تحيّة للجيل الفلسطيني «الجديد»
ربما يكون ياسر عرفات قد تصور، حني قرر عام 1993 التوقيع على اتفاقية أوسلو باسم منظمة الـتـحـريـر الفلسطينية، أن مــن شـأن خطوة كهذه أن تمكنه من وضع قدمه داخل أرضـــــه املــغــتــصــبــة. ومــــن هـــنـــاك ســيــكــون في وسعه مواصلة رحلة نضاله الــشــاق، ولكن بالوسائل السلمية وحدها هذه املرة، إلى أن يتمكن من بناء الدولة الفلسطينية املستقلة التي يحلم بها، ولو على مساحة ال تتجاوز %22 مـن مساحة فلسطني التاريخية، وفي نهاية مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات. ورغــــــم مــــا أنــــطــــوى عــلــيــه هـــــذا الـــتـــصـــور مـن خطأ جسيم فـي الحسابات االستراتيجية، إال أن الـرجـل بقي أمينا وصــادقــا مـع نفسه ومع تاريخه النضالي الطويل، ومن ثم ظل حــريــصــا طـــــوال حــيــاتــه عــلــى عــــدم الـتـوقـيـع على أي تسويٍة نهائيٍة ال تتضمن انسحابا إســـرائـــيـــلـــيـــا كــــامــــا مـــــن جـــمـــيـــع األراضــــــــس الفلسطينية املـحـتـلـة عـــام ،1967 بـمـا فيها الــقــدس الـشـرقـيـة، بــالــتــوازي مــع حــل مشكلة الاجئيني الفلسطينيني اسـتـنـادا إلــى قـرار األمـــم املـتـحـدة رقـــم 149 لسنة ،1948 والـــذي يقضي بعودة هـؤالء الاجئني وتعويضهم في الوقت نفسه. وعندما اكتشف عرفات، خصوصا في أثناء مــشــاركــتــه فـــي مــؤتــمــر كـــامـــب ديــفــيــد الــثــانــي الــذي دعـا إليه ورعــاه الرئيس األميركي بيل كلينتون عــام ،2000 وحــضــره إيــهــود بـــاراك، أن أقــصــى مــا يمكن إلســرائــيــل أن تـقـدمـه من تــنــازالت للتوصل إلــى تسوية، حتى فـي ظل أكــثــر حـكـومـاتـهـا يــســاريــة، ســـوف يــكــون أقـــل بكثير من أي حد أدنى مقبول فلسطينيا، ولن يزيد أبــدا عـن اقـتـراح إقـامـة شبه دولــة داخـل حـــدود تقل عــن حـــدود ،1967 وبـــدون القدس الشرقية وبـدون عودة الاجئني إلى ديارهم، لم يـتـردد قط في رفـض املوافقة على تسوية بهذه الشروط، بل وقبل مختارا أن يدفع ثمن رفضه غاليا، بالحصار أوال ثم باالغتيال. وقتها، كان على الحركة الوطنية الفلسطينية أن تقدم فورا على وقفة مع النفس، تعيد من خـالـهـا تـرتـيـب أوراقـــهـــا املـبـعـثـرة، وتوحيد صفوفها حول رؤية جديدة موحدة، تستكمل بها مسيرة نضالها الذي لم ينقطع، مع األخذ في االعتبار كل املستجدات التي طرأت على األوضـاع املحلية واإلقليمية والدولية، وهو
ما لم يحدث لألسف. ثم الحت فرصة جديدة ملثل هذه الوقفة مع النفس عقب االنتخابات الفلسطينية التي جرت عام 2006 وشاركت فـيـهـا حــركــة حـــمـــاس، غــيــر أن رفــــاق عــرفــات فــي سلطة رام الـلـه كـــان لـهـم رأي آخـــر طغت فيه الحسابات الفصائلية على الحسابات الــوطــنــيــة، ومـــن ثـــم كـــان مـــا كـــان مـــن انـقـسـام عميق أدخـــل الـحـركـة الوطنية الفلسطينية في مرحلة من التيه ما زالت تعاني منها. حني تكرس االنقسام الفلسطيني بانفصال الــضــفــة الــغــربــيــة عـــن قـــطـــاع غـــــزة، وخــضــوع كـــــل مـــنـــهـــمـــا لـــحـــكـــومـــة مـــخـــتـــلـــفـــة ســيــاســيــا وأيديولوجيا، ترفع إحداهما شعار التسوية وتـــرفـــع األخــــــرى شـــعـــار املـــقـــاومـــة املــســلــحــة، سنحت فرصة ذهبية أمام إسرائيل، وبدعم كـامـل وغـيـر مــشــروط مــن الــواليــات املتحدة، للشروع في بلورة (وتنفيذ) خطة استهدفت أمــــريــــن رئـــيـــســـيـــني. األول: تــصــفــيــة فــصــائــل املقاومة املسلحة املوجودة في غزة، والعمل، في الوقت نفسه، على إبقاء القطاع بأكمله تــحــت الــحــصــار والــتــجــويــع إلــــى أن تـنـضـج األوضـــــاع إلعـــادتـــه تـحـت هيمنة سـلـطـة رام الله، بعد االنتهاء من تدمير فصائل املقاومة املــســلــحــة املـــــوجـــــودة هـــنـــاك واســتــئــصــالــهــا. الــــثــــانــــي: الــــعــــمــــل، فـــــي الـــــوقـــــت نـــفـــســـه، عـلـى اجتثاث الفكر املقاوم من عقول الفلسطينيني وقـــلـــوبـــهـــم، خــصــوصــا فـــي الــضــفــة الــغــربــيــة التي تتولى السلطة الفلسطينية مسؤولية إدارة املناطق املحررة منها. وفي سياق هذه الـخـطـة، جـــرى اســتــدعــاء الــجــنــرال األمـيـركـي كيث دايــتــون، ليتولى بنفسه عملية إعــادة بــنــاء (وهــيــكــلــة) أجــهــزة األمــــن الفلسطينية التابعة لسلطة رام الـلـه، وتــدريــب كـوادرهـا على رصــد العناصر املنخرطة فـي املقاومة املسلحة وتعقبها، والعمل على إجهاض أي محاوالت تستهدف زعزعة األمن اإلسرائيلي. وقـد اعتقد هـذا الجنرال أنـه نجح على مدى السنوات الطويلة املنصرمة في بناء «إنسان فلسطيني جـــديـــد»، أراد لــه أن يــتــربــى على كراهية حركتي حماس والجهاد اإلسامي وشهداء األقصى، وكل من يحمل الساح في وجـه إسـرائـيـل، والتعامل معهم باعتبارهم أعـــــداء لـلـشـعـب الـفـلـسـطـيـنـي، والـــتـــعـــود، في الـــوقـــت نــفــســه، عــلــى الــتــعــامــل مـــع إســرائــيــل، ليس فقط باعتبارها حقيقة واقـعـة ينبغي التسليم بها والتعايش معها، ولكن أيضا باعتبارها حليفا محتما ونموذجا يحتذى
به كواحة للديمقراطية في منطقة ال تعرف ســوى الطغيان واالسـتـبـداد، غير أن الرياح هبت بما ال تشتهي سفن إسرائيل والواليات املتحدة، وأيضا سفن املتعاونني معهما. ولم يدرك دايتون أن الجيل الفلسطيني الذي ولد في كنف «أوسلو» عاش وترعرع، في الوقت نـفـسـه، فــي ظــل ثـــاث ظـــواهـــر، كـــان لـهـا أكبر األثر في تشكيل وعيه السياسي والفكري: األولــــــــــــــى: تـــتـــعـــلـــق بــــتــــوجــــهــــات املـــجـــتـــمـــع اإلســـــرائـــــيـــــلـــــي وبـــــتـــــصـــــرفـــــات الـــحـــكـــومـــات اإلســـرائـــيـــلـــيـــة املـــتـــعـــاقـــبـــة داخــــــل األراضــــــي الفلسطينية املحتلة، فقد تفتح وعي «جيل أوسلو» على مجتمع إسرائيلي يتجه وعيه الجمعي نحو تفضيل األحـــزاب والتيارات األكـثـر تـطـرفـا، على الصعيدين السياسي والفكري، وكذلك األحـزاب والتيارات األكثر تعصبا وعنصرية، على الصعيدين الديني واإلنــســانــي. كـمـا شـهـد هـــذا الـجـيـل بنفسه كـــيـــف تــعــامــلــت الـــحـــكـــومـــات اإلســـرائـــيـــلـــيـــة املتعاقبة باستهانة واستهتار مع السلطة الفلسطينية، حـيـث كـــان عـلـى رئـيـسـهـا أن يحصل على إذن قبل أن يقوم بأي تحركات داخـل فلسطني أو خارجها، وكيف تعمدت هـذه الحكومات جميعها خـرق االلتزامات الـــواقـــعـــة عــلــى عــاتــقــهــا بــمــوجــب الــقــوانــني واألعـــــــــراف الــــدولــــيــــة، بــــل وحـــتـــى بــمــوجــب اتفاقية أوسلو نفسها، وذلك بالتوسع في بناء املستوطنات، وفي تهويد القدس، وفي مصادرة األراضــي، وفي هدم البيوت، وفي سرقة املياه، وفي ترحيل الفلسطينيني، بل وقــتــل الــشــيــوخ والــنــســاء واألطـــفـــال ... إلــخ. وولـــــدت هـــذه الــتــصــرفــات لـــدى هـــذا الجيل قناعة تامة باستحالة التعايش مع مجتمع إسرائيلي يعيش فـي كنف نظام عنصري يـمـارس األبـارتـهـايـد، ويـرفـض إقـامـة دولـة فـلـسـطـيـنـيـة مــســتــقــلــة تــعــيــش بـــســـام إلـــى جواره، ومع حكومات إسرائيلية غير معنية أو مهتمة بالتوصل إلى تسوية بالوسائل السلمية. بل بات هذا الجيل يشعر بتهديد وجـــودي حقيقي، وبــأنــه مــعــرض لاقتاع والـــتـــرحـــيـــل فـــي أي وقـــــت، خــصــوصــا بعد تـشـكـيـل حــكــومــة نــتــنــيــاهــو الــحــالــيــة الـتـي تضم بــن غفير وسموتريتش وأمثالهما. ومــن الطبيعي، فـي سـيـاق كـهـذا، أن يقتنع الـشـبـاب الـــذي ولــد فــي كنف «أوســلــو» بأن الكفاح املسلح هو السبيل الوحيد لتمكني الــشــعــب الــفــلــســطــيــنــي مـــن الـــحـــصـــول على حقوقه، حتى في حدها األدنى، وخصوصا على حقه في تقرير مصيره. الــثــانــيــة: تـتـعـلـق بــاالنــقــســامــات الــقــائــمــة بني الفصائل الفلسطينية املختلفة، خصوصا بني حركتي فتح وحــمــاس، فالجيل الفلسطيني الــــــذي عـــــاش فــــي كـــنـــف «أوســـــلـــــو» هــــو نـفـسـه الــذي عـاش في كنف االنقسامات املتصاعدة بـــني مـخـتـلـف الــفــصــائــل، ورأى كــيــف أن هــذه االنقسامات راحت تزداد عمقا بمرور الوقت، وباتت عصية على كل املحاوالت الرامية إلى جسر الهوة فيما بينها. وألنه جيل أدرك، في الــوقــت نـفـسـه، كـيـف أنـهـا بـاتـت تـشـكـل خطرا كبيرا، ليس فقط على وحدة الحركة الوطنية الفلسطينية وفـاعـلـيـتـهـا، وإنــمــا أيــضــا على مصير الشعب الفلسطيني ككل ومستقبله، فـــمـــن الـــطـــبـــيـــعـــي أن يـــتـــخـــذ مـــوقـــفـــا رافـــضـــا تماما هــذا االنـقـسـام، ومطالبا بإنهائه على الــفــور، ومـحـمـا كــل الفصائل املـسـؤولـيـة عن استمراره. صحيح أنه جيل يقدر ويثمن عاليا مــا قـدمـتـه كــل فـصـائـل املــقــاومــة الفلسطينية املـسـلـحـة مـــن تـضـحـيـات جـــســـام، لـكـنـه يمقت التفكير الفصائلي لألجنحة السياسية لهذه الــفــصــائــل وتــغــلــيــبــهــا املـــصـــالـــح الـفـصـائـلـيـة على مصلحة الحركة الوطنية الفلسطينية. لــــذا يــاحــظ أن الــجــيــل الــــذي تـــربـــى فـــي كنف «أوسلو» ينبذ التفكير الفصائلي، ويدرك أن العدو واحـد وال يفرق بني مقاوم وآخـر، ومن ثم يتعني العمل على توجيه كل البنادق إلى صدر العدو اإلسرائيلي، وفقط. الــثــالــثــة: تـتـعـلـق بــــاألوضــــاع الـــتـــي يعيشها النظام اإلقليمي العربي الرسمي في املرحلة الـــراهـــنـــة، فـــا شـــك أن جــيــل «أوســــلــــو» تــابــع بـحـسـرة تـطـور مـوقـف أنـظـمـة عـربـيـة عـديـدة راحـــــت تــتــهــافــت عــلــى تـطـبـيـع عــاقــاتــهــا مع إسرائيل، وبالتالي لم تعد قــادرة حتى على مـجـرد التمسك بـاملـبـادرة التي أقرتها القمة العربية فـي بـيـروت عــام ،2002 والـتـي تربط بـــني الــتــطــبــيــع وقـــيـــام الــــدولــــة الـفـلـسـطـيـنـيـة، وتشترط من ثم قيام دولة فلسطينية مستقلة على األراضـي املحتلة في ،1967 وعاصمتها الــقــدس الشرقية أوال، وقـبـل الــشــروع فــي أي تـطـبـيـع مـــع إســـرائـــيـــل. لــــذا بــــات هــــذا الـجـيـل يدرك بوضوح أن تحرير فلسطني لن يتم إال باالعتماد على قدراته الذاتية أوال وقبل كل شيء. صحيح أنه يدرك أن الشعوب العربية ما تزال تدعم القضية الفلسطينية، وتعدها قضيتها األولى، لكنه يدرك، في الوقت نفسه، أن هــذه الشعوب باتت مغلوبة على أمرها، وأن عـلـى الـشـعـب الفلسطيني أن يـتـصـرف وفق حكمة «ما حك جلدك مثل ظفرك». لـــقـــد تـــابـــعـــت الــــشــــعــــوب الـــعـــربـــيـــة بــانــبــهــار حقيقي، خصوصا منذ ظـهـور حـركـة عرين األســود وغيرها من الحركات، ومن الشباب الــــذي يــقــاوم االحـــتـــال اإلســرائــيــلــي بـمـفـرده وبـــــصـــــدور عـــــاريـــــة، أداء «جـــيـــل فـلـسـطـيـنـي جــــديــــد» يـــؤمـــن بـــــأن عــلــيــه أن يــعــتــمــد عـلـى قــواه الذاتية وحـدهـا، وأن املقاومة املسلحة وحـــدهـــا طــريــق الـــخـــاص، وأن كـــل الــبــنــادق يـجـب أن تتجه نـحـو صـــدر عـــدو واحــــد، هو إسرائيل. ... تحية لهذا الجيل وللشعب الذي أنــجــبــه، فـالـشـعـب الـــقـــادر عـلـى إنـــجـــاب جيل بهذا الشموخ ال يمكن أن يقهر.
بات جيل «أوسلو» الفلسطيني يدرك بوضوح أن تحرير فلسطين لن يتم إال باالعتماد على قدراته الذاتية أوًال وقبل كل شيء
الجيل الذي تربى في كنف «أوسلو» ينبذ التفكير الفصائلي، ويدرك أن العدو واحد وال يفرق بين مقاوم وآخر