـــعـــالقـــات اإلقــلــيــمــيــة، لـظـهـور فــروق فـي السياسات الجزائرية واملصرية، تتعلق بموقف الجزائر 25 سبتمبر/ أيلول ،2022 على اعتبار مجلس النواب غير قائم، ولــذلــك، يـكـون االعـــتـــراف الــدولــي بالحكومة بــديــال لـغـيـاب الـشـرعـيـة االنـتـخـابـيـة، وعلى خــالف ذلــك املـوقـف، تجنب البيان الختامي (إعـــــــالن الــــجــــزائــــر) لــلــقــمــة الـــعـــربـــيـــة رقـــــم 31 اإلشـــارة لحكومة طرابلس ممثلة عـن ليبيا واكتفى بتمثيل املجلس الرئاسي والدعوة إلى اإلسراع باالنتخابات. ارتـــبـــط الـــجـــدل بــشــأن جـامـعـة الـــــدول العربية بــضــعــف قـــدرتـــهـــا عــلــى الــتــأثــيــر فـــي الـــشـــؤون الليبية، لكن إذا ما نظرنا إلى تغير السياقات، يمكن مالحظة ارتباط فاعليتها بتقارب مواقف الـحـكـومـات وتـسـانـد املـكـونـات الليبية. فهي، بوصفها منظمة إقليمية، شكلت املطلة األولية للتصرفات الدولية. والحـقـًا، كانت الحاضنة اإلقليمية للحكومات الليبية الجديدة. ووفق الـــتـــطـــورات الـــجـــاريـــة، تــتــزايــد احــتــمــاالت فتح الــنــقــاش بــشــأن مـشـروعـيـة حـكـومـة طـرابـلـس، تـــحـــت دعـــــــــاوى مــخــالــفــتــهــا مـــجـــلـــس الــــنــــواب وعـدم القدرة على بسط سيطرتها على كامل األراضي أو تباطؤ إجراء االنتخابات، ويساعد تـالقـي دول كـثـيـرة عـلـى مــوقــف مــتــقــارب على تكوين أرضي ٍة مشترك ٍة ملخاطبة األمم املتحدة، بحيث تقوم على تهديد أمن دول الجوار واألمن اإلقــلــيــمــي. وعــلــى مـســتــوى الـــشـــؤون الليبية، يــــرجــــع ضـــعـــف دور الـــجـــامـــعـــة فــــي إجـــهـــاض تحالف فجر ليبيا لتماسك الــروابــط املوالية لـثـورة 71فـبـرايـر. ال تتوفر هــذه املـيـزة، حاليًا، لحكومة الوحدة، حيث تتشكلّ من خليط من تركيبة مصالح أكثر منها توجهًا أو شبكات سياسية مستقرة، ولذلك، ال تبدو مناعتها في مـقـاومـة االســتــهــداف اإلقليمي مماثلة لحالة التحالفات الـثـوريـة، وخصوصًا مـع انحسار الظهير االجتماعي للحكومة. على أيــة حـال، يحدث التباعد اإلقليمي مع حكومة طرابلس فـــي ظـــل مـــحـــاوالت أمــيــركــيــة لــتــرويــج تـقـاسـم السلطة بـني األطــــراف الرئيسية فـي طرابلس وبــنــغــازي، وتقديمه حــال للحكومة املــوحــدة، غــيــر أن عـــوامـــل الــتــنــافــر، لـيـبـيـًا وإقــلــيــمــيــًا، ال تساعد على التوصل إلى تفاهم بشأن خريطة املــصــالــح املــشــتــركــة. ولـــذلـــك، تـــزيـــد الــتــطــورات األخـيـرة مـن احتمالية تكوين مـوقـف مشترك الستبعاد مشاركة ممثلني عن حكومة الوحدة الوطنية في الجلسات الرسمية وتقليل فرص االلتقاء معهم.
يحدث التباعد اإلقليمي مع حكومة طرابلس في ظل محاوالت أميركية لترويج تقاسم السلطة بين األطراف الرئيسية في طرابلس وبنغازي
تشكل الدول الممتنعة عن حضور اجتماع طرابلس مركز الثقل في الجامعة، وتتمتع بالقدرة على تحديد جدول أعمالها