Al Araby Al Jadeed

العالم من دون «بي بي سي عربي نيوز»

- يقظان التقي

تــوقــفــ­ت إذاعـــــة بـــي بـــي ســـي نـــيـــوز عـــربـــي عن بثها اإلذاعي عبر األثير، تماما، أول من أمس الجمعة، الواحدة ظهرًا، في توقيت «بيغ بن» فــي نـهـايـة رســالــة مــؤثــرة ملستمعيها، وهـي انــخــرطـ­ـت، بــجــهــو­د كــبــيــر­ة، خـمـسـة وثـمـانـني عاما، مؤسسة إذاعية ملتزمة في نشر الخبر الـعـربـي، وعــرفــت كيف تتعامل مــع األحـــداث، تــطــبــخ أخـــبـــا­رهـــا جـــيـــدا، وتـــخـــت­ـــار مـــا تــريــده لتقدمه لجمهورها، قبل أن تعاني حرجا في أوضاعها املالية، وإغالق 382 وظيفة توفيرا لـلـنـفـقـ­ات، واالنــتــ­قــال إلـــى بـثـهـا الــرقــمـ­ـي على اإلنـــتــ­ـرنـــت ومـــنـــص­ـــات الـــتـــو­اصـــل األجــتــم­ــاعــي والشبكة التلفزيوني­ة. شغل قـــرار اإلقــفــا­ل النهائي نـقـاشـات املهمة، ولـــكـــن املـــحـــ­طـــة لـــم تــتــمــك­ــن مـــن تـغـيـيـر إيــقــاع ســـاعـــت­ـــهـــا الــــــــ­ذي يــــجــــ­يء عـــلـــى نـــحـــو درامــــــ­ي يشمل موظفيها واملستمعني. اإلذاعـة وسيلة حـــــيـــ­ــاة، عــــالـــ­ـم صـــغـــيـ­ــر جــــــــدًا. صــــحــــ­يــــح، لــكــن فـكـرة عـالـم مــن دون إذاعــــة مخيفة مــع تطور املـديـنـة، والديمغراف­يا املكتظة بالناس على األوتوسترا­دات السريعة والفرعية. قد يكون قـــرار إقــفــال إذاعــــة لـيـس أمـــرا مهما لكثيرين، لكننا، نحن اإلعالميني، لم نفهم فكرة اإلغالق كفاية، لكنها بفعل الرأسمالية التي تستطيع ذلـك لصالح عالم بعيد عن املدينة، في وقت أن «بي بي سي» لم يغادرها مستمعوها. أن تستمع إلى الرديو يعني االهتمام باألخبار األساسية على مدار الساعة، وأن تحدد مكان العالم مـن حـولـك. أن يحضر العالم فـي خبر شيء مميز، وكذلك األحــداث، كما تحصل في كـــالم املعلقني بــني اإليـجـابـ­يـة واإلحـــبـ­ــاط. من الصعب قبول فكرة أن االذاعـــة التقليدية بال فائدة. كيف ستتقدم فكرة العيش مع اآلخر؟ إذًا، سـيـكـون الـعـالـم مــن دون «بـــي بــي ســي»، وعلى نحو من الخوف أكثر، أال تستمع الناس إلى أشياء من حياتها. إذًا، لن ترافق املؤسسة وصـول الناس إلـى بيوتها، أو في سجونها. ثمة نسبة كبيرة من سكان العالم ال يملكون أي خدمات أساسية، وعدد املبعدين عن الطرق السريعة للمعلومات باملاليني، ويمكن تصور أشـــكـــا­ل مـــن عـــدم املـــســـ­اواة مـــع %4 مـــن الــذيــن يتابعون املؤسسة حصرا عبر الراديو، وكيف ستعمل املحطة على إبقائهم معها، إضافتهم إلى %96 من جمهور يتابعها عبر الوسائط املتعددة (أرقام فرح)، وكيف يكون «اإلخالص قـديـمـا، مـسـتـمـرا، وأمــانــة، تتبع الـنـاس حيث

هــــي». جــــاءت «بـــي بــي ســـي» تـتـويـجـا للزمن الجميل، زمــن الشغف الــذي كــان فيه للفنون وليس للسياسات دور إبداعي، ال يقل وظيفة عن التجددية االجتماعية والسياسية. تغادرنا دنيا النغم «هنا لندن» التي حافظت على أصــواتــه­ــا، على أسلوبها الــخــاص. لغة وحكاية لحقبة مـن تـاريـخ الـعـرب وهويتهم، سواء من «بوش هاوس»، أو من استديوهاته­ا في لندن، أو عبر شبكة مراسليها في العالم، وهــي تـبـث بـعـشـرات الـلـغـات وتــقــدم االخــبــا­ر، لطاملا استقتها من مصادر مستقلة. للتذكير، جــاء إطالقها قبل 84 عـامـا ردا مباشرا على إطـــالق إيطاليا الفاشية الـعـام 1934 «راديـــو بــــــاري»، املـــوجــ­ـهـــة إلــــى الــعــالـ­ـم الـــعـــر­بـــي. وفــي خضم صراعات سياسية، قبل الحرب العاملية الثانية وبعدها «بـي بـي سـي» أكثر مـن لعبة نغم، ومـن لعبة صـوت، ارتبطت طويال في أذهــان املستمعني في العالم العربي، وتعكس أعـداد املستمعني إليها، ( 13 مليون شخص أسبوعيا)، حسب استطالعات مطلع العام الجاري، مدى التقدير العاملي لها. ال أحـد، واتته فكرة اإلغــالق تلك. مجتمع اإلذاعـــة ال تختزله الــســوق، فـي سوء تــفــاهــ­م غــيــر مـحـتـمـل، فــاملــنـ­ـصــات الــرقــمـ­ـيــة ال تــخــتــز­ل كـــل شــــيء، خــصــوصــ­ا أنــهــا تــأتــي مع طـبـيـعـة اإلغـــــا­لق الـــقـــص­ـــوى. يــظــن أنــهــا تـأتـي فـي لحظة سياسية انخرطت فيها املؤسسة أكـثـر فـي قضايا االجـتـمـا­ع الـعـربـي الحديث، وبــعــنــ­ف لـــغـــوي تــضــامــ­نــي، تـــجـــاه مـــن يـحـتـل فــلــســط­ــني، ويــمــعــ­ن قـــتـــال وتـــشـــر­يـــدًا وتـفـكـيـك­ـا وقــمــعــ­ا بــالــشــ­عــب الــفــلــ­ســطــيــن­ــي. لــحــظــة غير مستقلة عن أوضاع عاملية متعثرة، تبرز فيها بطريقة شعبوية، لوبيات مناهضة للعربية ومشتقاتها، روافدها في أوروبا. بــمــعــز­ل عـــن ذلــــك كـــلـــه، مـــن حـــق الــجــمــ­هــورأن يكون فكرة شاملة عن مصير محطة تابعها فـي مواقفها، آرائــهــا، مناقشاتها، وتحليلها السياسي. وطبيعي أن تكون هناك مآخذ كثيرة عليها، ولم تحظ باإلجماع حولها، إذ ال يمكن تبجيلها بـالـكـامـ­ل. فــي الــوقــت نـفـسـه، ليست مـسـؤولـيـ­ة اإلذاعــــ­ة عــن إجـــــراء­ات استشراقية كـولـونـيـ­الـيـة نـــافـــد­ة، وال عــن اإلجــــــ­راءات غير الديمقراطي­ة ألنظمة توتاليتاري­ة. في النهاية، شكلت املؤسسة فـضـاء واســعــا، تحركت فيه األصــــــ­ـوات، الـــتـــع­ـــدديـــا­ت املــتــنـ­ـاقــضــة، بــحــريــ­ة نسبيٍة، ديمقراطيٍة نسبيٍة، ومعها تطلعات وانــتــقـ­ـاالت أوطــــان وشـــعـــو­ب، ومــســالـ­ـك حياة ومـجـتـمـع. تـــحـــوا­لت عــديــدة شـكـلـت مجتمعا إذاعــيــا مفتوحا، لــم يـــؤد الــى تنافر كبير مع الثوابت واألعـــرا­ف الراسخة، في حني جذبت إليها املضطهدين السياسيني واملقموعني إلى أهل الفن والشعر واألدب، والفكر والسياسة. تـبـقـى هـــوامـــ­ش مـتـفـائـل­ـة بــاســتــ­مــراريــة تـعـود معها اإلذاعة بـ «همزة وصل» ما إلى ناسها.

طبيعي أن تكون مآخذ كثيرة على إذاعة بيّ بي سي عربي، وألا تحظى باإلجماع حولها، إذ ال يمكن تبجيلها بالكامل

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar