أزمة مرّكبة في تونس
ال نـحـتـاج إلـــى جـهـد إلثــبــات وجــــود عالقة معقدة بـني السياسة واالقـتـصـاد، ال يمكن مــعــه فــصــل أحـــدهـــمـــا عـــن اآلخـــــر والــتــأثــيــر املـتـبـادل بينهما، وال يخلو تـاريـخ تونس الـــســـيـــاســـي بـــعـــد االســــتــــقــــالل مـــــن أحــــــداث كــبــرى ارتـبـطـت بـــأزمـــات اقــتــصــاديــة، كانت انـــعـــكـــاســـا لــــخــــيــــاراٍت ســـيـــاســـيـــٍة بــــدايــــة مـن تـجـربـة الـتـعـاضـد ذات املـنـحـى االشـتـراكـي في ستينيات القرن املاضي، والتي انتهت بـــمـــحـــاكـــمـــات وصـــــــراعـــــــات داخــــــــل الــــحــــزب الحاكم آنـــذاك (االشـتـراكـي الـدسـتـوري)، أو االنتفاضة العمالية لسنة 1978 وبعدها ما عرف في تاريخ تونس بثورة الخبز ،1984 وكـالهـمـا كـانـا نـتـاج خــيــارات حكومية في املجال االقـتـصـادي، وأسـفـرت عن حالة من االحتقان االجتماعي والسياسي، وصوال إلى الثورة التونسية سنة ،2011 بجذورها االقتصادية وفشل السلطة القائمة حينها في التعاطي معها بشكل عقالني متوازن. هـــــذه اإلطــــاللــــة الـــتـــاريـــخـــيـــة مــــجــــرد إشـــــارة عــاجــلــة الرتـــبـــاط الــفــوضــى الـسـيـاسـيـة في تـــونـــس بــــأزمــــات اقـــتـــصـــاديـــة حـــــــادة كــانــت تــعــجــز الــســلــطــة عــــن حــلــهــا أو عـــلـــى األقــــل تصريفها بما يضمن عدم انعكاسها بشكل حـــاد على الـشـرائـح االجتماعية املختلفة. ولـــهـــذا، يـمـكـن مـالحـظـة عـامـلـني أسـاسـيـني يتبادالن التأثير في إنتاج األزمات: العامل السياسي حـني تتجه السلطة نحو فرض خيارات ال شعبية، بما يفضي إلى انفجار الشارع. أن تنعكس أزمة عاملية على البالد وتــفــشــل الــســلــطــة الــقــائــمــة فـــي مـعـالـجـتـهـا بشكل ينتج املـبـررات ملحاولة إلغاء الحكم الــقــائــم بـــدعـــوى الــتــصــدي لـــأزمـــة الـــوافـــدة. وربـمـا كــان العامل الثاني األقـــرب لتفسير ما حصل في تونس في السنوات األخيرة، فــمــع الــتــأثــيــر االقـــتـــصـــادي الـــكـــارثـــي الـــذي خلفته جائحة كـورونـا وحـالـة االضـطـراب االجـتـمـاعـي الـنـاتـج عــن ســـوء الـتـعـامـل مع تضاعف اإلصابات بالوباء، جاء إعالن 25 جويلية )2021( إليقاف املسار الديمقراطي، وتـــحـــمـــيـــل الــــنــــظــــام الـــســـيـــاســـي الـــبـــرملـــانـــي مـسـؤولـيـة ســـوء األداء فــي مـواجـهـة األزمـــة الصحية، غير أن هذا املبرر الذي كان مقنعا لجانب مهم من الجمهور في املرحلة األولى على األقل فقد تدريجيا تأثيره، خصوصا بعد عودة الحياة الطبيعية للبالد وللعالم، وليجد النظام السلطوي الجديد نفسه في مواجهة تفاصيل األزمة االقتصادية املركبة مــــن دون خــــبــــرات وال مـــخـــطـــطـــات، بـشـكـل انعكس على أداء االقتصاد التونسي. يــكــشــف املـــشـــهـــد االقــــتــــصــــادي الــتــونــســي، عبر جملة من املــؤشــرات، عن أزمــة عميقة وهيكلية، فقد تصاعد معدل التضخم في الـــبـــالد، ووصــــل إلــــى %10.1 عــلــى أســـاس ســــنــــوي، خـــــالل ديـــســـمـــبـــر/ كــــانــــون األول املــاضــي، صــعــودا مــن %9.8 فــي نوفمبر/ تشرين الثاني السابق لــه، رافـقـه تصاعد مــــعــــدالت الـــبـــطـــالـــة وغـــــــالء أســــعــــار املـــــواد األسـاسـيـة. وفـي املقابل، عجزت الحكومة الـتـونـسـيـة عــن إقــنــاع املــانــحــني الــدولــيــني، وفـــــي مــقــدمــهــم صــــنــــدوق الـــنـــقـــد الــــدولــــي، مــن أجـــل الـحـصـول عـلـى قـــرض مــالــي، بما يمكن مـن االستجابة للنفقات الحكومية الــــجــــاريــــة. وإذا أخــــذنــــا بـــاالعـــتـــبـــار قــــرار وكالة التصنيف الدولية (موديز)، أخيرا، تخفيض التصنيف الـسـيـادي للبالد من Caa1 إلـى Caa2 وآفــاق مستقبلية سلبية، فإن فرصة تونس في االقتراض الخارجي أصــــبــــحــــت أقـــــــــــل، فــــضــــال عــــــن اســــتــــجــــالب استثمارات دولـيـة وتوطينها فـي البالد. وربـــمـــا مـــا يــضــاعــف األزمــــــة الــحــالــيــة في تــونــس حــالــة اإلنـــكـــار الــســيــاســي لــأزمــة، فالقيادة السياسية تحاول تصوير األمر كـأنـه نـتـاج مــؤامــرة محلية، يستهدف من خاللها معارضو النظام إضعاف الدولة. وهــذا الخطاب السياسي جـزء من األزمــة، وال يـمـكـنـه أن يـمـثـل حـــال، فــتــراكــم العجز االقــتــصــادي وتــصــاعــد املــديــونــيــة وغـيـاب تـــصـــور واقــــعــــي وعـــقـــالنـــي إلدارة األزمـــــة االقـتـصـاديـة يـزيـد فــي تفاقمها وسياسة اإلنــــكــــار والــــهــــروب إلــــى األمـــــــام، مـــن خــالل االعتقاد أن مجرد اتخاذ إجراء ات قانونية وتغيير الدستور وتشكيل برملان سيؤدي تلقائيا إلــى حـل األزمـــة هـو وهــم سياسي أكثر منه معالجة للمشكل. معروف أنه في النظم الديمقراطية عندما ال يـــلـــبـــي الـــقـــائـــمـــون عـــلـــى الـــحـــكـــم مــطــالــب ناخبيهم، يحول ذلـك دون استمرارهم في مناصبهم، أو على األقــل يفقدون فرصهم فــي إعـــادة انتخابهم. ولــهــذا تختار النظم الديمقراطية غالبا السياسات التي تعود بالنفع على االقـتـصـاد، ويسعى القائمون على هــذه الحكومات إلــى إيـجـاد العالقات والــتــحــالــفــات لـجـلـب االســتــثــمــارات واملــنــح والــــــقــــــروض املــــالــــيــــة، لـــلـــتـــمـــكـــن مـــــن إقـــنـــاع الجمهور بسالمة خياراتهم السياسية. أما مـا يـجـري فـي تـونـس حاليا فهو حـالـة من الالمباالة الغريبة إزاء الدور السياسي في تحفيز االقتصاد، عبر سياسات خارجية ذكية من أجل مراكمة املصالح االقتصادية، وإقــــنــــاع الــــخــــارج بــــضــــرورة املـــراهـــنـــة على نـــجـــاح الـــنـــظـــام الـــســـيـــاســـي. تــجــمــع األزمـــــة املركبة التي تعانيها البالد في هذه املرحلة مـــن تـاريـخـهـا بـــني غــيــاب االسـتـراتـيـجـيـات االقـــتـــصـــاديـــة الــنــاجــعــة لــلــتــعــافــي مـــن آثـــار األزمة العاملية وغالء الوقود والحبوب من جهة واضطراب الخيارات السياسية التي مــا زالــــت تــــراوح مـكـانـهـا، وتـــحـــاول تثبيت رؤيـــــــة ســـلـــطـــويـــة تـــتـــغـــاضـــى عـــــن ضــــــرورة الــحــوار الـوطـنـي، واملــــرور نحو إيــجــاد حل شـامـل تـشـارك فيه كـل األطـــراف السياسية الفاعلة، لتفادي حصول هــزات اجتماعية، أثبتت مراحل التاريخ املاضية أنها كانت دوما حاضرة إثر كل مرحلة فشل اقتصادي وانغالق سياسي.