في سلبيات التقنية
تعرف املجتمعات البشرية نقاشات حادة على عتبة أي تـحـول حــضــاري، فـي سياق طـــرح املـــوقـــف مـــن الــجــديــد عــمــومــا. لــــذا، لم يكن غريبا أن يحتد النقاش بشأن اآلثــار الـسـلـبـيـة لــلــتــطــور الــتــقــنــي عــلــى اإلنـــســـان، غير أن أسئلة العصر الرقمي ال يبدو أنها مسبوقة في تاريخ الفكر اإلنساني. فتقنية «الواي فاي» أو تقنية التواصل الاسلكي، مثا، التي اخترعت وطــورت في أستراليا في التسعينيات، وتطورت بقوة في مطلع القرن الحالي، عبر أجهزة عـديـدة متصلة بحياتنا اليومية، مثل الهواتف املحمولة والـــحـــواســـب وأجــــهــــزة الــتــلــفــاز واألجـــهـــزة اللوحية، هذه التقنية من املوضوعات التي أسالت مدادًا كثيرًا، نقدًا أو تقريظا. ومنافع «الـــواي فـــاي»، مثل جميع التكنولوجيات املــســتــحــدثــة، عـــديـــدة ومــتــنــوعــة، إذا عــرف الـــنـــاس كــيــف يـسـتـثـمـرونـهـا عــلــى وجـهـهـا الـصـحـيـح، غـيـر أن عـيـوبـهـا قــد تــكــون لها انعكاسات سلبية في غاية الخطورة على جــمــيــع املــجــتــمــعــات، وبـــالـــخـــصـــوص على مجتمعنا العربي، املعروف عموما بتاحم أفراده وتراحمهم. أما املجتمعات الغربية، فـــا خـــوف عـلـيـهـا مــنــه، مـــا دام الـتـفـكـك قد طاولها قبل «الـواي فاي» وبعده، وذلك ملا أصبح أبناؤها أشبه بكتاكيت الدجاجة، مــا إن يـشـتـد عــودهــم، حـتـى ينفصلوا عن أمهاتهم، وعن بعضهم بكل تلقائية. ومـــــــــــــن مـــــــشـــــــكـــــــات عــــــــــديــــــــــدة أحـــــدثـــــتـــــهـــــا التكنولوجيا، ما يسهم فيه «الـــواي فاي» بحظ وافر في تشتيت شمل األسر بتفكيك روابـط القرابة وعاقات املـودة التي كانت، إلـــى وقـــت قــريــب، مــن مــمــيــزات املجتمعات العربية وغـيـر الغربية عموما. «املــارشــال الويفي» الذي فرض نفسه كطاغية مستبد، ال فكاك من جبروته وال مهرب منه إال إليه. ومــمــا أثــــار شـيـئـا مــن الـسـخـريـة املـمـزوجـة بـــاألســـف إلبــــــراز هــــذا الــــواقــــع الـــجـــديـــد، ما تناولته بعض مواقع التواصل االجتماعي نــــقــــا عــــن شـــخـــص خـــفـــيـــف الـــــــــروح، حـكـى هـــازئـــا يـــقـــول: «بــــاألمــــس، كــنــت فـــي مـنـزلـي لــيــا مستغرقا فــي اإلبـــحـــار عـلـى «الــنــت»، فإذا بالواي فاي ينقطع فجأة، وملا حاولت إصـاحـه فشلت، فبقيت مـع أفـــراد أسرتي نــتــبــادل الـــنـــظـــرات فـــي بــاهــة واســـتـــغـــراب، وأحسسنا بالسعادة حقا ملا أعدنا التعرف عـــلـــى بــعــضــنــا الـــبـــعـــض. وكـــــم ســــرنــــي أنـــي وجــدت أهلي أنـاسـا طيبني». هـذا بطبيعة الــحــال هـــزل يــــراد بــه تسليط الــضــوء على هذه املنفعة التي انقلبت إلى آفة، بحيث إنك أصبحت اليوم ترى، أينما حللت وارتحلت، شــبــانــا وشــــابــــات، بـــل وشــيــوخــا وأطـــفـــاال، فـي املــنــازل وفــي كـل األمــاكــن العمومية، ال يرفعون رؤوسـهـم عن هواتفهم املحمولة، وهــم مستغرقون كـاملـشـدوهـني فــي عاملهم الـــســـحـــري، إن نــاديــتــهــم ال يــجــيــبــون، وإن ربــــت أكـتـافـهـم ال يلتفتون، وتــراهــم لحظة يـــضـــحـــكـــون، ولـــحـــظـــات أخــــــرى يــغــضــبــون ويشتمون كلما خسروا في لعبة من اللعب التي يعج بها الفضاء األزرق. حـكـى لــي صــديــق قـصـة طــريــفــة، حــني جـاء جــــد مـــن بــاديــتــه الــنــائــيــة لـــزيـــارة ابـــنـــه في الـعـاصـمـة، بـعـدمـا هـــزه الـحـنـني إلـيـه وإلــى رؤيـــــة أحــــفــــاده الـــذيـــن غـــابـــوا عــنــه طـــويـــا. لـــم يستعمل هـــذا الـــجـــد فـــي حــيــاتــه هاتفا مـــحـــمـــوال، وال يـــريـــد أن يــســتــعــمــلــه، فــهــذه الــــتــــطــــورات الـــتـــكـــنـــولـــوجـــيـــة غـــريـــبـــة عــنــه، ويشعر نحوها بشيء من الريبة والنفور، ويـــكـــتـــفـــي بـــالـــتـــواصـــل مــــع ابـــنـــه بــــني حـني وآخـــر عبر هـاتـف زوجـتـه الـتـي يـبـدو أنها تأقلمت أفضل منه مع مخترعات العصر. وعـادة ما يحدث بينهما شجار ونقار في كل مكاملة بسبب صوته الجهوري األجش الــذي يعتقد أنـه مرغم على رفعه ليسمعه ابنه على شاكلة ما ينادي به راع غنمه من التل إلـى الـــوادي، بينما الـجـدة تتميز منه غيظا خوفا من أن يسمع الجيران فحوى املكاملة فيحسدوهم على ما يتوصلون به بــني الـفـيـنـة واألخـــــرى مــن مــســاعــدة مـاديـة يريدانها أن تبقى مستورة. وملا دخل الوالد فجأة على ولده، جاء هذا متهلا يقبل يديه ورأســـه، ثـم أحــس بالحرج الشديد ملـا رأى
يُسهم «الواي فاي» بحظ وافر في تشتيت شمل األسر بتفكيك روابط القرابة وعالقات المودة
أبناء ه ال يلتفتون إلى حضور جدهم، وهم صامتون مستغرقون في تفحص هواتفهم ال يــــكــــادون يــســتــوعــبــون أنـــهـــم مـــن كــوكــب األرض. وحـــني انـتـهـرهـم والـــدهـــم، تـريـثـوا لحظة قـبـل أن يــعــودوا بــأســف وامـتـعـاض إلى واقعهم ليتبينوا من يكون هذا الشيخ األشيب ذو الجلباب الداكن والوجه األسمر املـحـفـور بالتجاعيد. ومــا إن تـعـرفـوا إليه أخــــيــــرًا، حــتــى جــــــاؤوا يــســلــمــون عــلــيــه في اســـتـــحـــيـــاء بـــــــارد، لـــيـــعـــودوا مـــبـــاشـــرة إلـــى الـحـمـلـقـة فـــي هــواتــفــهــم. وعــنــدمــا خـرجـت الـزوجـة مـن غرفة نومها بتثاقل ملحوظ، وكـــانـــت مـسـتـغـرقـة هـــي كــذلــك فـــي تفحص هــاتــفــهــا املـــحـــمـــول، ســلــمــت عــلــى شيخها وكأنها رأته أمس، وتكلمت ملجرد أن تتكلم، طارحة عليه أسئلة بليدة ال تعني شيئا، وفيها غضب من هذا الحطام اآلدمي الذي جـــاء ليقلق راحــتــهــا. تــريــث الـشـيـخ لحظة محاوال استيعاب ما يـرى، وحـني لم يفهم شـيـئـا، وتـيـقـن أن ال مـكـان لــه بـعـد فــي هـذا البيت الغريب، تماثل بالذهاب إلى الحمام وخرج من الباب الخلفي ليعود إلى باديته، وهو يبسمل ويحوقل طول الطريق. ... مـــن قــــال إن الـــتـــقـــدم الــتــقــنــي كــلــه انــعــكــاس إيجابي على حياة البشر إذًا؟