تحطيم المجتمع يحطم الهوية
سؤال الهوية ال ينضب، فهو يعالج واحدة مـن أهــم وأعـقـد القضايا التي تناقش في العقود األخيرة، وهي تبدو ثابتة ونتاج مرحلة تاريخية طويلة ومعقدة، ونتاجا مــوضــوعــيــا ال يــمــكــن الــتــحــكــم بــــه، لكننا اليوم نعرف أن الهويات، بما فيها الهوية الــقــومــيــة، اخـــتـــراع حـــديـــث، فــهــي مـتـغـيـرة ومـن املمكن التحكم بها والتأثير عليها، فــشــكــل الـــجـــمـــاعـــات الـــبـــشـــريـــة وتــعــريــفــهــا ذاتـــهـــا وتــعــريــف األفـــــراد أنـفـسـهـم، والـــذي يــبــدو أنـــه نــتــاج تـــطـــور مــوضــوعــي ذاتـــي، يقع دائـمـا تحت تأثيرات وضـغـوط تدفع الجماعات واألفراد لتعريف أنفسهم على هذه الصورة أو تلك. ال يحمل املجتمع الــواحــد هــويــة واحـــدة، فالهويات الجزئية هـي املــكــون الرئيسي للجماعات الفرعية، فحتى عندما تحمل املـجـتـمـعـات هــويــة جـامـعـة، فـإنـهـا تعاني مــــــن تــــنــــاقــــضــــات وصـــــــراعـــــــات الــــهــــويــــات ذاتــهــا، عندما يتم النظر إليها بوصفها جــمــاعــات تـحـمـل هــويــات فــرعــيــة، ويمكن إدارة الــهــويــات املــتــصــارعــة سـيـاسـيـا في إطار تصالحي تعددي، كأن يدار املجتمع بعملية ديمقراطية تحسم الصراعات، عبر قــواعــد الــصــراع الـديـمـقـراطـي، بتنظيمها عــبــر عـمـلـيـة مــقــنــونــة بـــقـــواعـــد دســتــوريــة مــــتــــوافــــق عـــلـــيـــهـــا مـــــن الـــجـــمـــيـــع ومـــلـــزمـــة للجميع، يقبل املـتـصـارعـون فيها نتائج الــصــراع مـؤقـتـا، على أســـاس أن استمرار الـــصـــراع عــبــر اآللـــيـــة الــديــمــقــراطــيــة يمنح الـخـاسـر فـي املـــرة األولـــى أن يــعــدل ميزان الــقــوى ملصلحته فــي املــــرة املـقـبـلـة، أي أن العملية الديمقراطية مفتوحة، وال تغلق عــلــى نــتــائــج آنـــيـــة، فـــهـــي، حــتــى لـــو كـانـت محكومة بسقوف قوية، فإنها تمنح األمل لــلــجــمــاعــات األقـــلـــيـــة بــاملــعــنــى الــســيــاســي أن تـــتـــحـــول إلـــــى أغـــلـــبـــيـــة، كـــمـــا تـمـنـحـهـم الــحــق فــي الـتـعـبـيـر عــن أنـفـسـهـم بالشكل الديمقراطي الحر، حتى لو بقوا أقلية، أي أنـه ليس مـن مهام األغلبية الديمقراطية اســـتـــئـــصـــال األقــــلــــيــــة. مـــــا الــــــــذي يــحــصــل عـنـدمـا ال تـجـد الــهــويــات الـفـرعـيـة قـواعـد ديمقراطية تجعلها قـــادرة على التعبير عن ذاتها؟ وما الذي يحصل عندما تقمع السلطات الحاكمة هذه الهويات، وتعمل على إلغائها باألساليب القمعية؟ وكيف تستطيع الـجـمـاعـات الـهـامـشـيـة الحفاظ على هويات فرعية، وهي تتعرض للقمع الشديد من السلطات؟ يمكن القول احتياطا إن صراعات الهوية تحاول أن تحجب الصراعات السياسية، وتنقل املـسـمـيـات إلــى مـجـال آخـــر، بحيث يــــخــــرج الــــــصــــــراع الــــهــــويــــاتــــي مـــــن مـــجـــال الصراع السياسي، ليعطى صفات أخرى تــــبــــعــــده عــــن إطــــــــاره الـــطـــبـــيـــعـــي، بــوصــف الـصـراع يقع فعليا فـي املـجـال السياسي. ولكن نقل هذا الصراع ومنحه إطـارًا آخر يجعله يبدو أقل خطرًا على السلطة التي تــــحــــاول االحـــتـــفـــاظ لــنــفــســهــا بـــكـــل مــجــال الــقــوة، واحـتـكـاره بشكل نـهـائـي، وإخـــراج الجماعات السياسية منه، بالتركيز على هــويــتــهــا الـــفـــرعـــيـــة، بــوصــفــهــا هــــويــــة مـن املـمـنـوع الـحـديـث عنها. وبـالـتـالـي، يأخذ املــنــع املـعـنـى االجــتــمــاعــي، إلـــى حــد كبير، فــي الــوقــت الـــذي يــكــون جــوهــره سياسيا بـامـتـيـاز. ولـكـن هــذه الـهـويـات الـتـي تبدو غــيــر خـــطـــرة فـــي األوقــــــات الـــعـــاديـــة، ويـتـم دفعها إلى التعبير عن نفسها، عبر طرق ملتوية، وعبر التقية، بإخفائها عبر ادعاء هوية على غير حقيقتها، ما يحولها إلى حــالــة انــفــجــاريــة، وبــالــتــالــي إلــــى هــويــات قاتلة. في األوضاع العادية تتغير الهوية ببطء، لــكــنــهــا فــــي الــــصــــراعــــات الــعــنــيــفــة، والـــتـــي تـــطـــول، تــقــع بـــن االنـــتـــكـــاســـة والــتــحــطــم، فـــالـــهـــويـــة الـــجـــامـــعـــة الـــتـــي تــــدعــــي الـــدولـــة أنها تمثل كل مواطنيها من دون تمييز، سـرعـان مـا تنفجر فـي صـــراع دمـــوي، بن املكونات االجتماعية ذاتـهـا، حيث تطاح قــــشــــرة الــــهــــويــــة الـــجـــامـــعـــة مـــنـــذ الــلــحــظــة األولــى التي تستخدم فيها الدولة أدوات الــقــمــع ضـــد مـواطـنـيـهـا املـخـتـلـفـن معها، والــذيــن يطالبون بحقوقهم فـي مواجهة مصادرتها من الدولة. أكـــتـــب هــــذا املـــقـــال، وفــــي ذهـــنـــي الــنــمــوذج السوري من الصراع الدموي، فكيف يمكن الــنــظــر إلــــى الـــهـــويـــة الـــســـوريـــة الــجــامــعــة، والــــهــــويــــات الـــفـــرعـــيـــة املـــكـــونـــة لـلـمـجـتـمـع