Al Araby Al Jadeed

شعرية الملحوظات اليومية

ڤكتور رودريغيس نُونْيس ال أكتُب قصائَد بل أكتُب شعرًا

- تحسين الخطيب

إن كان من سمة تميز كتابة الشاعر الكوبي فهي الغموض المحير، وهذا ما التفتت إليه كاثرين هيدين التي انتقت من مجموعاته العشر األخيرة مختارات له وترجمتها

ال عامات ترقيم أبدا، في القصيدة الـــراهــ­ـنـــة الـــتـــي يــكــتــب­ــهــا الــشــاعـ­ـر الـــــكــ­ـــوبـــــ­ي ڤــــكــــ­تــــور رودريـــــ­غـــــيـــ­ــس نــونــيــ­س (بـحـسـب اإلسـبـانـ­يـة املـنـطـوق­ـة في كوبا؛ أو: بكتور رودريغيث نونيث، بحسب اإلســـبــ­ـانـــيـــ­ة الــقــشــ­تــالــيــ­ة الــــقـــ­ـاعــــديـ­ـــة)، وهـــي استراتيجية تعيد إلى األذهان ما درج عليه الشاعر األميركي دبليو. إس. ميروين 1927( - )2019 في آخر ثاثن سنة من حياته، حن عــزف تماما عـن اسـتـخـدام عـامـات الترقيم الــتــي كــــان يــــرى أنـــهـــا «تـنـتـمـي إلــــى الــنــثــ­ر»، فـتـحـد مــن حـركـة الــتــدفـ­ـق الطبيعي للكام، عـلـى الـــــورق، و«تـــكـــبـ­ــل» حــريــتــ­ه، فـــ«نــحــن ال نستخدم عامات الترقيم في كامنا اليومي البتة، وال نستخدمها، كـذلـك، حـن نغني». هي محاولة، إذن، إلى إعـادة القول الشعري إلـــى فـطـرتـه األولــــى، إن جـــاز لــي الــقــول: إلـى نشيده الهادر الذي تظل أصداؤه تتردد

ٌَ - حــتــى بـعـد انــتــهــ­اء الــقــول نــفــســه - إلـــى أبـد اآلبـديـن. إنها قصيدة سيالة: تنبع من جهة مــعــيــن­ــة، كــالــنــ­هــر، وتـــظـــل جـــاريـــ­ة، ســـطـــرا إثــر سطر، وبيتا إثــر بـيـت، مفتوحة على جهات

‪ٍَ َِّّ‬ املعاني كلها؛ فا حـدود للقصيدة، وال شكل يــعــوق حـــريـــة انــســيــ­ابــيــتــ­هــا. ثــمــة نـقـطـة بــــدء، ولـكـن ال تـوجـد نقطة نهاية أبـــدا: يظل القول الـشـعـري فــي حـالـة دفــــق، حـتـى بـعـد االنـتـهـا­ء من القول (وال أقول: بعد االنتهاء من الكتابة) فـي اللحظة املـخـتـار­ة تـلـك؛ فالشاعر ال يضع نـقـطـة انــتــهــ­اء الــكــام النقطة الختامية full( ،)stop حــن ينتهي مــن القصيدة (وال أقـــول: حن تنتهي القصيدة)، ألنه، بذلك، ينتهي من الـقـول الشعري فحسب، ولـكـن القصيدة، من حيث هــي، ال تنتهي أبـــدا، بـل تظل مفتوحة، هكذا، على الفضاء: فضاء الصفحة البيضاء الذي هو كل فضاء آخر في هذا الكون الوسيع. هي القصيدة التي تسعى إلى أن تحتوي كل شيء في طيات وجودها، الذي يتعدد بتعدد طيات املعاني الثاوية في نسيج اللغة. كـــــــأن الــــشـــ­ـاعــــر، فــــي ســـعـــيـ­ــه هـــــــذا، يـــبـــحـ­ــث عـن صلصال اللغة النقي، الذي ال شية فيه، وعن األصل الذي تشكل منه الكام، منذ البدء، كي يعثر على «الـشـكـل األم»، أو «شـكـل األشـكـال جـــمـــيـ­ــعـــا»، والــــــذ­ي ال يـــكـــون إال فـــي «انـــعـــد­ام الشكل»، خاصة حن يقول في قصيدة «سوف

‪ًُ ُُّ‬ أخــــرج مـنـك حــــادا مـثـل خـنـجـر»: «الـصـلـصـا­ل الـــنـــق­ـــي/ جـمـيـل ألنـــــه يـــريـــد/ أن يـــكـــون شـكـا آخـــــــر»، أو حـــن يـــقـــول، فـــي الــقــصــ­يــدة ذاتـــهـــ­ا: «أيتها الصفحة الفارغة/ ال أجـد نفسي إال/ حيث ال أكـون». وال يتحقق هذا «الشكل الذي بـــا شـــكـــل» إال بــانــســ­يــابــيــ­ة الـــلـــغ­ـــة، بـتـدفـقـه­ـا الفطري. وهـذه االنسيابية، في الصنعة، هي التي دفعت الشاعرة البريطانية الورا سكوت

إلـى وصـف ڤكتور نونيس بأنه «فنان بـارع، وهذا ما يمنحه أريحية جذابة، كمثل شخص يـعـرف أن قـصـائـده ســاحــرة، ولـكـنـه قــد عـرف ذلـــك، مـنـذ أمـــد بـعـيـد، حـتـى كـــاد أن ينساها» (مجلة «ذا نورث»، ربيع ،2014 العدد .)52 ولـــكـــن هــــذا الـــزهـــ­د فـــي اســـتـــخ­ـــدام الــعــامـ­ـات والــرمــو­ز االصطاحية الـتـي تـنـظـم الكتابة، يـذكـرنـا، أيـضـا، بالشاعرة إيميلي ديكنسن 1830( - ،)1886 إحـــدى أبـــرز رمـــوز الشعرية األمـــيــ­ـركـــيـــ­ة، الـــتـــي اســتــعــ­اضــت عـــن عــامــات الـــتـــر­قـــيـــم، فـــي نــظــم قـــصـــائ­ـــدهـــا، بــاســتــ­خــدام

َُّّ الــــشـــ­ـرطــــة/ الـــشـــح­ـــطـــة ؛dash وهـــــو تـــصـــرف يـعـد ثــوريــا، وفـق نظرية النظم التي سـادت عصرها، حتى باتت عامتها الـفـارقـة. أدت استراتيجية ديكنسن، هـذه، إلى أن تنطوي أبـــيـــا­تـــهـــا الـــشـــع­ـــريـــة عـــلـــى غــــمــــ­وض مـــحـــيـ­ــر، فتحتمل أكـثـر مــن مـعـنـى، وأكــثــر مــن قـــراءة، إلى الحد الذي دفع بعض محرري الطبعات املختلفة ألعمالها الشعرية الكاملة 1800( قصيدة)، إلى إعادة موضعة عامات الترقيم فــي الـقـصـائـ­د، وفـــق األعــــرا­ف الـسـائـدة (بـنـاء على «ذائقة» املحرر، بالطبع، ومدى «خصب» خياله)، كي يتمكن القارئ املعاصر من فهم أشعارها بساسة. إن هذا الغموض املحير الــــذي يــنــتــج أكــثــر مــن مـعـنـى، ويــفــرض أكـثـر من قراءة، هو ما يسعى إليه ڤكتور نونيس فــي األشـــعــ­ـار الــتــي ضـمـهـا كــتــاب املــخــتـ­ـارات الـــجـــد­يـــد، الــــصـــ­ـادر بــاإلنــك­ــلــيــزي­ــة، فـــي لــنــدن، أواخــــر عــام ،2022 واملنتقى مــن مجموعاته الشعرية العشر املنشورة على مدار عشرين عـامـا، بـن 2000 - ،2021 بترجمة صنعتها األميركية كاثرين هيدين )1971( تحت عنوان «ماهية ثورية» ‪.)rebel matter(‬ ناحظ، هنا، أيضا، أن الحرفن األولن من كلمتي العنوان قــد خــطــا بــحــرفــ­ن صـغـيـريـن ،small وليسا كـبـيـريـن Capital بحسب األعــــرا­ف الــدارجــ­ة؛ وهـــي سـمـة أســلــوبـ­ـيــة أخـــــرى، عـنـد الـشـاعـر، سوف نأتي على ذكرها في األسطر الاحقة. والعنوان، في حد ذاته، عبارة منتقاة بعناية مــأخــوذة مــن قـصـيـدة فــي الــكــتــ­اب، أرى أنها تلخص «جـوهـر/ ماهية» الكتابة الشعرية

ُْ عـــنـــد نـــــونــ­ـــيـــــس: فـــفـــي الــــوقــ­ــت الــــــذي «ضـــلـــت فـيـه فــنــون الــشــعــ­ر طـريـقـهـا»، كـمـا يــقــول في

‪ُُّ ًَّ‬ ديوانه «محاضر الليل»، فإن «األغنية تبدأ/ حـيـث تنتهي األقــــوا­ل جـمـيـعـا»؛ ولــهــذا تظل القصيدة، عنده، مفتوحة على اتساع مدى الــلــغــ­ة، واتـــســـ­اع مــــدى املــخــيـ­ـلــة، دون نـهـايـة أبدا، حيث «السماحة والتناغم والوضوح»، فــيــكــت­ــفــي الــــشـــ­ـاعــــر بــــاإليـ­ـــقــــاع، وبــالــحـ­ـقــيــقــ­ة الــلــغــ­ويــة الــتــي يـفـرضـهـا ذلـــك اإليـــقــ­ـاع، حن «تقتفي األفكار أثار أنفسها» - كما يقول في قـصـيـدة «لــطــخــا­ت أو شــــيء غـيـر خــائــف من الضوء» - في «دائرة ثنائية القطب» حيث «ال يكتمل الـسـطـر الـشـعـري» فيغدو، فـي سعيه إلى الكمال، «ماهية ثورية». كــمــا أن الــقــصــ­يــدة، عــنــد نــــونـــ­ـيــــس، عــضــويــ­ة .)organic( فـهـي ال تــبــنــى مــن الـــخـــا­رج بـــقـــدر مـا تتشكل مـن الــداخــل. وال تكاد تختلف في حـيـاتـهـا الــســريـ­ـة، قـبـل خــروجــهـ­ـا إلـــى الـعـلـن، عـــن حـــيـــاة الــكــائـ­ـن الـــحـــي املــتــعـ­ـضــي (الــكــائـ­ـن الــعــضــ­وي) فـــي عــاقــاتـ­ـه املــتــبـ­ـادلــة؛ لــيــس مع مكوناته هو فحسب، وإنما مع املحيط الذي يحيا فـيـه أيــضــا. فـالـقـصـي­ـدة، وفـــق تـطـورهـا الــعــضــ­وي، كــائــن حـــي مـتـعـدد الــخــايـ­ـا، حيث تعمل كــل خلية على بناء نسيجها الخاص الـــذي يـتـسـق فــي الـنـهـايـ­ة مــع الـنـسـيـج الكلي ويـــتـــح­ـــد فــــيــــ­ه. ألـــــم يـــقـــل الـــشـــا­عـــر فــــي إحــــدى قصائده إنه «يشيد الشعر خايا»؟ ولتحقيق هـــذه الـسـمـة، يعتمد الـشـاعـر على نظام التقطيع ‪،)line breaks(‬ في تحديد طول السطر/ البيت الشعري. هنا، تغدو أنفاسه هـي عـامـات الترقيم فـي الحقيقة. وهـــو، في هــــذه األثــــنـ­ـــاء، يـتـلـو الــقــصــ­يــدة بـــصـــوت عــــال، ملتقطا األصـــــو­ات بــأذنــيـ­ـه (تــغــدو األذن، في

ثمة نقطة بدء في شعِره، ولكن ال توجد نقطة نهاية أبدًا

بحٌث عن صلصال اللغة النقي واألصل الذي شّكل الكالم

هـــذه الـلـحـظـة، أداة قـــيـــاس أيـــضـــا)، فـيـتـوقـف حني يتحقق التأثير املطلوب، ويمضي دون توقف إلى أن يعثر على غايته املنشودة. شيء يذكرنا بطرائق التجريب عند «شعراء الجبل األســـــو­د» ‪Mountain Poets(‬ ؛)Black شـعـراء تيار «الشعر األميركي الجديد»، شعراء «ما بعد الحداثة»، كروبرت كريلي وهيلدا مورلي وروبـرت دنكن وتشارلز أولسن، الذين سعوا إلـى االبتعاد عن النظم التقليدية في النظم،

مكرسني أنفسهم إلـى طرائق القول الشعري (أو: البويطيقا )poetics في حد ذاتها، وليس إلــى أعــرافــه التقليدية املــتــوا­رثــة: كيف تعمل القصيدة، أو كيف تحدث التأثير الذي يسعى إليه الشاعر. وال تـكـاد تختلف طــرائــق الـنـظـم عـنـد فكتور نــونــيــ­س عــن تـلـك الـتـي ضـمـهـا «مانيفستو» هــذه الجماعة، الـصـادر عــام 1950 تحت اسم «الـــشـــع­ـــر اإلســـقــ­ـاطـــي» ‪،)Projective Verse(‬ واإلسقاطي، هنا، هو الذي يقدم مادة غامضة أو بال أي شكل محدد أبدا، أو «الشعر املفتوح» ،)Open( بحسب تسمية أخـرى، ونالحظ هنا مـــدى دقــــة الــعــبــ­ارة بــاســتــ­خــدام لـفـظـة ،verse وليس ؛poetry وهــي لفظة تـركـز على نظرية الــنــظــ­م: الــطــرائ­ــق والــصــنـ­ـعــة والـــفـــ­ن، أكــثــر من تركيزها على اللغة من حيث هي. وهي دعوة كــانــت قــد اســتــجــ­ابــت، فــي األصــــل، إلـــى دعــوة الشاعر األميركي عـزرا پاوند 1885( - )1972 حـني نـاشـد الـشـعـراء الـشـبـاب بــ«الـتـألـيـ­ف في حــدود الـعـبـارة املوسيقية، وليس فـي حـدود بندول اإليقاع». ولــــذا، نـجـد ڤـكـتـور نـــونـــي­ـــس يــؤلــف قـصـائـده «وفق الحقل ؛»field فإذا كانت املقاطع اللفظية syllables هــــي الـــتـــي تــــكــــ­ون الــســطــ­ر/الــبــيــ­ت الـــشـــع­ـــري، فــــإن األســــطـ­ـــر/ األبــــيـ­ـــات هـــي الـتـي تكون الحقل» الــذي هو فضاء مفتوح. تغدو القصيدة، عنده، على شاكلة «شـعـراء الجبل األســــود»، فــضــاء مفتوحا ال يــحــده شـــيء؛ أو تغدو حقل فعل/ حركة ‪Field of Action‬ - أو حلبة صـــراع تـتـصـارع فـيـه الـلـغـة مــع نفسها لــتــعــث­ــر عــلــى نــفــســه­ــا - كــمــا هـــي الـــحـــا­ل عند الشاعر وليام كارلوس وليامز 1883( - )1963 أحــــد أقـــطـــا­ب الـــحـــد­اثـــة الــشــعــ­ريــة فـــي أمــيــركـ­ـا. هــنــا، يصغي الشاعر إلــى اللغة كـي يكتشف «الشكل» الذي تود أن «تنكتب» به/ وفيه. كما أن نونيس ال يستخدم األحــرف الكبيرة ‪،upper case‬ ســـواء فـي عـنـاويـن القصائد، أو في مفتتح الجمل، أو حتى في املواضع التي ال بد أن تكون بأحرف كبيرة كضمير األنا I، على سبيل املثال، حيث يكتبه بحرف صغير ‪.lower case‬

إلى اإلنكليزية، ُمضّمنة إياها في كتاب بعنوان «ماهية ثورية» يظهُر انفتاح القصيدة عنده على مدى اللغة واتساعها عند واحد من أبرز الشعراء المعاصرين

(شاعر ومترجم أردني فلسطيني)

 ?? ??
 ?? (العربي الجديد) ?? ڤكتور رودريغيس نُونِْيس يقرأ في «مهرجان أثينا الدول ّي للشعر» عام 2019
(العربي الجديد) ڤكتور رودريغيس نُونِْيس يقرأ في «مهرجان أثينا الدول ّي للشعر» عام 2019

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar