التعصب ونزف العقول وخواء الروح
من وظائف العقل، الوعي والتفكير والحكم، ويعطلها جميعًا التعصب. يساعدنا العقل الخالي من التعصب على «الـفـرز» الجيد، فنطرد ما يخصم منا ونضيف ما ينفعنا «أيــــــــًا» كـــــان مـــــصـــــدره، والـــعـــكـــس صــحــيــح. قــال عالم النفس إريــك فـــروم: «الحرية هي الــقــدرة عـلـى اتــبــاع صـــوت الـعـقـل واملـعـرفـة فـي مواجهة صـوت املشاعر الالعقالنية»؛ ولــــعــــل أســـــــوأ املــــشــــاعــــر الـــالعـــقـــالنـــيـــة هـي الناتجة من التعصب الذي يجعل كثيرين «يـــســـتـــمـــيـــتـــون» فـــــي الـــــدفـــــاع عـــــن الـــخـــطـــأ، لـــصـــدوره عـمـن يـتـعـصـبـون لـــه ويـضـحـون بسببه «بأريحية» بعالقات تهمهم. نختلف مـع كانت القائل: «عليك التحلي بــالــشــجــاعــة الــكــافــيــة الســـتـــخـــدام عــقــلــك»؛ ونـــرى أنـــه يجعل اســتــخــدام الـعـقـل وكـأنـه أمــــر شــــاق؛ واألصــــــح أن نــــرى اسـتـخـدامـه كـــالـــتـــنـــفـــس؛ مــــن ال يــفــعــلــه يــخــتــنــق وهـــو الجاني والضحية في الوقت نفسه. تـسـبـب الـحـمـاسـة الـــزائـــدة بـالـتـعـصـب مع البحث عن بطل للسير وراءه طلبًا لألمان، وال يــعــرفــون أنـــهـــم يــعــطــلــون «بــأيــديــهــم» نمو عقولهم. وأحيانا يتعصب بعضهم لـلـنـفـس، فـهـو عـلـى حـــق دومــــًا، واآلخــــرون «يتنفسون» األخطاء؛ من يفعل ذلك يدفن فــرصــه الــتــي يستحقها للنضج ولـحـيـاة «حقيقية» يتطور بها، حتى ال يفاجأ يومًا بنفسه، وقد تحول عقله إلى مستنقع راكد. يستغرب كـثـيـرون، ولسنا منهم، إصابة الــــبــــعــــض بــــنــــوبــــات غــــضــــب هـــيـــســـتـــيـــري، وأحيانًا أزمــات صحية ونوبات عدوانية أو تخريبية عند تعّرض ناديهم الرياضي لــهــزيــمــة قـــاســـيـــة؛ والـــســـبـــب أنـــهـــم حـــولـــوا انـتـصـاراتـهـم بـالـحـيـاة إلـــى نــاديــهــم، ولــذا «ثــقــلــت» عـلـيـهـم الــهــزيــمــة، ألنــهــا ذكـرتـهـم بهزائمهم األخرى التي «هربوا» منها إلى التعصب الرياضي. كذلك يتخذ بعضهم مــــن بـــعـــض الـــكـــتـــاب أو الــــزعــــمــــاء، وحــتــى «اليوتيوبر» أصنامًا، ويتجاهلون أنهم ال يقدرونهم، ويرونهم «مجرد» أتباع، بل يـسـخـرون منهم فــي جلساتهم الخاصة، وأحيانًا على املأل. وعلى «يوتيوب» حوار لـكـاتـب راحــــل اشـتـهـر بــأنــه أعــــاد الـشـبـاب للقراءة يسخر فيه من متابعيه ويصفهم «بالدراويش» الذين ينبهرون من أي كالم يقوله، ولو كان عاديًا! يقود التعصب كثيرًا إلى األحكام املسبقة، وهـــــي أول الــــخــــطــــوات املـــــؤكـــــدة لــتــصــلــب العقول وانــســداد الـوعـي. يختار بعضهم الــتــعــصــب، ألنـــه يمنحهم الــشــعــور بأنهم «أفــضــل»، بسبب أمـــور ال عـالقـة لهم بها؛ ففي معظم أنحاء العالم، وفي كل األزمان، يتعصب كثيرون مـن الجنسني، ومــن كل األعمار، ملدن ضد أخــرى، ويعتز بعضهم
بمبالغة بمدينته، وكأنها القمة والباقي في القاع؛ واملتعصب كمن ينظر من زاوية ضيقة جدًا، وال يرى إال جمال ما يتعصب له أو تميزه، «ويحرم» نفسه رؤية الجمال واالتساع والتنوع في الحياة. املؤلم أنه يخذل نفسه؛ فال يرى عيوب ما ينتمي إليه، وغالبًا يب ّررها. وقد «يتط ّرف» ليمتدحها وكأنها مزايا؛ فنجد من يمتدح عناد من يحب بأنه قـوة شخصية، وهي بـــــراء مـــن ذلــــك؛ فــالــقــوة الـحـقـيـقـيـة ترتبط دومـــًا «بـالـرغـبـة» وبـالـقـدرة على مراجعة النفس، وتخليصها من شوائب العقول، وال عقل في الكون بال شـوائـب، ســواء من داخـــلـــه أو مـمـن يـلـقـيـه عـلـيـه بـعـضـهـم في الواقع، ومن خالل الفضائيات والصحف ووسائل التواصل االجتماعي، ودومًا في اإلمكان أفضل مما هو كائن. يــــــبــــــدأ الـــــتـــــعـــــصـــــب مـــــــن الـــــصـــــغـــــر، وهـــــو كالحشائش الضارة إن لم ننتبه ونسارع بـإزالـتـهـا «تــتــوحــش»، وتلتهم كــل شـيء فــــي طـــريـــقـــهـــا فـــيـــنـــزف الـــعـــقـــل، ويـــزحـــف الخواء على الـروح «بخبث» وتــدرج. وال نـنـكـر الــحــمــاســة ملـــا نــحــب مـــن أشــخــاص وانتماءات؛ فهذا طبيعي، فقط ننبه إلى أن مــا زاد عـلـى الــحــد انـقـلـب إلـــى الـضـد، واملبالغة تعمي العقول، وهي إن عميت تــقــود صـاحـبـهـا إلـــى الــهــاويــة، ولـــو بعد حــــني؛ فــاملــتــعــصــب أعـــمـــى «بـــاخـــتـــيـــاره»، ويــرفــض االعـــتـــراف بـأنـه أعــمــى، ويـقـذف من ينبهه بأسوأ الصفات، وقد يقاطعه ويلقي بنفسه إلى خواء الروح والشعور بـالـفـراغ الــداخــلــي، وتنمية الـحـاجـة إلـى اآلخرين مللئه، «ويطفئ» نـوره الداخلي، واألذكـــــــــى االعــــتــــمــــاد عـــلـــى نـــفـــســـه ومــــلء حياته «بزهوة» حقيقية تنير عمره. يـــخـــتـــار بــعــضــهــم الـــتـــعـــصـــب «لـــالحـــتـــمـــاء» ولـلـشـعـور بـاالنـتـمـاء بـــدال مــن الـعـيـش في الدنيا وحده؛ حيث يتحتم عليه التفكير في كل شيء، واتخاذ «مواقف» مع وضد وحده من دون الرجوع للغير، وربما «للخوف» من تحمل مسؤولية ذلك كله، فيفضل السماح «بـــبـــدء» نـــزف عـقـلـه، والــتــعــصــب ملجموعة أو لـــتـــيـــار، وربـــمـــا لـــنـــاد ريــــاضــــي؛ للبحث عــــن انــــتــــصــــارات لــــم يــــشــــارك فــــي صـنـعـهـا، «ويندمج» مع الغير عند الخسارة، ويدافع معهم عن الفريق، ويشعر بأنه ليس وحده، وأن هناك ما هو «أكـبـر» منه ينتمي إليه، ويخذل نفسه ويحرمها االنتماء إلى نفسه وإلى انتصاراته «الحقيقية»، وبيده يفسح املجال لنزف عقله، فالعقول إن لم تنشغل بصنع االنتصارات الحقيقية واإلنجازات الــــتــــي تــــرضــــي الـــعـــقـــل عــــن حــــــق، وتــجــعــلــه «يـــزدهـــر» ويـنـضـج ويــرتــفــع عــن الصغائر بــــكــــامــــل اخـــــتـــــيـــــاره، فـــســـيـــنـــزف ويــنــشــغــل بالصغائر، وينهمك في معارك «ال» تخصه ويــنــتــفــض غــضــبــًا لــهــا وتــصــيــبــه الــســهــام
يصل األمر بالمتعصبين إلى «اليقين» بأن مجرد تجاهلهم وتغاضيهم عما يسوء من يتعصبون لهم، وإن كان حقيقة، هزيمة نكراء
الـطـائـشـة، وتـجـعـلـه يــنــزف فــي صــمــت، وال يـتـنـبـه إلـــى الـــنـــزف، وإن انــتــبــه، ونـــــادرًا ما يـــحـــدث، فـسـيـتـجـاهـلـه، وربـــمـــا بـــــرره بـأنـه ضريبة االنتصار النتمائه. ال أحـــد مــنــا، مهما بلغت درجـــة ثـــرائـــه، ال يهتم بـجـودة مـا يشتريه قبل دفــع ثمنه؛ واملؤسف املؤلم أن كثيرين من الجنسني، ومـــــــن كـــــل األعـــــــمـــــــار، ال يــــبــــذلــــون الـــجـــهـــد نفسه، أو ما يقاربه للتأكد من أهمية ما يتعصبون لـه قبل االنــدفــاع للدفاع عنه؛ ســــواء أكــــان شــركــة للمحمول أم نــاديــًا أم مذيعًا يتابعونه أم حتى منتجًا غذائيًا، ووصــــــوال إلــــى تــيــار ســيــاســي، ويـــهـــدرون طاقات غالية وأوقـاتـًا من أعمارهم، فيما يضرهم ويخصم منهم، ويتغافلون عن أن هـــــذه الـــطـــاقـــات واألوقـــــــــات كـــــان يـمـكـن االستفادة منها، ولـو بأخذ استراحة من ضغوط الحياة، والتي ال يفلت منها أحد. يخسر كثيرون بعض عالقاتهم اإلنسانية بـسـبـب الــتــعــصــب، ويــصــل بـهـم األمــــر إلـى «اليقني» بأن مجرد تجاهلهم وتغاضيهم عـمـا يـسـوء مـن يتعصبون لـهـم، وإن كان حقيقة، هـزيـمـة نــكــراء، وربــمــا تـخـلـوا عن جــــزء مـــن كــرامــتــهــم، ويـــرفـــضـــون رؤيــــة ما يـؤكـد لهم خطأ مـا، أو مـن يتعصبون له، ويــســارعــون بـتـبـريـره أو وصــفــه بــأنــه من الحكمة، وأن هناك ما يعلو على العامة أو «البسطاء» فهمه! تـــــحـــــرص بــــعــــض الــــهــــيــــئــــات عــــلــــى نــشــر الـــتـــعـــصـــب بــــإذكــــاء الــطــائــفــيــة والـــنـــزعـــات الـعـرقـيـة بــني أبــنــاء الــوطــن الــعــربــي كـافـة، وبـني الوطن خصوصًا، وحتى الخالفات بني األندية الرياضية وإشعال الخالفات البسيطة، وجعلها مسألة كرامة أو حياة أو مـــوت، وتــدعــم االحـتـفـال بـاالنـتـصـارات الزائفة واالحـتـمـاء «بالطائفة»، وتجاهل رؤيـــة أخــطــاء بعض الــزعــمــاء، واسـتـنـزاف العقول في تبرير أخطائهم أو خطاياهم وتحريضهم على االستهانة بمن يدافع عـنـهـم، والــتــعــامــل مـعـه رقــمــًا أو جــــزءًا من قطيع يتكرم عليه بـإطـاللـة مــن وقــت إلى آخر، يحيي فيه أتباعه، ويعدهم بالكثير، ويــعــلــم أنــــه لـــن يــفــعــل، وأنـــهـــم سينهكون عــقــولــهــم فـــي الـــدفـــاع عـــنـــه، وســيــجــادلــون خـصـومـه، حـتـى يـجـهـدوهـم. ولـــذا يبتسم في آخـر كل لقاء مع مريديه أو دراويـشـه، بــاملــعــنــى األكـــثـــر واقــــعــــيــــة... يــنــطــبــق على معظم املتعصبني ما قاله قيس بن امللوح، عندما ســألــوه: «مــن أحـــق بـالـخـالفـة، بنو العباس أم بنو هاشم؟»، فرد: ليلى. نتأمل القول البديع لإلمام علي كـرم الله وجهه: إذا وضعت أحدًا فوق قدره، فتوقع أن يضعك دون قــدرك؛ ونطالب «بإجادة» تقدير أنفسنا دائمًا وأبدًا.