Al Araby Al Jadeed

ألمانيا تودع استراتيجية «تجنب الحرب»

- ممدوح الشيخ

تناول مقال عنوانه «شرق املتوسط .. غرب الجحيم»، (العربي الجديد، ،)2020/9/8 لكاتب هـذه السطور استراتيجية «تجنب الحرب» التي تحكمت بدرجة كبيرة في العقل السياسي األوروبي خالل عقود مضت. وتنبأت فيه بأن «تجنب الحرب» يمكن أن يكون هو نفسه سبب نشوبها. ووهذا ما أكدت، الحقا، صحته الحرب الروسية على أوكرانيا، ولكن ما كان مفاجأة أكبر أن الحرب غيرت العقل السياسي (وبخاصة األملاني) باتجاه التخلي عن هذه االستراتيج­ية التي أسفرت عن عواقب أبعد مدى وأوسع نطاقا من العواقب العسكرية والسياسية املباشرة. أصدر معهد كونراد إديناور األملاني املرموق، أخيرا، تقريرا يعد مؤشرا مهما إلى تغير كبير في الرؤية األملانية للعالقات الدولية، فالتحول نحو إنفاق عسكري أكبر وخطط لبناء جيش أضخم ليس سوى وجه واحد ملا غيره غزو أوكرانيا. ويعكس التقرير حالة أوروبية عامة، وموضوعه: الجاهزية للصراع، ويستمد معطياته من الحالة األملانية، ويناقش الجاهزية الثقافية والفكرية للصراع، وهي مستويات للتحليل أبعد غورا من مستوى التحليل السياسي املباشر. تـرسـم أســتــاذة الـتـاريـخ العسكري والـتـاريـ­خ الثقافي للعنف فـي جامعة بوتسدام، البروفسورة سونكي نيتزل، صــورة شـديـدة الـوضـوح ملـا تغير. وبحسبها أحـدث غزو أوكرانيا «تغيرا جذريا في التهديد املتصور لناس كثيرين في أوروبـا»، وكان عليهم «مواجهة أسئلة الحرب والسالم التي بدت وكأنها جزء من املاضي»، وكثيرون واجهوها أول مرة في حياتهم. وهذا يعني أن الجيل الذي نعم بفترة رفاهية وسالم، ولــم يشهد حــروبــا أصـبـح أمـــام ســـؤال الــحــرب والــســال­م، وهـــو، بـالـتـالـ­ي، ليس جيل «االستسالم لإلمالء الروسي» بأمل «تـجنب الحرب»، بل قد يكون الجيل الذي يطوي صفحة هذا االختيار. وتشير البروفيسور­ة إلى حقيقة أخرى مهمة، أن بعض أسئلة السياسة كانت، حتى وقت قريب، من اختصاص السياسيني واألكاديمي­ني، لكنها أصبحت «محور نقاش عام مكثف. وبالنسبة لكثيرين، لم تعد هذه األمور مجردة، بل وجودية». وبينما يمتلئ اإلعالم العربي بقراءات سطحية ومتسرعة (بل أحيانا مغرضة) عن أوروبــا املخدوعة الخاضعة ألميركا املستعدة لالستسالم لروسيا، ينشغل العقل السياسي األوروبي بشكل عميق بدراسة التحدي وصوغ االستجابة (أو االستجابات) التي تستوعب دروسه استيعابا ال مكان فيه لألوهام. وأحد األوهام ما تسميها «الدعوات غير الواقعية إلى السالم». ومن زوايا النظر املدهشة في تنظيرات نيتزل ما عليه حال املجتمع األكاديمي في أملانيا فيما يتصل بدراسات الحرب، ففي مقابل حوالي مائتي أستاذ جامعي في دراســـات الجندر هناك أستاذ واحــد فقط في التاريخ العسكري، والحال قريب من ذلك فيما يتصل بنسبة املتخصصني في الدراسات األمنية في العلوم السياسية، والخالصة أن «البيئة الجامعية ال تهتم كثيرا بمسائل الحرب والـسـالم. وعندما يكونون مهتمني، فإنهم يميلون إلـى أن يكونوا معياريني للغاية». ومنذ سبعينيات القرن املاضي، كانت في أملانيا معاهد ممولة بسخاء لدراسات السالم والصراع، بثت لسنوات نظرة مثالية للغاية للعالم! وفي تأكيد واضح ملا جاء في ذلك املقال قبل نحو عامني، على سبيل االستشراف، تتنقد البروفيسور­ة نيتزل القول إن «هذا البلد يريد نبذ الحرب»، وتضيف إن «السؤال هو عما نفعله بالفعل عندما تستخدم الدول األخرى الحرب كوسيلة سياسية... لقد نسينا تماما كيف نأخذ الحرب في االعتبار كاحتمال حقيقي». وفي عبارة يقطر منها الندم، تقول: «لقد طمسنا األشياء فترة طويلة جدا وعشنا بالفعل على األوهام والتفكير بالتمني. املدخالت التي تتضافر لتكون املـزاج السياسي، وبشكل أعمق، الرؤية السياسية الشاملة التي تحدد أولويات السالم والصراع، هي اآلن على املحك، وما يصفه التقرير في حالة أملانيا له ظالله في القارة كلها.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar