Al Araby Al Jadeed

تحطيم المجتمع يحطم الهوية

- سمير الزبن

سؤال الهوية ال ينضب، فهو يعالج واحدة مـن أهــم وأعـقـد القضايا التي تناقش في العقود األخيرة، وهي تبدو ثابتة ونتاج مرحلة تاريخية طويلة ومعقدة، ونتاجا مــوضــوعـ­ـيــا ال يــمــكــن الــتــحــ­كــم بــــه، لكننا اليوم نعرف أن الهويات، بما فيها الهوية الــقــومـ­ـيــة، اخـــتـــر­اع حـــديـــث، فــهــي مـتـغـيـرة ومـن املمكن التحكم بها والتأثير عليها، فــشــكــل الـــجـــم­ـــاعـــات الـــبـــش­ـــريـــة وتــعــريـ­ـفــهــا ذاتـــهـــ­ا وتــعــريـ­ـف األفـــــر­اد أنـفـسـهـم، والـــذي يــبــدو أنـــه نــتــاج تـــطـــور مــوضــوعـ­ـي ذاتـــي، يقع دائـمـا تحت تأثيرات وضـغـوط تدفع الجماعات واألفراد لتعريف أنفسهم على هذه الصورة أو تلك. ال يحمل املجتمع الــواحــد هــويــة واحـــدة، فالهويات الجزئية هـي املــكــون الرئيسي للجماعات الفرعية، فحتى عندما تحمل املـجـتـمـ­عـات هــويــة جـامـعـة، فـإنـهـا تعاني مــــــن تــــنــــ­اقــــضـــ­ـات وصـــــــر­اعـــــــا­ت الــــهـــ­ـويــــات ذاتــهــا، عندما يتم النظر إليها بوصفها جــمــاعــ­ات تـحـمـل هــويــات فــرعــيــ­ة، ويمكن إدارة الــهــويـ­ـات املــتــصـ­ـارعــة سـيـاسـيـا في إطار تصالحي تعددي، كأن يدار املجتمع بعملية ديمقراطية تحسم الصراعات، عبر قــواعــد الــصــراع الـديـمـقـ­راطـي، بتنظيمها عــبــر عـمـلـيـة مــقــنــو­نــة بـــقـــوا­عـــد دســتــوري­ــة مــــتــــ­وافــــق عـــلـــيـ­ــهـــا مـــــن الـــجـــم­ـــيـــع ومـــلـــز­مـــة للجميع، يقبل املـتـصـار­عـون فيها نتائج الــصــراع مـؤقـتـا، على أســـاس أن استمرار الـــصـــر­اع عــبــر اآللـــيــ­ـة الــديــمـ­ـقــراطــي­ــة يمنح الـخـاسـر فـي املـــرة األولـــى أن يــعــدل ميزان الــقــوى ملصلحته فــي املــــرة املـقـبـلـ­ة، أي أن العملية الديمقراطي­ة مفتوحة، وال تغلق عــلــى نــتــائــ­ج آنـــيـــة، فـــهـــي، حــتــى لـــو كـانـت محكومة بسقوف قوية، فإنها تمنح األمل لــلــجــم­ــاعــات األقـــلــ­ـيـــة بــاملــعـ­ـنــى الــســيــ­اســي أن تـــتـــحـ­ــول إلـــــى أغـــلـــب­ـــيـــة، كـــمـــا تـمـنـحـهـ­م الــحــق فــي الـتـعـبـي­ـر عــن أنـفـسـهـم بالشكل الديمقراطي الحر، حتى لو بقوا أقلية، أي أنـه ليس مـن مهام األغلبية الديمقراطي­ة اســـتـــئ­ـــصـــال األقــــلـ­ـــيــــة. مـــــا الــــــــ­ذي يــحــصــل عـنـدمـا ال تـجـد الــهــويـ­ـات الـفـرعـيـ­ة قـواعـد ديمقراطية تجعلها قـــادرة على التعبير عن ذاتها؟ وما الذي يحصل عندما تقمع السلطات الحاكمة هذه الهويات، وتعمل على إلغائها باألساليب القمعية؟ وكيف تستطيع الـجـمـاعـ­ات الـهـامـشـ­يـة الحفاظ على هويات فرعية، وهي تتعرض للقمع الشديد من السلطات؟ يمكن القول احتياطا إن صراعات الهوية تحاول أن تحجب الصراعات السياسية، وتنقل املـسـمـيـ­ات إلــى مـجـال آخـــر، بحيث يــــخــــ­رج الــــــصـ­ـــــراع الــــهـــ­ـويــــاتـ­ـــي مـــــن مـــجـــال الصراع السياسي، ليعطى صفات أخرى تــــبــــ­عــــده عــــن إطــــــــ­اره الـــطـــب­ـــيـــعــ­ـي، بــوصــف الـصـراع يقع فعليا فـي املـجـال السياسي. ولكن نقل هذا الصراع ومنحه إطـارًا آخر يجعله يبدو أقل خطرًا على السلطة التي تــــحــــ­اول االحـــتــ­ـفـــاظ لــنــفــس­ــهــا بـــكـــل مــجــال الــقــوة، واحـتـكـار­ه بشكل نـهـائـي، وإخـــراج الجماعات السياسية منه، بالتركيز على هــويــتــ­هــا الـــفـــر­عـــيـــة، بــوصــفــ­هــا هــــويـــ­ـة مـن املـمـنـوع الـحـديـث عنها. وبـالـتـال­ـي، يأخذ املــنــع املـعـنـى االجــتــم­ــاعــي، إلـــى حــد كبير، فــي الــوقــت الـــذي يــكــون جــوهــره سياسيا بـامـتـيـا­ز. ولـكـن هــذه الـهـويـات الـتـي تبدو غــيــر خـــطـــرة فـــي األوقـــــ­ـات الـــعـــا­ديـــة، ويـتـم دفعها إلى التعبير عن نفسها، عبر طرق ملتوية، وعبر التقية، بإخفائها عبر ادعاء هوية على غير حقيقتها، ما يحولها إلى حــالــة انــفــجــ­اريــة، وبــالــتـ­ـالــي إلــــى هــويــات قاتلة. في األوضاع العادية تتغير الهوية ببطء، لــكــنــه­ــا فــــي الــــصـــ­ـراعــــات الــعــنــ­يــفــة، والـــتـــ­ي تـــطـــول، تــقــع بـــن االنـــتــ­ـكـــاســـ­ة والــتــحـ­ـطــم، فـــالـــه­ـــويـــة الـــجـــا­مـــعـــة الـــتـــي تــــدعـــ­ـي الـــدولــ­ـة أنها تمثل كل مواطنيها من دون تمييز، سـرعـان مـا تنفجر فـي صـــراع دمـــوي، بن املكونات االجتماعية ذاتـهـا، حيث تطاح قــــشــــ­رة الــــهـــ­ـويــــة الـــجـــا­مـــعـــة مـــنـــذ الــلــحــ­ظــة األولــى التي تستخدم فيها الدولة أدوات الــقــمــ­ع ضـــد مـواطـنـيـ­هـا املـخـتـلـ­فـن معها، والــذيــن يطالبون بحقوقهم فـي مواجهة مصادرتها من الدولة. أكـــتـــب هــــذا املـــقـــ­ال، وفــــي ذهـــنـــي الــنــمــ­وذج السوري من الصراع الدموي، فكيف يمكن الــنــظــ­ر إلــــى الـــهـــو­يـــة الـــســـو­ريـــة الــجــامـ­ـعــة، والــــهــ­ــويــــات الـــفـــر­عـــيـــة املـــكـــ­ونـــة لـلـمـجـتـ­مـع

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar