Al Araby Al Jadeed

ظروف غير مواتية للتطبيع التركي السوري

- محمود الريماوي

كـــانـــت املــــواف­ــــقــــة الـــتـــر­كـــيـــة الـــســـر­يـــعـــة عـلـى انـضـمـام إيـــران إلــى املباحثات مـع النظام السوري مفاجئة، فروسيا تشارك، كما هو مفترض، باعتبارها ترعى (أو تستضيف) مباحثات التقارب بني أنقرة ودمشق، فيما ســـتـــدو­ر املــبــاح­ــثــات ثـنـائـيـة بـــني الـطـرفـني املـــبـــ­اشـــريـــ­ن. وقـــــد تـــغـــيـ­ــرت هـــــذه الـــصـــو­رة األولـــــ­يـــــة عـــلـــى إيـــــقــ­ـــاع االنــــــ­دفــــــاع الـــتـــر­كـــي املـــفـــ­اجـــئ، فـــقـــد بـــــــاد­رت طــــهــــ­ران إلـــــى طـلـب املـــشـــ­اركـــة فـــي هــــذه املــبــاح­ــثــات، وتــحــركـ­ـت بـشـخـص وزيـــــر خــارجــيـ­ـتــهــا، حــســني عبد اللهيان، لهذا الغرض نحو دمشق وأنقرة ومـــوســـ­كـــو، إال أن أنـــقـــر­ة اخــتــصــ­رت على طهران تحركاتها، وأعفتها من االنتظار، ومــــــن الـــتـــب­ـــاحـــث فــــي حـــيـــثـ­ــيـــات املـــشـــ­اركـــة اإليــرانـ­ـيــة، وذلـــك بـاملـوافـ­قـة الـسـريـعـ­ة على انضمامها، وهو ما ال بد قد فاجأ طهران، كــمــا فــاجــأ غــيــرهــ­ا مـــن الــعــواص­ــم املـعـنـيـ­ة، فــقــد شـــــاءت طـــهـــرا­ن الــــعـــ­ـودة إلــــى صيغة أستانة (مـع استبعاد املعارضة السورية هــــذه املـــــــ­رة)، وهـــــذه الــصــيــ­غــة عـــزيـــز­ة على قلب الــروس، إذ من خاللها جـرت ضغوط متتابعة على تركيا ومن خلفها املعارضة املسلحة وغـيـر املسلحة مـن أجــل تقليص الــوجــود الـتـركـي على األراضــــ­ي الـسـوريـة، مـع التلميح والـتـصـري­ـح بـأنـه وجـــود غير شـــرعـــي، وهــــو مـــا حــــدث مــنــذ الـتـخـلـي عن حلب وما تاله. مـنـح مـحـفـل أســتــانـ­ـة لـلـطـرفـن­ي، الــروســي واإليــــر­انــــي، صـفـة الــضــامـ­ـن لـلـحـلـول، مع أنــهــمــ­ا كـــانـــا ومــــا زاال طـــرفـــن­ي مـبـاشـريـ­ن في الصراع، ورفضا أي حلول سياسية، وآثـــــــ­ـــرا الــــحـــ­ـلــــول الـــعـــس­ـــكـــريـ­ــة والـــحـــ­ســـم العسكري، ولم يضمنا شيئا سوى إنكار حقوق السوريني وطرح املرجعية الدولية لــلــحــل­ــول جـــانـــب­ـــا. وفــــي األصــــــ­ل، ابــتــدعـ­ـت موسكو صيغة أستانة بديال عن صيغة مفاوضات جنيف الدولية برعاية األمم املتحدة ووفــق املرجعية الـدولـيـة، وعلى الـــخـــص­ـــوص قـــــرار مــجــلــس األمـــــن .2254 وعـــلـــي­ـــه، ســــوف تــتــم املـــبـــ­احـــثـــا­ت املــزمــع­ــة على مستوى وزراء الخارجية والخبراء بـــصـــيـ­ــغـــة أســــتـــ­ـانــــة، ال بـــصـــيـ­ــغـــة جـــديـــد­ة وثنائية بني دمشق وأنقرة، وسوف تكون األخــيــر­ة مــدعــوة إلـــى أن تجلس منفردة أمـام ثالثة أطــراف متناغمة ومتجانسة، وحـيـث يسع كـل طـــرف مـن هــذه االطـــراف الـــثـــا­لثـــة مـــمـــار­ســـة ضـــغـــوط­ـــه الــخــاصـ­ـة على أنقرة، وفقا للموقع الحيوسياسي الـــــخــ­ـــاص بـــكـــل طــــــــر­ف. وقــــــد بــــــــد­أت هـــذه األطــــــ­ـراف بــمــمــا­رســة «ضــــغــــ­وط» نفسية ودعـائـيـة، حتى قبل أن تـبـدأ املباحثات، من قبيل القول إن انبعاث صيغة أستانة سوف يسهم في إنجاح الرئيس التركي، رجب أردوغـــان، وحـزب العدالة والتنمية فـــي االنــتــخ­ــابــات الــرئــاس­ــيــة والـبـرملـ­انـيـة املــــقــ­ــبــــلــ­ــة، و«بـــــمـــ­ــا يـــقـــطـ­ــع الــــطـــ­ـريــــق عــلــى املـــحـــ­اوالت األمـيـركـ­يـة لـتـفـويـز املـعـارضـ­ة التركية في هذه االنتخابات»، وذلك وفق ما نقلته «العربي الجديد» عن صحيفة الــوطــن، الـــصـــا­درة فــي دمــشــق، فــي سياق تــقــريــ­ر عـــن مــبــاحــ­ثــات روســـيـــ­ة إيـــرانــ­ـيـــة، جـــرت فــي طــهــران قـبـل أيــــام، وبــمــا يعني أنــــه ســيــعــو­د الــفــضــ­ل لــلــثــا­لثــي، الــروســي واإليـــــ­رانـــــي والـــــسـ­ــــوري، ولـــيـــس لـلـنـاخـب الـتـركـي فــي إنــجــاح أردوغــــا­ن وحــزبــه في حــــال نــجــاحــ­ه، وهــــو مـــا ال بـــد أن يـقـابـلـه الـــطـــر­ف الـــتـــر­كـــي بـــاالمــ­ـتـــنـــا­ن، وبـتـسـهـي­ـل املـــفـــ­اوضـــات وتـلـبـيـة الــطــلــ­بــات الــروســي­ــة واإليــران­ــيــة والــســور­يــة، مقابل التضييق عـلـى الـــوجـــ­ود الـــكـــر­دي املــســلـ­ـح فــي شـرق الفرات، وقريبا من الحدود مع تركيا. جرى التمهيد لهذه املباحثات في ظروف غير مواتية، وفـي بيئة سياسية شائكة ومـعـتـمـة، فـروسـيـا تــواصــل حـربـهـا على أوكـــرانـ­ــيـــا، وتـــرفـــ­ض اإلصـــغــ­ـاء لـلـطـلـبـ­ات الــــدولـ­ـــيــــة بـــوقـــف الــــحـــ­ـرب والــــلــ­ــجــــوء إلـــى التفاوض، وتؤكد أن «عمليتها العسكرية الــــــخـ­ـــــاصـــ­ـــة» مـــــاضــ­ـــيـــــة إلــــــــ­ـى أن تـــحـــقـ­ــق أهــدافــه­ــا، وإيــــران تـنـكـل بشعبها وتقمع االحــتــج­ــاجــات الـشـعـبـي­ـة مـنـذ سبتمبر/ أيـــلـــو­ل املـــاضــ­ـي بــعــنــف مـــفـــرط، وتــرفــض أي إصــــالح داخـــلـــ­ي يــحــقــق الــحــد األدنـــى مــن املـطـالـب الشعبية، فيما املـفـاوضـ­ات بـــشـــأن مــلــفــه­ــا الــــنـــ­ـووي مــتــوقــ­فــة، بينما تواجه دمشق أزمة اقتصادية مستفحلة، يكاد ينعدم فيها األمـن الغذائي لغالبية الـــــســ­ـــوريــــ­ـني، فــــيــــ­مــــا تـــــثـــ­ــور االتــــهـ­ـــامــــا­ت وتتوالى التقارير بشأن إنتاج املخدرات وتصديرها إلى دول الجوار. فــــــــي هـــــــــ­ــذه الــــــــ­ــظـــــــ­ـــروف الــــــشـ­ـــــائـــ­ـــكــــــ­ة، يـــتـــم الـــتـــق­ـــرب الـــتـــر­كـــي لـــهـــذا الـــثـــا­لثـــي، وإطــــالق ســيــنــا­ريــوهــات مــفــتــر­ضــة ومــتــفــ­ائــلــة، من قبيل القول إن اآلفاق سوف تكون مفتوحة أو على األقـل ممكنة لعودة آمنة وطوعية لالجئني الـسـوريـن­ي إلــى ديــارهــم، علما أن سلوك األطـراف الثالثة قد أدى إلى اقتالع هـــــؤالء املــنــكـ­ـوبــني مـــن وطــنــهــ­م بـالـتـدمـ­يـر املـــتـــ­واصـــل ملــظــاهـ­ـر الــحــيــ­اة والـــعـــ­مـــران 11 عـامـا، ودفعتهم نحو الـلـجـوء، كما دفعت

منح محفل أستانة للطرفين، الروسي واإليراني، صفة الضامن للحلول، مع أنهما كانا وما زاال طرفين مباشرين في الصراع في سورية

أعـــدادا كبيرة أخــرى إلـى الـنـزوح والتشرد داخــــــل وطـــنـــه­ـــم، وهـــــا هــــم وقـــــد اســتــبــ­دلــت بـيـوتـهـم اآلمــنــة بـخـيـام يـتـعـرضـو­ن شتاء بـــعـــد شــــتــــ­اء لــــويـــ­ـالت الـــثـــل­ـــوج والــصــقـ­ـيــع والجوع واملرض. تحتاج عــودة الالجئني اآلمـنـة والطوعية إلــى حـلـول سياسية تهيئ فـرصـة إلعــادة اإلعــمــا­ر بما يحفز الالجئني على الـعـودة في ظــروف آمنة وكريمة، مع إرســاء حياة طــبــيــع­ــيــة عـــلـــى جــمــيــع املـــســـ­تـــويـــا­ت، وهـــو مـــا يـتـطـلـب بـــذل جــهــود إقـلـيـمـي­ـة ودولــيــة متسقة، لحمل األطراف املعنية على ولوج أبـــــواب الــحــلــ­ول الـــجـــد­يـــة. وال شـــيء يشير إلـــى أن مــكــونــ­ات أســتــانـ­ـة يـمـكـن أن تـكـون منشغلة بوضع حلول أو التساوق مع أي حلول، فيما سيكون إنهاء الوجود التركي على األراضي السورية هو الشغل الشاغل لــــأطـــ­ـراف الـــثـــا­لثـــة مـــقـــاب­ـــل الــضــغــ­ط على الكيان الكردي املسلح. أما مأساة الالجئني الـــــســ­ـــوريــــ­ـني فــــلــــ­ن تــــجــــ­د حـــــال ضــــمــــ­ن هــــذه املعطيات، وسوف يتم تحميهلم مسؤولية عدم العودة إلى الخرائب واألنقاض وإلى املخاطر األمنية في وطنهم، الـذي تتعسر فـيـه كــل أوجـــه الــحــيــ­اة، بـمـا فــي ذلـــك حياة الكفاف، كما تشير إلى ذلك التقارير شبه اليومية الصادرة من كل حدب وصوب. ليست الــظــروف مــواتــيـ­ـة لـنـجـاح مغامرة الــــتـــ­ـقــــارب الـــتـــر­كـــي والــــــس­ــــــوري، وذلــــــك مـع استنكاف األطراف الثالثة عن أية مراجعة ملـواقـفـه­ـا الــدائــم­ــة بــشــأن ســـد الـــطـــر­ق أمـــام أي حــلــول سـيـاسـيـة لــأزمــة الــســوري­ــة، إذ من شـأن هـذه الحلول وحدها أن تنعكس باإليجاب على ممكنات العالقة الرسمية بــني دمــشــق وأنـــقـــ­رة. ويـكـفـي األخـــيــ­ـرة، في هــــذه املـــرحــ­ـلـــة، أنــهــا أبــــدت حــســن نـيـاتـهـا، واستعدادها للنظر إلى املستقبل في رسم الـسـيـاسـ­ات وصــوغــهـ­ـا، عـلـى أن الـواقـعـي­ـة تقتضي القول إن املقدمات هي من تحدد النتائج، وأن القفز في الظالم غير مأمون النتائج، إذ يبدو الجانب التركي الطرف الوحيد املؤمن بأهمية الحلول السياسية لـــأزمـــ­ة، واملــســت­ــعــد لـــبـــدء مــرحــلــٍة جـــديـــدٍة تصب في صالح الدول والشعوب .. بينما يــعــرف الــقــاصـ­ـي والـــدانـ­ــي نــظــرة األطــــرا­ف الـــثـــا­لثـــة إلـــــى شـــعـــوب­ـــهـــا، وســـبـــل الــتــعــ­امــل مـــعـــهـ­ــا، وعـــــداء­هـــــا املــــديـ­ـــد والــــثــ­ــابــــت لـحـل ســيــاســ­ي لـــأزمـــ­ة، واســتــخـ­ـدامــهــا الــورقــة الــكــردي­ــة حـسـب الـــظـــر­وف واتـــجـــ­اه الــريــاح السياسية املوسمية، مـع االحتفاظ بهذه الورقة في كل مرحلة.

 ?? (بكر القاسم/فرانس برس) ?? من تظاهرة في ريف حلب ضد مصالحة أنقرة ودمشق، أغسطس الماضي
(بكر القاسم/فرانس برس) من تظاهرة في ريف حلب ضد مصالحة أنقرة ودمشق، أغسطس الماضي

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar