قاٍض يحرّك البركة اآلسنة في لبنان
اجـتـهـد املـحـقـق الـعـدلـي فــي جـريـمـة مرفأ بــيــروت الــقــاضــي طــــارق بـيـطـار قـانـونـيـا، فــأعــاد فـتـح مـلـف الـتـحـقـيـق، مـنـهـيـا بذلك أكـــثـــر مــــن عـــــام عـــلـــى عـــرقـــلـــتـــه، مــســتــأنــفــا األمــــر بـمـجـمـوعـة قــــــرارات واســـتـــدعـــاء ات. وبــكــالم آخــــر، عـــاد الــبــيــطــار، وعــــاد بعض جـنـون قـــوى السلطة مـعـه. أول غـيـث هـذا الــجــنــون كـــان االرتـــفـــاع غـيـر املــســبــوق في سعر صـرف الـــدوالر في السوق الـسـوداء، حــيــث قـــــارب 63500 لـــيـــرة لــبــنــانــيــة ألول مرة في تاريخه. وثاني الغيث ما شوهد لناحية قطع الـطـرقـات، وحــرق الـدوالـيـب، في محيط املربع األمني، ومحيط املناطق الـــواقـــعـــة تـــحـــت نـــفـــوذ الـــثـــنـــائـــي الـشـيـعـي فـــي جــنــوب لــبــنــان وفــــي ضــاحــيــة بــيــروت الجنوبية، والـتـي ال تتحرك النملة فيها من دون موافقة «األخ األكبر»، كما رأى كل املتابعني بعد أيام من انطالق انتفاضة 17 أكتوبر ،)2019( فإما الحقيقة التي تريدها السلطة أو الحرب األهلية. عاد القاضي بيطار بعد إعاقة محاوالته للوصول إلى «حقيقة ما» في انفجار مرفأ
ًٍ بيروت، متأبطا موعدا ونوعا من العدالة التي افتقرت الساحة اللبنانية إليها منذ ســـنـــوات، إال أن مــن الـــضـــروري أن يعرف املـتـابـعـون، وهـــم يـعـرفـون، أن اللبنانيني يـطـمـحـون لــنــوع مــحــدد مــن الــعــدالــة، فما يبغيه املـتـعـاطـفـون مــع هـــذا الــرجــل ليس كــالســيــكــيــات الـــقـــضـــاء ورجــــــال الـــقـــانـــون، وال مــاهــيــة الـــقـــاضـــي وحــقــيــقــتــه، بـــل هي حقيقة واحـــدة متمحورة حــول أخــذ حق اللبنانيني من القوى املهيمنة التي أعاقت الـعـمـل عـلـى اكــتــشــاف حقيقة كــل تفجير طـــاول أي شخصية مـنـذ مــا قـبـل الـحـرب األهلية، حق اللبنانيني من الذين حاولوا املستحيل الستبدال البيطار «وقبعه» من الـتـحـقـيـق. يــريــد الـلـبـنـانـيـون أخـــذ حقهم مـــن الـــقـــوى الـــتـــي ســـانـــدت بــعــضــهــا، حني بدأ بيطار باستدعاءاته بحق كل من كان يشغل موقعا مـسـؤوال فـي مرفأ بيروت، وفــــي مـحـيـطـه، أي مــوقــع مـــن املـسـؤولـيـة يستدعي صاحبه مذكرة جلب واستدعاء وصــــوال إلـــى الــتــوقــيــف، مــن الــرئــيــس إلـى املــــديــــر الــــعــــام إلـــــى الـــقـــاضـــي إلـــــى رئــيــس الجهاز واملوظف .. إلخ. هــــــــــذه هــــــــي الــــحــــقــــيــــقــــة الـــــــتـــــــي يـــبـــغـــيـــهـــا الـــلـــبـــنـــانـــيـــون، كــشــعــب مــــهــــزوم ومــنــهــوب ومحاصر. هي حقيقتهم من هذه الجماعة املــســتــحــكــمــة بـــالـــدولـــة وبـــنـــاســـهـــا، إذ لـن تشفي موضوعية الحقيقة غليلهم، بعد أن سقطت املوضوعية والحقيقة منذ مدة طويلة، ولـم تعد تقدم أي إغـــراء. الحقيقة الواضحة اليوم هي التي نعرفها ويعرفها العالم سلفا، حقيقة قوى واضحة املعالم ولـــهـــا اســـــم، فــنــحــن فـــي لــبــنــان نـــعـــرف من الــجــانــي، مــن الــقــاتــل، مــن الـــذي ســاعــد في التفجير، ومـن الــذي أعــاق التحقيق، ومن الــذي نهب وســرق وفـــرغ الـدولـة والقضاء والعدالة من كل مضمون. نعرفهم من دون أي تحقيق، مـن دون أي شكليات، ونحن نطالب القاضي بيطار، وأي قـاض غيره، باالقتصاص منهم على وجه الخصوص. التعاطف مـع القاضي ومــع نزاهته، ومع عـــدم قــــدرة قـــوى الـسـلـطـة عــلــى إيـــجـــاد ما يـمـكـن أن تــبــتــزه بـــه، هـــذا كـلـه ال يضاهي اإلجـمـاع على اتـهـام الـقـوى املهيمنة على الـــدولـــة. ال يبغي الــكــالم الـبـحـث فــي قــدرة قــــاض بــذاتــه عـلـى اإلتـــيـــان بـــأي شــــيء، بل قدرته على اإلتيان بشيء محدد، وواضح، وبني في ذاته من هذه السلطة. يشير بيطار إلـى حيث يريد اللبنانيون ويبغون، إلى الذين ما مارسوا يوما أي شيء إال وكان بغرض تهديد أمن اللبنانيني، ووجودهم، وحـريـتـهـم، ومستقبلهم، فــي هـــذه الـبـالد الجميلة واملنهكة. سقطت املفاهيم العامة عن الحقيقة، والعدالة، والصواب والخطأ في لبنان، منذ مدة طويلة، منذ أعفت هذه السلطة عـن نفسها بعد الـحـرب األهلية. يومها بات املعيار الوحيد اإلطار النسبي الذي ننظر منه وفيه، وبمعطياته، إلى كل ما يمكن أن يمر أمامنا من أحداث وجرائم. من هنا حتى اللحظة، يبدو القاضي طارق بـيـطـار مــــراد الـلـبـنـانـيـني، يـبـدو أنـــه رفيق طـابـع الـعـدالـة الـــذي يبغونه. االقتصاص
سقطت المفاهيم العامة عن الحقيقة، والعدالة، والصواب والخطأ في لبنان، منذ مدة طويلة
بكل الطرق املمكنة ممن في السلطة، ليس عــلــى مـــا فــعــلــوه فــحــســب، بـــل عــلــى مــقــدار األلــم الــذي سـبـبـوه. فــإن كــان هناك مـا هو حقيقي هو حتما ما يشعر اللبنانيون به مـن ضيق وكـــرب وغـضـب. وإن كــان هناك ما هو عادل، فهو االقتصاص ممن سببت صورهم وأصواتهم وأفعالهم هذا الضيق في الصدر. لم تعد تغر اللبنانيني كل األطر القانونية والــبــيــروقــراطــيــة ومـعـايـيـر الـشـفـافـيـة في تحقيق (ومـصـادقـة) األشــيــاء مفاهيمها. لــــم يــــعــــودوا يــمــتــلــكــون هـــــذا الــــتــــرف، ولـــم يـعـودوا يقتنعون بهذا الـنـوع مـن املكائد التي تؤجل تصديق ما هو جلي أمامهم. قــد يـقـول بعضهم إن مضبطة االتــهــام ال تفيد في بناء األوطــان، وإن هذا التحامل سبب كل املشكلة. وقد يقول آخرون إن كل ما يقوم القاضي بيطار به هو استهداف للسلطة، وليس ألي جهة اخــرى. هـذا كله صحيح، وألنه صحيح فهو مطلوب، وألن بوصلته واضحة فهو الهدف. بـعـد كــل مــا جـــرى ويــجــري، هـنـاك معادلة واحــــدة تـرسـخـت فــي لـبـنـان، تــقــول إن كل مــا يـقـلـق مــن فــي الــحــكــم، كــل مــا يزعجهم ويكبلهم، كل ما يفقدهم صوابهم ويقتص مــنــهــم، هـــو الــحــقــيــقــي، هـــو املـــطـــلـــوب، هو املرغوب، وهو العادل.