Al Araby Al Jadeed

صور تذكارية مبتسمة عند جدار الفصل العنصري

- حمور زيادة

على واجهة البرملان األملاني (البوندستاغ) رأيت جملة مضيئة في الليل تقول «نحن نتذكر». .. لوهلة ظننت أنها تذكرة بكم املآسي التي عاشتها أملانيا بني الحكم النازي، ثم مآسي التقسيم. عزز عندي هذا الظن أني تحركت في زيارتي معالم برلني من مبنى البرملان لزيارة بقايا سور برلني، فرغم انهيار السور عام ،1989 وووحدة األملانتني عام ،1990 إال أن السور لم يهدم بالكامل. ظل هناك يذكر األملان بما حدث. ووقــفــت عـنـد الــســور املــزيــن بــرســوم الـغـرافـي­ـتـي املــلــون­ــة، والـتـقـطـ­ت بـعـض الـصـور التذكارية. وهو ما كان صعبًا عند سور مشابه، وقفت أسفله في مدينة قلقيلية في فلسطني. الجدار اإلسرائيلي العازل، جدار الفصل العنصري الذي يختبئ خلفه اإلسرائيلي­ون ويحبسون في ناحيته األخرى الفلسطينين­ي. عندما اقتربت من هذا الجدار اإلسرائيلي في 2017 توتر جنود جيش الدفاع، وأشهروا أسلحتهم. ال شك أن جنودًا أملانًا شرقيني وقفوا عند سور برلني، عند النقطة نفسها التي التقطت عندها صــورة تذكارية، وتـوتـروا ورفـعـوا أسلحتهم. بل لعلهم أطلقوا الـنـار. عند البرملان األملاني، جـوار النهر، صور لبعض ضحايا محاوالت عبور سور برلني. أملان سقطوا برصاص الجنود املتوترين. في فيلم ستيفن سبيلبرغ وتوم هانكس «جسر الجواسيس» مشهد صادم لعمليات إعدام من يحاولون الهروب عبر السور. بعدها بسنوات، وفي حياة األشخاص أنفسهم الذين كان سور برلني بالنسبة لهم حقيقة قائمة ال تتزحزح، وآمنوا بأن الروس جاءوا ليبقوا، وأن سور برلني سيظل من حقائق الحياة مثل شروق الشمس والجبال. في حياتهم تحول السور إلى مزار سياحي لطيف، يلتقط الناس صورًا عنده وهم يبتسمون. وكان ثمن االقتراب منه هو املوت. بشكل مـا ذكـرنـي بذلك مشهد أطـفـال مصريني يلعبون الـكـرة ويصخبون أمـام مسجد الحاكم بأمر الله في ّالقاهرة الفاطمية قرب ُباب الفتوح. الحاكم بامر الله الطاغية املجنون الذي كان يعن له منع أكل امللوخية، فيصدر بذلك قرارًا. وإذا ناوشه جنونه قـرر أن ينام الناس صباحًا ويعملوا ليال. الحاكم الـذي كان يتفقد رعيته فإن وجد خطأ أمر تابعه أن يعتدي على املخطئ جنسيًا، في السوق؛ وأمام الناس. انتهى زمن هذا الحاكم املجنون املهاب، وصار الصبية يلعبون الكرة أمام مسجده بال وجل. لو كان حيًا ربما ألمر بسلخهم أحياء، وسلق أهاليهم في قدور ماء مغلية. لكنه لم يعد هنا. ولم يعد هناك من يهابه. بل ربما لو عاد من اختفائه الغامض الذي لم يحسمه التاريخ منذ القرن الحادي عشر امليالدي للقي مصير شمس الدين. في رواية نجيب محفوظ «الحرافيش»، فوجئ شمس الدين عاشور الناجي بطفل يشتمه: أيها العجوز األعمى. .. كانت سنوات أسطورة شمس الدين قد تالشت، ونـشـأت أجـيـال ال تهتم بأنه الفتوة. ربما أحـفـاد طفل الــروايــ­ة هـم أجـــداد األطفال الالعبني في ساحة مسجد الحاكم. لم يعد الرجل الـذي حـّرم لبس القباقني على النساء مخيفًا. أصبح مجّرد قصة، ومسجده ذكرى... كما سور برلني، هو ذكرى لكي ال ننسى. لكنه ما عاد مرعبًا، أما العبارة التي وضعها البرملان األملاني أمام مقّره فهي حملة تستمر منذ 23 يناير إلـى 29 يناير لتذكر العالم بذكرى ستة ماليني يهودي ماتوا تحت حكم النازية. لم تكن هناك لتذكر أي شيء إال هذا... يتعاطف املرء بال جدال مع هؤالء الضحايا. ويعلم أن دماءهم ودماء غيرهم من معارضي النازية من األملان، والغجر، والبولندين­ي والفرنسيني والروس واإلنكليز، وأبناء املستعمرات الذين سيقوا إلى حرب لم يطلبوها، دماءهم جميعًا كانت ثمنًا غاليًا لبناء عاملنا اليوم. عالم يعتمد جزء من شرعيته على أنه يتذكر الجرائم ضدّ اإلنسانية وال يقبلها... لذلك أعرف أن هناك يوما سيأتي تكون فيه عبارة «نحن نتذكر» أمام البرملانات األوروبية والعربية والكونغرس األميركي إلحياء ذكرى معاناة الشعب الفلسطيني... وسيلتقط سائح عابر صورة تذكارية عند بقايا الجدار العنصري وهو يبتسم.. ألن التاريخ علمنا ذلك.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar