Al Araby Al Jadeed

المتأخرون في مصر

- سامح راشد

أصيبت مؤسسات الـدولـة املصرية في السنوات األخـيـرة بمرض اسمه «التأخر». وتفاقمت أعراض ذلك املرض بوضوح في العامني املاضيني، إذ اتسمت ردود أفعال الحكومة املصرية، بمختلف مؤسساتها وأجهزتها، بالتأخر الشديد، وليس فقط البطء في مواجهة جائحة كورونا وما فرضه فيروس كورونا من إجـراءات وقيود صارمة في مختلف الدول. بينما كانت مصر من أواخر الدول التي طبقت اإلغالق، سواء في الداخل أو على منافذ الدخول، وكذلك األمر بالنسبة ملختلف مراحل مواجهة الجائحة وتوقيتاتها، األمر الذي أظهر مصر بصورة سيئة مقارنة ببقية الدول، بما فيها املتخلفة. وما إن انزاحت غمة كورونا جزئيًا، إال وفوجئ العالم بأزمة الحرب الروسية األوكـرانـ­يـة. وبينما تقترب األزمـــة مـن إكـمـال عامها األول، ال تــزال الدولة املصرية تتخبط في مواجهة تداعياتها. رغـم أن أي دارس مبتدئ لالقتصاد كان يدرك مسبقًا مخاطر تلك األزمة على سالسل التوريد الغذائية، خصوصًا الحبوب، فضال عن اضطراب سوق الطاقة العاملية. وتبعات ذلك من تضخم وارتباك في دول كثيرة، خصوصًا التي تملك فاتورة استيرادية باهظة مثل مصر. رغم ذلك كله، كانت الحركة املصرية متأخرة دائمًا، وربما بعد فوات األوان. فخالل فعاليات بطولة كأس العالم في قطر قبل شهرين، راحت الحكومة املصرية تبحث أوجه االستفادة من إقامة كأس العالم في قطر في تنشيط السياحة إلى مصر، وذلك بعد بدء فعاليات البطولة بأيام عدة. الغريب، حقًا، أن ذلك «التأخر» الحكومي في مصر ليس مقتصرًا على األزمات واألحداث الطارئة أو الفعاليات االستثنائي­ة، وإنما هو نمط عام، يشمل أيضًا القرارات اليومية في إدارة الدولة، فمثال، يعاني املصريون بشدة من ارتفاع األسعار وتزايد رهيب في معدالت التضخم، لم تتحرك الحكومة املصرية ال لكبح األسعار وال إلنفاذ قوانني حماية املستهلك. وبدال من ذلك، خرج رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، يدعو املواطنني إلى إبالغ الحكومة في حالة ارتفاع األسعار! وبالطبع، نال الرجل ما يستحق من سخرية عبر وسائل التواصل، ليس فقط لتجاهله وجـود مؤسسات رقابية وأجهزة لها حق الضبطية ومهمتها األساسية ضبط األسعار، لكن أيضًا النعزاله ذهنيًا وفعليًا عن الواقع، فقد بدا من حديثه كأن الحكومة ال تعلم أن األسعار قفزت بالفعل إلى مستويات خيالية. وفي ملف آخر، قررت الحكومة املصرية تعديل شروط مبادرة السماح للعاملني في الخارج باستيراد سيارات. وذلك لضعف اإلقبال بسبب شروط غير منطقيٍةّ جعلت املبادرة غير ذات جـدوى. وحدث أيضًا التراجع نفسه في ملفات أخـرى، لعل أشهرها قانون التصالح في مخالفات البناء، وقانون إجراءات «الشهر والتوثيق العقاري». وغير ذلك من قوانني وقرارات حكومية رسمية يفترض أنها روجعت وروعيت فيها القابلية للتطبيق في الواقع، فضال عن تقدير الجدوى النهائية منها. لكن الحكومة ال تلتفت إلى املالحظات املسبقة وال تستمع إلى التحذيرات الالحقة إال متأخرة، فتفكر طويال ثم تشرع متأخرة للغاية في التعديل أو التصحيح، بعد أن يفرضه الواقع والتجربة الفعلية. ويتكرر نموذج التأخر نفسه في التعامل مع أبسط األمــور اليومية. مثال، مـعـروف أن الشتاء يأتي سنويًا منذ بدء الخليقة، لكن املسؤولني والتنفيذين­ي لم يتحركوا ملواجهة األمطار والسيول في أي عام، إن تحركوا، إال بعد غرق الشوارع وتوقف الحركة. املفارقة أن هذا التأخر املـزمـن مقصور حصريًا على مـا يخدم الـوطـن واملــواطـ­ـن. أمــا مـا يخدم السلطة أو يزيد حصيلتها من إيرادات، فال تأخير له وال تدقيق، وإنما تنفيذ سريع وحاسم ال رجعة فيه. وما دام الضرر والكلفة بعيدين عن السلطة ومؤسساتها، يظل املسؤولون املتأخرون، كما هم دائمًا، متأخرين في كل شيء، حتى في إدراك أنهم متأخرون.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar