هل أضحت تركيا عبئًا على الناتو؟
منتصف مــايــو/ أيـــار املـقـبـل، سيكون قد مـضـى عـــام عـلـى تـقـديـم فنلندا والـسـويـد طلبًا لالنضمام إلى حلف شمال األطلسي (الــنــاتــو). رغــم أن الطلب مـصـمـم ملواكبة الــــتــــحــــوالت الـــتـــي أحـــدثـــهـــا غـــــزو روســـيـــا أوكــرانــيــا عـلـى الهيكل األمــنــي األوروبــــي السائد منذ نهاية الحرب الـبـاردة، إال أن الـــدولـــة الــتــي ال تــــزال تــعــرقــلــه هـــي تركيا الــعــضــو فـــي الــحــلــف، ولــديــهــا مـشـروعـيـة فـــي هــــذا، فـقـد سـبـق وأبـــرمـــت مـعـهـمـا في يــونــيــو/ حـــزيـــران املــاضــي مــذكــرة تفاهم ثـــالثـــيـــة لــتــلــبــيــة مــجــمــوعــة مــــن املـــطـــالـــب، فـــي مـقـدمـهـا تـــعـــاون الــدولــتــن مـعـهـا في مكافحة اإلرهاب وتسليم مطلوبن لديها، لكن معظمها لم يتحقق. مع ذلك، ال يتعلق اعتراض تركيا على توسيع «الناتو» في جوهره بأزمتها مع هذين البلدين، بل في نتيجة عـقـود مــن تــراجــع الـثـقـة املتبادلة بينها وبـــن شـركـائـهـا الـغـربـيـن، أعـــادت إثـــارة جــدل قـديـم جـديـد فـي الـغـرب بشأن مستقبل تركيا في الحلف، وما إذا كانت قـــد أضــحــت عـبـئـًا عــلــيــه. مـــع أن مــثــل هــذا النقاش يظل محصورًا في إطــار الدوائر اإلعـالمـيـة الغربية، الـتـي ركـــزت عليه في اآلونة األخيرة، ولم تتبنه أي دولة غربية بشكل معلن، إال أنــه صــدى لنمو خطاب ســـيـــاســـي غــــربــــي يـــعـــمـــل عـــلـــى الــتــشــكــيــك الضمني بجدوى أن تبقى تركيا شريكًا في املنظومة األطلسية. إثارة مثل هذا التساؤل في الوقت الراهن بــشــأن عـضـويـة حليف مـهـم وحــيــوي في الـــوقـــت الـــــذي يــســعــى «الـــنـــاتـــو» إلــــى ضم بــــلــــدان أخــــــرى أقـــــل أهـــمـــيـــة مــــن الــنــاحــيــة الـجـيـوسـيـاسـيـة والـعـسـكـريـة يـفـتـقـر إلـى الحكمة والبصيرة االستراتيجية. لكنه، مع ذلك، يمكن أن ينتج نقاشًا صحيًا إذا ما أدى إلى طرح األسباب الحقيقية التي جعلت تركيا تلعب، من وجهة نظر بعض الـــغـــربـــيـــن، دورًا مـــفـــســـدًا داخــــــل الــحــلــف. بــعــيــدًا عـــن بــعــض األطـــــروحـــــات الـغـربـيـة غير الـواقـعـيـة بـشـأن الــهــوة املــتــزايــدة في القيم واملــبــادئ الديمقراطية بــن الغرب وتـــركـــيـــا ســبــبــا البـــتـــعـــادهـــا عـــنـــه، والــتــي تبدو محاولة من بعض الغربين تبرير مسؤوليتهم عن تردي العالقات مع أنقرة، فــــإن مــن األفــضــل الــتــركــيــز، بــــدال مــن ذلــك، على األسباب الواقعية لهذه املشكلة. قبل كـــل شــــيء، لــم يـكـن عــامــل الـقـيـم واملــبــادئ مــا دفـــع تـركـيـا والـحـلـف إلـــى الــدخــول في عالقة في خمسينيات القرن املاضي، بل املصالح الواقعية التي أملت على الطرفن فـــي تــلــك الــفــتــرة هــــذه الـــعـــالقـــة. لـــم تنضم تركيا إلــى «الـنـاتـو» بسبب رغـبـة عميقة في أن تصبح جزء ا من الغرب، ولم ترحب الواليات املتحدة بتركيا في التحالف من منطلق التزامها املبدئي بالديمقراطية. مـنـذ نــشــأة الــحــرب الـــبـــاردة، كـــان تحالف الـــواليـــات املـتـحـدة مــع تـركـيـا قـائـمـا على أهداف مشتركة، وليس على مثل مشتركة، وهــــي مـــواجـــهـــة الــتــهــديــد املـــتـــصـــور على أنقرة و«الناتو» من االتحاد السوفييتي. ولـــكـــن تـــراجـــع هــــذا الــتــهــديــد ســــرعــــان ما أدى إلى تراجع القضية املشتركة وبروز تأثير القضايا الخالفية على ديناميكية الـــــعـــــالقـــــة. لـــــذلـــــك، فــــــــإن تـــقـــيـــيـــمـــًا واقـــعـــيـــًا لــلــعــالقــة بــــن تـــركـــيـــا وحـــلـــف الـــنـــاتـــو فـي الـوقـت الحالي ينبغي أن يستند، بشكل أسـاسـي، على واقعية املصالح املتحولة للوصول إلــى استنتاج عملي بعيدًا عن الصورة النمطية الغربية ألنقرة ودورها فـــي الــحــلــف. كــمــا أن مــقــاربــة دور تـركـيـا فـي الناتو مـن منظور الـعـالقـات التركية األمــيــركــيــة يــســاعــد عـلـى نـحـو كـبـيـر فهم الواقع الحالي للعالقات التركية الغربية. مـــع أن واشـــنـــطـــن ســعــت فـــي بـــدايـــة أزمـــة انضمام فنلندا والسويد للحلف إلى عدم التدخل املباشر فيها، إال أنها بدت مؤخرًا أكـــثـــر إدراكــــــًا لـــــدور خــالفــاتــهــا مـــع تـركـيـا فــي تعظيم هــذه األزمـــة مــن خـــالل تقديم عرض ألنقرة بتسهيل بيعها مقاتالت إف سـتـة عـشـر مـقـابـل تخليها عــن معارضة توسيع الحلف. واقع أن الخالفات التركية األمـــيـــركـــيـــة تـــتـــجـــاوز بـكـثـيـر مــســألــة بيع املقاتالت الحربية وتتعلق بقضايا أخرى أكـــثـــر تــعــقــيــدًا كــمــســألــة الـــدعـــم األمــيــركــي لوحدات حماية الشعب الكردية السورية وعــالقــات واشـنـطـن العسكرية املتنامية مع اليونان، تجعل من الصعب التوصل إلــى تسوية شاملة أو جزئية بــن أنقرة وواشـنـطـن تقلص عقبات دخـــول فنلندا والسويد إلى «الناتو». يــــســــود اعـــتـــقـــاد فــــي عــــواصــــم غـــربـــيـــة أن الــــرئــــيــــس رجــــــب طـــيـــب أردوغـــــــــــان يــطــرح مطالب تعجيزية على السويد، مـن أجل الحصول على مكاسب كبيرة مـن الــدول الغربية، وربما يسعى إلـى توظيف هذه املــســألــة لـتـحـسـن فـــرص إعـــــادة انـتـخـابـه
فـي مـايـو/ أيـــار املقبل. يـبـدو ذلــك واقعيًا بعض الشيء، لكنه ال يخفي أن املعضلة األســـاســـيـــة بــالــنــســبــة لــتــركــيــا ال تـتـعـلـق بــمــشــكــلــتــهــا مـــــع الــــســــويــــد فــــحــــســــب، بــل بـــالـــســـيـــاســـات الـــغـــربـــيـــة الــــتــــي ال تـــراعـــي مــصــالــح تــركــيــا الـــوطـــنـــيـــة، وتـــهـــدف إلــى معاقبتها على خياراتها الجيوسياسية املستقلة جزئيًا عن الغرب. قـائـمـة املـظـالـم الـتـركـيـة كـبـيـرة، وال يمكن ذكر جميعها لكنها مهمة لتفسير املشكلة الــتــي تــواجــه الــعــالقــات الـتـركـيـة الـغـربـيـة. مــــع ذلــــــك، ال تــــــزال الـــعـــالقـــة بــــني الــطــرفــني تـشـكـل مصلحة لكليهما. ال تــــزال تركيا دولـــــة مــهــمــة لــلــحــلــف. هـــي قــبــل كـــل شــيء الــــدولــــة املــســلــمــة الـــوحـــيـــدة فـــي «الـــنـــاتـــو» وتـمـتـلـك ثــانــي أكــبــر جــيــش فــيــه، ولـديـهـا قـدرات عسكرية صاعدة، كما أن أراضيها تــحــتــضــن عـــــــدة قــــواعــــد عـــســـكـــريـــة مـهـمـة لـلـحـلـف، كــقــاعــدة إنــجــرلــيــك الــتــي تعتمد عليها الواليات املتحدة في املنطقة، وهي بمثابة الخاصرة الجنوبية لحلف الناتو، وأيـضـًا قـاعـدة أزمـيـر الـتـي يقع فيها مقر القيادة البرية للجزء الجنوبي من الحلف. لـقـد أعــــادت الــحــرب الــروســيــة األوكــرانــيــة إبــراز أهمية تركيا لحلف الناتو أكثر من أي وقــت مضى. فـي الـوقـت الــذي أدت فيه هذه الحرب إلى إعادة تركيز الحلف على القضية األساسية التي تشكل من أجلها، وهـــــي مـــواجـــهـــة الـــتـــهـــديـــد الـــــروســـــي، فـــإن أهمية تركيا اآلن ال تختلف عـن األهمية التي دفعت إلـى ضمها للحلف. النموذج االستثنائي الـــذي تقدمه أنـقـرة فـي إدارة مـــتـــوازنـــة ملــوقــفــهــا فـــي الــــصــــراع الـــروســـي الــغــربــي أظـــهـــر أنــــه ال يــشــكــل بــالــضــرورة تــهــديــدًا ملــصــالــح «الـــنـــاتـــو». بـيـنـمـا يـأمـل الـــغـــرب، بـشـكـل غــيــر واقـــعـــي، فـــي انــخــراط تـــركـــي فـــي عــــزل روســـيـــا، فــــإن دور تـركـيـا وسيطا بـني موسكو وكييف يفتح ثغرة مهمة في جـدار تسوية سياسية للحرب، ويـــقـــلـــص مـــخـــاطـــر انــــــــزالق الـــــصـــــراع إلـــى مواجهة بني روسيا والناتو. فــضــال عــن ذلــــك، فــــإن تـركـيـا مـهـمـة لحلف الناتو في منطقة البحر األسود بوصفها قـــــوة مــــوازنــــة لـــروســـيـــا فــــي هـــــذه املـنـطـقـة الحيوية التي يصعب على الحلف العمل فـيـهـا بـفـعـالـيـة. وقـــد بــــرزت هـــذه األهـمـيـة بــشــكــل أكـــبـــر بــعــد الــــحــــرب، عــنــدمــا فعلت أنــقــرة مـعـاهـدة مـونـتـرو إلغـــالق املضائق أمـــــام حـــركـــة الــســفــن الــحــربــيــة مـــن الـبـحـر األسـود وإليه. رغم أن هذه املعاهدة تقيد قــــدرة األســاطــيــل الــغــربــيــة عــلــى الــوصــول إلــــى الــبــحــر األســـــود فـــي زمــــن الـــحـــرب، إال أنها، في املقابل، أوجدت صعوبات كبيرة أمـام روسيا لالستفادة من أسطولها في البحر األســـود فـي حربها على أوكـرانـيـا. لـــقـــد ســــاهــــم فـــــي إضـــــعـــــاف تـــأثـــيـــر الـــقـــوة الـــبـــحـــريـــة الــــروســــيــــة فــــي الـــبـــحـــر األســـــود بــمــا يـــخـــدم مــصــالــح الــــغــــرب. عــلــى الــرغــم مــن الـشـراكـة الجيوسياسية الـتـي تجمع تركيا وروسيا، إال أنها جعلت تركيا قوة مـنـافـسـة لـروسـيـا عـلـى الـنـفـوذ والـتـأثـيـر. بـــقـــدر مـــا أن الـــشـــراكـــة الــتــركــيــة الــروســيــة فـي السنوات األخـيـرة تسبب فـي توسيع الفجوة بني تركيا وبعض حلفاء «الناتو» كالواليات املتحدة، إال أن عضوية تركيا في «الناتو» تساهم في الواقع في وضع حــــدود لـعـالقـتـهـا بــروســيــا وتـمـنـعـهـا من االنـجـراف بعيدًا عن الغرب. لذلك، ال يزال «الــنــاتــو» يـــرى فــائــدة كـبـيـرة فــي الـحـفـاظ على عضوية تركيا فـيـه. قبل أن يـتـورط الغربيون في إثارة نقاش بشأن ما إذا كان ينبغي لتركيا أن تبقى في «الناتو» فإن عليهم فهم األســبــاب الـتـي تجعلها تقف حـجـر عــثــرة أمــــام ضـــم أعـــضـــاء جــــدد. حـل املعضلة الحالية ال يتوقف فقط على ما تقوله السويد أو تفعله، بل يتعلق أيضًا بما ينبغي على الـواليـات املتحدة القيام به في سورية واليونان، والذي يؤثر على مصالح األمن القومي لتركيا.
تركيا مهمة لحلف الناتو في منطقة البحر األسود بوصفها قوة موازنة لروسيا في هذه المنطقة الحيوية