Al Araby Al Jadeed

في سلبيات التقنية

- أحمد المرزوقي

تعرف املجتمعات البشرية نقاشات حادة على عتبة أي تـحـول حــضــاري، فـي سياق طـــرح املـــوقــ­ـف مـــن الــجــديـ­ـد عــمــومــ­ا. لــــذا، لم يكن غريبا أن يحتد النقاش بشأن اآلثــار الـسـلـبـي­ـة لــلــتــط­ــور الــتــقــ­نــي عــلــى اإلنـــســ­ـان، غير أن أسئلة العصر الرقمي ال يبدو أنها مسبوقة في تاريخ الفكر اإلنساني. فتقنية «الواي فاي» أو تقنية التواصل الاسلكي، مثا، التي اخترعت وطــورت في أستراليا في التسعينيات، وتطورت بقوة في مطلع القرن الحالي، عبر أجهزة عـديـدة متصلة بحياتنا اليومية، مثل الهواتف املحمولة والـــحـــ­واســـب وأجــــهــ­ــزة الــتــلــ­فــاز واألجـــهـ­ــزة اللوحية، هذه التقنية من املوضوعات التي أسالت مدادًا كثيرًا، نقدًا أو تقريظا. ومنافع «الـــواي فـــاي»، مثل جميع التكنولوجي­ات املــســتـ­ـحــدثــة، عـــديـــد­ة ومــتــنــ­وعــة، إذا عــرف الـــنـــا­س كــيــف يـسـتـثـمـ­رونـهـا عــلــى وجـهـهـا الـصـحـيـح، غـيـر أن عـيـوبـهـا قــد تــكــون لها انعكاسات سلبية في غاية الخطورة على جــمــيــع املــجــتـ­ـمــعــات، وبـــالـــ­خـــصـــوص على مجتمعنا العربي، املعروف عموما بتاحم أفراده وتراحمهم. أما املجتمعات الغربية، فـــا خـــوف عـلـيـهـا مــنــه، مـــا دام الـتـفـكـك قد طاولها قبل «الـواي فاي» وبعده، وذلك ملا أصبح أبناؤها أشبه بكتاكيت الدجاجة، مــا إن يـشـتـد عــودهــم، حـتـى ينفصلوا عن أمهاتهم، وعن بعضهم بكل تلقائية. ومــــــــ­ـــــن مـــــــشـ­ــــــكـــ­ــــات عـــــــــ­ـديـــــــ­ـــدة أحـــــدثـ­ــــتـــــ­هـــــا التكنولوجي­ا، ما يسهم فيه «الـــواي فاي» بحظ وافر في تشتيت شمل األسر بتفكيك روابـط القرابة وعاقات املـودة التي كانت، إلـــى وقـــت قــريــب، مــن مــمــيــز­ات املجتمعات العربية وغـيـر الغربية عموما. «املــارشــ­ال الويفي» الذي فرض نفسه كطاغية مستبد، ال فكاك من جبروته وال مهرب منه إال إليه. ومــمــا أثــــار شـيـئـا مــن الـسـخـريـ­ة املـمـزوجـ­ة بـــاألســ­ـف إلبــــــر­از هــــذا الــــواقـ­ـــع الـــجـــد­يـــد، ما تناولته بعض مواقع التواصل االجتماعي نــــقــــ­ا عــــن شـــخـــص خـــفـــيـ­ــف الــــــــ­ـروح، حـكـى هـــازئـــ­ا يـــقـــول: «بــــاألمـ­ـــس، كــنــت فـــي مـنـزلـي لــيــا مستغرقا فــي اإلبـــحــ­ـار عـلـى «الــنــت»، فإذا بالواي فاي ينقطع فجأة، وملا حاولت إصـاحـه فشلت، فبقيت مـع أفـــراد أسرتي نــتــبــا­دل الـــنـــظ­ـــرات فـــي بــاهــة واســـتـــ­غـــراب، وأحسسنا بالسعادة حقا ملا أعدنا التعرف عـــلـــى بــعــضــن­ــا الـــبـــع­ـــض. وكـــــم ســــرنـــ­ـي أنـــي وجــدت أهلي أنـاسـا طيبني». هـذا بطبيعة الــحــال هـــزل يــــراد بــه تسليط الــضــوء على هذه املنفعة التي انقلبت إلى آفة، بحيث إنك أصبحت اليوم ترى، أينما حللت وارتحلت، شــبــانــ­ا وشــــابــ­ــات، بـــل وشــيــوخـ­ـا وأطـــفـــ­اال، فـي املــنــاز­ل وفــي كـل األمــاكــ­ن العمومية، ال يرفعون رؤوسـهـم عن هواتفهم املحمولة، وهــم مستغرقون كـاملـشـدو­هـني فــي عاملهم الـــســـح­ـــري، إن نــاديــتـ­ـهــم ال يــجــيــب­ــون، وإن ربــــت أكـتـافـهـ­م ال يلتفتون، وتــراهــم لحظة يـــضـــحـ­ــكـــون، ولـــحـــظ­ـــات أخــــــرى يــغــضــب­ــون ويشتمون كلما خسروا في لعبة من اللعب التي يعج بها الفضاء األزرق. حـكـى لــي صــديــق قـصـة طــريــفــ­ة، حــني جـاء جــــد مـــن بــاديــتـ­ـه الــنــائـ­ـيــة لـــزيـــا­رة ابـــنـــه في الـعـاصـمـ­ة، بـعـدمـا هـــزه الـحـنـني إلـيـه وإلــى رؤيـــــة أحــــفـــ­ـاده الـــذيـــ­ن غـــابـــو­ا عــنــه طـــويـــا. لـــم يستعمل هـــذا الـــجـــد فـــي حــيــاتــ­ه هاتفا مـــحـــمـ­ــوال، وال يـــريـــد أن يــســتــع­ــمــلــه، فــهــذه الــــتـــ­ـطــــورات الـــتـــك­ـــنـــولـ­ــوجـــيــ­ـة غـــريـــب­ـــة عــنــه، ويشعر نحوها بشيء من الريبة والنفور، ويـــكـــت­ـــفـــي بـــالـــت­ـــواصـــل مــــع ابـــنـــه بــــني حـني وآخـــر عبر هـاتـف زوجـتـه الـتـي يـبـدو أنها تأقلمت أفضل منه مع مخترعات العصر. وعـادة ما يحدث بينهما شجار ونقار في كل مكاملة بسبب صوته الجهوري األجش الــذي يعتقد أنـه مرغم على رفعه ليسمعه ابنه على شاكلة ما ينادي به راع غنمه من التل إلـى الـــوادي، بينما الـجـدة تتميز منه غيظا خوفا من أن يسمع الجيران فحوى املكاملة فيحسدوهم على ما يتوصلون به بــني الـفـيـنـة واألخـــــ­رى مــن مــســاعــ­دة مـاديـة يريدانها أن تبقى مستورة. وملا دخل الوالد فجأة على ولده، جاء هذا متهلا يقبل يديه ورأســـه، ثـم أحــس بالحرج الشديد ملـا رأى

يُسهم «الواي فاي» بحظ وافر في تشتيت شمل األسر بتفكيك روابط القرابة وعالقات المودة

أبناء ه ال يلتفتون إلى حضور جدهم، وهم صامتون مستغرقون في تفحص هواتفهم ال يــــكــــ­ادون يــســتــو­عــبــون أنـــهـــم مـــن كــوكــب األرض. وحـــني انـتـهـرهـ­م والـــدهــ­ـم، تـريـثـوا لحظة قـبـل أن يــعــودوا بــأســف وامـتـعـاض إلى واقعهم ليتبينوا من يكون هذا الشيخ األشيب ذو الجلباب الداكن والوجه األسمر املـحـفـور بالتجاعيد. ومــا إن تـعـرفـوا إليه أخــــيـــ­ـرًا، حــتــى جــــــاؤو­ا يــســلــم­ــون عــلــيــه في اســـتـــح­ـــيـــاء بـــــــار­د، لـــيـــعـ­ــودوا مـــبـــاش­ـــرة إلـــى الـحـمـلـق­ـة فـــي هــواتــفـ­ـهــم. وعــنــدمـ­ـا خـرجـت الـزوجـة مـن غرفة نومها بتثاقل ملحوظ، وكـــانـــ­ت مـسـتـغـرق­ـة هـــي كــذلــك فـــي تفحص هــاتــفــ­هــا املـــحـــ­مـــول، ســلــمــت عــلــى شيخها وكأنها رأته أمس، وتكلمت ملجرد أن تتكلم، طارحة عليه أسئلة بليدة ال تعني شيئا، وفيها غضب من هذا الحطام اآلدمي الذي جـــاء ليقلق راحــتــهـ­ـا. تــريــث الـشـيـخ لحظة محاوال استيعاب ما يـرى، وحـني لم يفهم شـيـئـا، وتـيـقـن أن ال مـكـان لــه بـعـد فــي هـذا البيت الغريب، تماثل بالذهاب إلى الحمام وخرج من الباب الخلفي ليعود إلى باديته، وهو يبسمل ويحوقل طول الطريق. ... مـــن قــــال إن الـــتـــق­ـــدم الــتــقــ­نــي كــلــه انــعــكــ­اس إيجابي على حياة البشر إذًا؟

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar