ليبيا وهذا االنقسام في جامعة الدول العربية
شـهـدت العاصمة الليبية طـرابـلـس األحـد املاضي، 22 يناير/ كانون الثاني الجاري، اجــتــمــاعــا تـــشـــاوريـــا كــانــت لـيـبـيـا قـــد دعــت إلــيــه بــشــأن األزمــــة فــي هـــذا الـبـلـد. وجـــاءت الدعوة كون ليبيا تترأس املجلس الوزاري العربي للدورة الحالية. وكان مشهدًا مثيرًا لــلــتــســاؤل، إذ ضـــم االجــتــمــاع ثــمــانــي دول عربية فقط، بما فيها الـدولـة املستضيفة والداعية، فيما غابت األمانة العامة لجامعة الـــدول العربية عـن االجـتـمـاع وشككت في شرعيته، لـكـون عــدد املستجيبني للدعوة يـــقـــل عـــن 14 دولـــــة عـــضـــوًا، كــمــا قـــالـــت في بيانها، وهو ما اعتبرته وزيـرة الخارجية الــلــيــبــيــة نـــجـــاء املـــنـــقـــوش، الـــتـــي تـــرأســـت االجتماع، أنه بدعة. يصعب الـحـديـث عــن نـجـاح االجـتـمـاع في ظل املقاطعة الواسعة للمشاركة فيه، علما أن عـــدم اسـتـجـابـة بـعـض الـــــدول األعــضــاء للدعوة ال يعني، بالضرورة، اتخاذ موقف سلبي منه أو من الجهة الداعية، إذ يعكس هــذا املـوقـف حــرص بعض الـــدول األعـضـاء عــلــى الـــنـــأي بــالــنــفــس عـــن الـــوضـــع الـلـيـبـي وانــقــســامــاتــه وتــعــقــيــداتــه، وهــــو مـــا أشـــار إلــيــه تــقــريــر لـــ «الــعــربــي الــجــديــد» فـــي عــدد يــــوم االثـــنـــني املــــاضــــي، إضـــافـــة إلــــى تـأثـيـر غياب األمانة العامة للجامعة على الـدول األعـــضـــاء، ثــم مــواقــف الــــدول الــتــي قاطعت االجتماع ألسباب سياسية، وفي مقدمتها مـــصـــر الـــتـــي تــطــعــن فــــي شـــرعـــيـــة حــكــومــة الوحدة الليبية وتعتبرها منتهية الوالية. وســبــق لــوزيــر الــخــارجــيــة املــصــري سامح شكري أن انسحب من اجتماع وزاري عربي للجامعة في السادس من سبتمبر/ أيلول املـــاضـــي، احــتــجــاجــا عــلــى تـــولـــي املـنـقـوش رئاسة الـدورة 158 للجامعة، فيما التزمت بقية الدول األعضاء بالحضور. وكــــــان مــــن املــــقــــرر اعـــتـــبـــار هـــــذا االجـــتـــمـــاع تـــمـــهـــيـــديـــا لـــاجـــتـــمـــاع الـــــــــــوزاري الـــعـــربـــي للجامعة في فبراير/ شباط املقبل، هذا مع األخذ في االعتبار أن حضور االجتماعات الـــتـــشـــاوريـــة غــيــر مـــلـــزم لـــأعـــضـــاء. وواقــــع الــحــال أن هـــذا االجــتــمــاع الـثـمـانـي يعكس مـــجـــددًا انـقـسـامـا عـربـيـا بــشــأن املــوقــف من األزمة الليبية وسبل الخروج منها، بل إنه يشي هذه املـّرة بانقسام في جامعة الدول الـعـربـيـة، كـونـه عـقـد بـرئـاسـة الـطـرف الـذي يــتــولــى رئــاســة الـــــدورة الـحـالـيـة للمجلس الــــوزاري الـعـربـي، وبما يـعـزز فـي النتيجة االنـــقـــســـام الــلــيــبــي الـــداخـــلـــي، وبـــمـــا يجعل هــذيــن االنـقـسـامـني يـتـغـذى كــل منهما من اآلخر، ويجد فيه سندًا له، وهو ما يضيء عـلـى أبـــرز وجـــوه التعقيد فــي هـــذه األزمـــة املتطاولة. وفـي مسوغات االنعقاد على هـذه الهيئة، رأت رئيسة الدبلوماسية الليبية املنقوش أنه سبق ألمانة الجامعة أن أعاقت الدعوات الليبية إلى عقد هذا االجتماع التشاوري، مـــا حــمــل الــحــكــومــة الـلـيـبـيـة عــلــى الـــدعـــوة إلــــى عــقــد االجـــتـــمـــاع فـــي طـــرابـــلـــس. وعـلـى هــــذا اكــتــســب االجـــتـــمـــاع طــابــعــا سـيـاسـيـا، وقـد انتهى بعقد مؤتمر صحافي وبـدون صـدور بيان ختامي عنه، وال غرابة أيضا في ذلك كون االجتماع تشاوريا، ومثل هذه االجــتــمــاعــات ال تـــصـــدر عـنـهـا بــالــضــرورة بيانات ختامية نظرًا إلـى طبيعتها «غير الرسمية». واالنقسام في طوره الحالي هو في املوقف مما إذا كان هذا االجتماع الثماني قد عقد تحت مظلة الجامعة أم ال، فقد غابت األمانة العامة للجامعة عنه، بينما حضرته الدولة الــتــي تــتــرأس املـجـلـس الـــــوزاري للجامعة، غـيـر أن هـــذا اإلشـــكـــال «الــقــانــونــي» سـوف يندرج ضمن املسار املتعرج النسداد األزمة الليبية، ولن ينعكس بالسلب أو اإليجاب على هذه األزمة وآمال الخروج بحلول لها. وهـو ال بد أن يستوقف املوفد األممي إلى ليبيا، السنغالي عـبـد الـلـه بـاثـيـلـي، الــذي تولى مهمته في سبتمبر/ أيلول املاضي، بــعــد أن «اســتــهــلــكــت» هــــذه األزمــــــة سبعة مـــوفـــديـــن لـــأمـــم املـــتـــحـــدة مـــن قـــبـــل، والــتــي بــاتــت تــشــيــع االنــقــســام حــتــى فـــي الـسـاحـة الدولية، وذلك لتضارب مصالح الدول في باد عمر املختار، وألن دوال عديدة ترغب فـــي تـصـعـيـد قـــيـــادة لـيـبـيـة تـكـفـل مـصـالـح هذه الــدول. وقد نشطت الواليات املتحدة، أخيرًا، في التعامل مع هذه األزمة، فإضافة إلى تحركات املوفد األميركي الخاص إلى ليبيا الـسـفـيـر ريــتــشــارد نـــورالنـــد فـقـد زار رئيس املخابرات األميركية، ويليام بيرنز، لــيــبــيــا، واجـــتـــمـــع بــالــفــاعــلــني الـسـيـاسـيـني والـعـسـكـريـني فـيـهـا، وهـــو نــشــاط جـــاء في أجــــــــواء اســــتــــمــــرار الــــحــــرب فــــي أوكــــرانــــيــــا، وتنامي الخشية األميركية واألوروبية من التأثير الروسي في بـؤر التوتر. كذلك زار الــبــاد رئــيــس املــخــابــرات الــتــركــيــة، هـاكـان فـيـدان، الــذي تنشط بــاده في مد الخيوط نحو الفرقاء الليبيني، وتعزيز اتفاقياتها مـع حكومة الــوحــدة الـوطـنـي، فيما تشهد الــــقــــاهــــرة اجـــتـــمـــاعـــات مـــتـــوالـــيـــة لــلــزعــمــاء الليبيني الذين يطوفون في عواصم أخرى، منها الدوحة والرباط والجزائر وأنقرة. وبـيـنـمـا تــتــركــز جــهــود عـــديـــدة، بــمــا فيها
االستعصاء مرشح ألن يدوم طويًال حتى إطالق مبادرات وطنية داخلية تجد حاضنة شعبية لها لوقف االنقسام الذي يهدد وحدة الكيان الليبي
جـــهـــد املــــوفــــد األمــــمــــي بـــاثـــيـــلـــي، عـــلـــى فـتـح الطريق أمام إجراء انتخاباٍت كانت مقّررة فـي ديسمبر/ كـانـون األول مـن عــام ،2021 وفـــــق مــــا أعـــلـــن عـــقـــب تــعــيــيــنــه مــــن األمــــني الـعـام للمنظمة الـدولـيـة، فــإن فـرقـاء األزمــة يـتـنـازعـون بــشــأن الـجـهـة الـحـكـومـيـة التي ســوف تشرف على إتـمـام هــذا االستحقاق والـــقـــواعـــد الــدســتــوريــة إلجــــرائــــه، وهــــو ما يـفـتـرض باملبعوث األمــمــي أن يسعى إلى إنجازه بوضع محددات له، غير أن املشكلة، بـــعـــدئـــذ، تــبــقــى فـــي مــــدى الــــتــــزام األطـــــراف الــــداخــــلــــيــــة بــــمــــخــــرجــــات هـــــــذا الـــتـــفـــويـــض الــدولــي، وذلــك قياسا على تـجـارب سابقة في التعامل مع املوفدين األمميني استقالوا تــبــاعــا، آخـــرهـــم الـسـلـوفـاكـي يـــان كـوبـيـش. فـيـمـا تــتــركــز جـــهـــود أخـــــرى عــلــى الـــحـــؤول دون تجدد اشتباكات مسلحة بني الفرقاء، وقـــد سـبـق لـحـكـومـة فتحي بـاشـاغـا التي عينها مجلس الــنــواب (املـنـتـهـيـة واليــتــه) أن هـــــددت بــاقــتــحــام طـــرابـــلـــس، خـصـوصـا أن بعض القوى املسلحة في العاصمة ما زالت تدين بالوالء لباشاغا وزير الداخلية السابق وأحــد املمثلني السابقني للهيئات الــســيــاســيــة املـــعـــتـــرف بــهــا دولــــيــــا، قــبــل أن يعلن انضمامه إلـى معسكر عقيلة صالح وخليفة حفتر، وقد كوفئ بتسميته رئيسا لــحــكــومــة مــــوازيــــة لــحــكــومــة عــبــد الـحـمـيـد الـــدبـــيـــبـــة. وبــحــكــم األمـــــر الــــواقــــع، تـتـعـامـل أطراف اقليمية ودولية مع الرجل باعتباره من الفاعلني الرئيسيني في املشهد الليبي، كما تتعامل مع حكومتني ليبيتني. ولهذا، شهد االجتماع الوزاري العربي التشاوري في طرابلس، بالحضور والغياب، تعاكس إرادات الـــفـــاعـــلـــني الـــخـــارجـــيـــني وتـــضـــارب رؤاهـــم، وكــان منبر جامعة الـــدول العربية هـذه املــرة مسرحا لهذا التعاكس، ومـا بدأ فـــي سـبـتـمـبـر/ أيـــلـــول املـــاضـــي مـــع تسمية لـيـبـيـا رئــيــســة لـــلـــدورة الـــعـــاديـــة للجامعة وجـــد امـــتـــدادًا لــه فــي هـــذا االجــتــمــاع. وبما أن األزمــــــة بــلــغــت حــالــيــا مــرحــلــة الــتــنــازع املكشوف على الحكم، ووضع العراقيل أمام االنتخابات، مع وجـود جسمني عسكريني متنافسني، فإن هذا االستعصاء مرشح ألن يـدوم طويا حتى إطـاق مـبـادرات وطنية داخلية تجد حاضنة شعبية لها لوقف هذا االنقسام الذي يهدد وحدة الكيان الليبي.