Al Araby Al Jadeed

التعصب ونزف العقول وخواء الروح

- نجالء محفوظ

من وظائف العقل، الوعي والتفكير والحكم، ويعطلها جميعًا التعصب. يساعدنا العقل الخالي من التعصب على «الـفـرز» الجيد، فنطرد ما يخصم منا ونضيف ما ينفعنا «أيــــــــًا» كـــــان مـــــصـــ­ــدره، والـــعـــ­كـــس صــحــيــح. قــال عالم النفس إريــك فـــروم: «الحرية هي الــقــدرة عـلـى اتــبــاع صـــوت الـعـقـل واملـعـرفـ­ة فـي مواجهة صـوت املشاعر الالعقالني­ة»؛ ولــــعـــ­ـل أســـــــو­أ املــــشــ­ــاعــــر الـــالعــ­ـقـــالنــ­ـيـــة هـي الناتجة من التعصب الذي يجعل كثيرين «يـــســـتـ­ــمـــيـــ­تـــون» فـــــي الـــــدفـ­ــــاع عـــــن الـــخـــط­ـــأ، لـــصـــدو­ره عـمـن يـتـعـصـبـ­ون لـــه ويـضـحـون بسببه «بأريحية» بعالقات تهمهم. نختلف مـع كانت القائل: «عليك التحلي بــالــشــ­جــاعــة الــكــافـ­ـيــة الســـتـــ­خـــدام عــقــلــك»؛ ونـــرى أنـــه يجعل اســتــخــ­دام الـعـقـل وكـأنـه أمــــر شــــاق؛ واألصـــــ­ـح أن نــــرى اسـتـخـدام­ـه كـــالـــت­ـــنـــفــ­ـس؛ مــــن ال يــفــعــل­ــه يــخــتــن­ــق وهـــو الجاني والضحية في الوقت نفسه. تـسـبـب الـحـمـاسـ­ة الـــزائــ­ـدة بـالـتـعـص­ـب مع البحث عن بطل للسير وراءه طلبًا لألمان، وال يــعــرفــ­ون أنـــهـــم يــعــطــل­ــون «بــأيــديـ­ـهــم» نمو عقولهم. وأحيانا يتعصب بعضهم لـلـنـفـس، فـهـو عـلـى حـــق دومــــًا، واآلخــــر­ون «يتنفسون» األخطاء؛ من يفعل ذلك يدفن فــرصــه الــتــي يستحقها للنضج ولـحـيـاة «حقيقية» يتطور بها، حتى ال يفاجأ يومًا بنفسه، وقد تحول عقله إلى مستنقع راكد. يستغرب كـثـيـرون، ولسنا منهم، إصابة الــــبـــ­ـعــــض بــــنــــ­وبــــات غــــضــــ­ب هـــيـــسـ­ــتـــيـــ­ري، وأحيانًا أزمــات صحية ونوبات عدوانية أو تخريبية عند تعّرض ناديهم الرياضي لــهــزيــ­مــة قـــاســـي­ـــة؛ والـــســـ­بـــب أنـــهـــم حـــولـــو­ا انـتـصـارا­تـهـم بـالـحـيـا­ة إلـــى نــاديــهـ­ـم، ولــذا «ثــقــلــت» عـلـيـهـم الــهــزيـ­ـمــة، ألنــهــا ذكـرتـهـم بهزائمهم األخرى التي «هربوا» منها إلى التعصب الرياضي. كذلك يتخذ بعضهم مــــن بـــعـــض الـــكـــت­ـــاب أو الــــزعــ­ــمــــاء، وحــتــى «اليوتيوبر» أصنامًا، ويتجاهلون أنهم ال يقدرونهم، ويرونهم «مجرد» أتباع، بل يـسـخـرون منهم فــي جلساتهم الخاصة، وأحيانًا على املأل. وعلى «يوتيوب» حوار لـكـاتـب راحــــل اشـتـهـر بــأنــه أعــــاد الـشـبـاب للقراءة يسخر فيه من متابعيه ويصفهم «بالدراويش» الذين ينبهرون من أي كالم يقوله، ولو كان عاديًا! يقود التعصب كثيرًا إلى األحكام املسبقة، وهـــــي أول الــــخـــ­ـطــــوات املـــــؤك­ـــــدة لــتــصــل­ــب العقول وانــســدا­د الـوعـي. يختار بعضهم الــتــعــ­صــب، ألنـــه يمنحهم الــشــعــ­ور بأنهم «أفــضــل»، بسبب أمـــور ال عـالقـة لهم بها؛ ففي معظم أنحاء العالم، وفي كل األزمان، يتعصب كثيرون مـن الجنسني، ومــن كل األعمار، ملدن ضد أخــرى، ويعتز بعضهم

بمبالغة بمدينته، وكأنها القمة والباقي في القاع؛ واملتعصب كمن ينظر من زاوية ضيقة جدًا، وال يرى إال جمال ما يتعصب له أو تميزه، «ويحرم» نفسه رؤية الجمال واالتساع والتنوع في الحياة. املؤلم أنه يخذل نفسه؛ فال يرى عيوب ما ينتمي إليه، وغالبًا يب ّررها. وقد «يتط ّرف» ليمتدحها وكأنها مزايا؛ فنجد من يمتدح عناد من يحب بأنه قـوة شخصية، وهي بـــــراء مـــن ذلــــك؛ فــالــقــ­وة الـحـقـيـق­ـيـة ترتبط دومـــًا «بـالـرغـبـ­ة» وبـالـقـدر­ة على مراجعة النفس، وتخليصها من شوائب العقول، وال عقل في الكون بال شـوائـب، ســواء من داخـــلـــ­ه أو مـمـن يـلـقـيـه عـلـيـه بـعـضـهـم في الواقع، ومن خالل الفضائيات والصحف ووسائل التواصل االجتماعي، ودومًا في اإلمكان أفضل مما هو كائن. يــــــبــ­ــــدأ الـــــتــ­ـــعـــــص­ـــــب مـــــــن الـــــصــ­ـــغـــــر، وهـــــو كالحشائش الضارة إن لم ننتبه ونسارع بـإزالـتـه­ـا «تــتــوحــ­ش»، وتلتهم كــل شـيء فــــي طـــريـــق­ـــهـــا فـــيـــنـ­ــزف الـــعـــق­ـــل، ويـــزحـــ­ف الخواء على الـروح «بخبث» وتــدرج. وال نـنـكـر الــحــمــ­اســة ملـــا نــحــب مـــن أشــخــاص وانتماءات؛ فهذا طبيعي، فقط ننبه إلى أن مــا زاد عـلـى الــحــد انـقـلـب إلـــى الـضـد، واملبالغة تعمي العقول، وهي إن عميت تــقــود صـاحـبـهـا إلـــى الــهــاوي­ــة، ولـــو بعد حــــني؛ فــاملــتـ­ـعــصــب أعـــمـــى «بـــاخـــت­ـــيـــاره»، ويــرفــض االعـــتــ­ـراف بـأنـه أعــمــى، ويـقـذف من ينبهه بأسوأ الصفات، وقد يقاطعه ويلقي بنفسه إلى خواء الروح والشعور بـالـفـراغ الــداخــل­ــي، وتنمية الـحـاجـة إلـى اآلخرين مللئه، «ويطفئ» نـوره الداخلي، واألذكــــ­ـــــى االعــــتـ­ـــمــــاد عـــلـــى نـــفـــسـ­ــه ومــــلء حياته «بزهوة» حقيقية تنير عمره. يـــخـــتـ­ــار بــعــضــه­ــم الـــتـــع­ـــصـــب «لـــالحـــ­تـــمـــاء» ولـلـشـعـو­ر بـاالنـتـم­ـاء بـــدال مــن الـعـيـش في الدنيا وحده؛ حيث يتحتم عليه التفكير في كل شيء، واتخاذ «مواقف» مع وضد وحده من دون الرجوع للغير، وربما «للخوف» من تحمل مسؤولية ذلك كله، فيفضل السماح «بـــبـــدء» نـــزف عـقـلـه، والــتــعـ­ـصــب ملجموعة أو لـــتـــيـ­ــار، وربـــمـــ­ا لـــنـــاد ريــــاضــ­ــي؛ للبحث عــــن انــــتـــ­ـصــــارات لــــم يــــشــــ­ارك فــــي صـنـعـهـا، «ويندمج» مع الغير عند الخسارة، ويدافع معهم عن الفريق، ويشعر بأنه ليس وحده، وأن هناك ما هو «أكـبـر» منه ينتمي إليه، ويخذل نفسه ويحرمها االنتماء إلى نفسه وإلى انتصاراته «الحقيقية»، وبيده يفسح املجال لنزف عقله، فالعقول إن لم تنشغل بصنع االنتصارات الحقيقية واإلنجازات الــــتـــ­ـي تــــرضـــ­ـي الـــعـــق­ـــل عــــن حــــــق، وتــجــعــ­لــه «يـــزدهـــ­ر» ويـنـضـج ويــرتــفـ­ـع عــن الصغائر بــــكــــ­امــــل اخـــــتــ­ـــيـــــا­ره، فـــســـيـ­ــنـــزف ويــنــشــ­غــل بالصغائر، وينهمك في معارك «ال» تخصه ويــنــتــ­فــض غــضــبــًا لــهــا وتــصــيــ­بــه الــســهــ­ام

يصل األمر بالمتعصبين إلى «اليقين» بأن مجرد تجاهلهم وتغاضيهم عما يسوء من يتعصبون لهم، وإن كان حقيقة، هزيمة نكراء

الـطـائـشـ­ة، وتـجـعـلـه يــنــزف فــي صــمــت، وال يـتـنـبـه إلـــى الـــنـــز­ف، وإن انــتــبــ­ه، ونـــــادرًا ما يـــحـــدث، فـسـيـتـجـ­اهـلـه، وربـــمـــ­ا بـــــرره بـأنـه ضريبة االنتصار النتمائه. ال أحـــد مــنــا، مهما بلغت درجـــة ثـــرائـــ­ه، ال يهتم بـجـودة مـا يشتريه قبل دفــع ثمنه؛ واملؤسف املؤلم أن كثيرين من الجنسني، ومـــــــن كـــــل األعــــــ­ـمـــــــا­ر، ال يــــبــــ­ذلــــون الـــجـــه­ـــد نفسه، أو ما يقاربه للتأكد من أهمية ما يتعصبون لـه قبل االنــدفــ­اع للدفاع عنه؛ ســــواء أكــــان شــركــة للمحمول أم نــاديــًا أم مذيعًا يتابعونه أم حتى منتجًا غذائيًا، ووصــــــو­ال إلــــى تــيــار ســيــاســ­ي، ويـــهـــد­رون طاقات غالية وأوقـاتـًا من أعمارهم، فيما يضرهم ويخصم منهم، ويتغافلون عن أن هـــــذه الـــطـــا­قـــات واألوقــــ­ـــــات كـــــان يـمـكـن االستفادة منها، ولـو بأخذ استراحة من ضغوط الحياة، والتي ال يفلت منها أحد. يخسر كثيرون بعض عالقاتهم اإلنسانية بـسـبـب الــتــعــ­صــب، ويــصــل بـهـم األمــــر إلـى «اليقني» بأن مجرد تجاهلهم وتغاضيهم عـمـا يـسـوء مـن يتعصبون لـهـم، وإن كان حقيقة، هـزيـمـة نــكــراء، وربــمــا تـخـلـوا عن جــــزء مـــن كــرامــتـ­ـهــم، ويـــرفـــ­ضـــون رؤيــــة ما يـؤكـد لهم خطأ مـا، أو مـن يتعصبون له، ويــســارع­ــون بـتـبـريـر­ه أو وصــفــه بــأنــه من الحكمة، وأن هناك ما يعلو على العامة أو «البسطاء» فهمه! تـــــحـــ­ــرص بــــعــــ­ض الــــهـــ­ـيــــئـــ­ـات عــــلــــ­ى نــشــر الـــتـــع­ـــصـــب بــــإذكــ­ــاء الــطــائـ­ـفــيــة والـــنـــ­زعـــات الـعـرقـيـ­ة بــني أبــنــاء الــوطــن الــعــربـ­ـي كـافـة، وبـني الوطن خصوصًا، وحتى الخالفات بني األندية الرياضية وإشعال الخالفات البسيطة، وجعلها مسألة كرامة أو حياة أو مـــوت، وتــدعــم االحـتـفـا­ل بـاالنـتـص­ـارات الزائفة واالحـتـمـ­اء «بالطائفة»، وتجاهل رؤيـــة أخــطــاء بعض الــزعــمـ­ـاء، واسـتـنـزا­ف العقول في تبرير أخطائهم أو خطاياهم وتحريضهم على االستهانة بمن يدافع عـنـهـم، والــتــعـ­ـامــل مـعـه رقــمــًا أو جــــزءًا من قطيع يتكرم عليه بـإطـاللـة مــن وقــت إلى آخر، يحيي فيه أتباعه، ويعدهم بالكثير، ويــعــلــ­م أنــــه لـــن يــفــعــل، وأنـــهـــ­م سينهكون عــقــولــ­هــم فـــي الـــدفـــ­اع عـــنـــه، وســيــجــ­ادلــون خـصـومـه، حـتـى يـجـهـدوهـ­م. ولـــذا يبتسم في آخـر كل لقاء مع مريديه أو دراويـشـه، بــاملــعـ­ـنــى األكـــثــ­ـر واقــــعــ­ــيــــة... يــنــطــب­ــق على معظم املتعصبني ما قاله قيس بن امللوح، عندما ســألــوه: «مــن أحـــق بـالـخـالف­ـة، بنو العباس أم بنو هاشم؟»، فرد: ليلى. نتأمل القول البديع لإلمام علي كـرم الله وجهه: إذا وضعت أحدًا فوق قدره، فتوقع أن يضعك دون قــدرك؛ ونطالب «بإجادة» تقدير أنفسنا دائمًا وأبدًا.

 ?? (رومان بيروشو/فرانس برس) ?? يخسر كثيرون بعض عالقاتهم اإلنسانية بسبب التعصب
(رومان بيروشو/فرانس برس) يخسر كثيرون بعض عالقاتهم اإلنسانية بسبب التعصب

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar