اإلسفلت والمطر
اجتهد الصغير أن يمشي بحذر كي ال يراه أحٌد من الحرس، وحين وصل إلى الحاويات الكبيرة التي تقع عند المطابخ المركزية، توارى بينها، نظر إلى غرفة الحرس، فرأى ثالثة منهم يتجّولون بلباسهم الرسمي: ـ يا روحي! زلم طول بعرض والبسين زّي الك ّشافة!
ركـــض بــائــع الـعـلـكـة لــيــتــوارى من
ََّ حــبــات الـــبـــرد، فـوقـف مرتبكا أمــام أحد املحات، لكن أحدًا من الداخل انتهره، فالتجأ إلـى شجرة في الـشـارع وقف تحتها. عندما تهطل األمطار بغزارة تفر البشاعة من الـــشـــارع، فــا يـــرى ســـوى ظـــال األشــيــاء التي تبدو وكأنها خلف زجاج ضبابي، وال يمكن حينها أن يتجول أحــد سـوى أولئك الذين ال يمكن إال أن يـكـونـوا هـنـاك: متسولة حـدبـاء، شخص ما يبحث عن نفسه بني حبات املطر، وبائع علكة صغير يحلم أن يكبر قليا ليبدل ما يبيعه عله يشتري دراجة هوائية: أحب املطر، لكنني أكره البرد، ألنه يشعرني بالجوع والحزن. عندما توقفت زخـات املطر، تحركت األشياء، فانطلق بـائـع العلكة مسرعا وقـطـع اإلشـــارة الضوئية باتجاه الجامعة. لقد ذهب الصيف، واختفت معه علب البيبسي وقناني املــاء الفارغة، وحتى بعض األطعمة التي أجدها في الحاويات وال أعـرف اسمها. أستطيع أن أميز طبيخ أمي من رائحته وقبل أن أدخل البيت، لكن ما أجده في حاويات هذا الحي ال أعرفه حتى عندما أمأل بطني منه. ســـأدخـــل الـــيـــوم إلــــى الـــجـــامـــعـــة، لــقــد قــــال لي سلمان إنه ما زال يجد في الحاويات الكبيرة زجــاجــات مـــاء وأحـيـانـا تـنـكـات سمنة كبيرة أيضا. عـــنـــدمـــا وصـــــل الـــبـــائـــع الــصــغــيــر إلـــــى مــدخــل الـــجـــامـــعـــة الحــــــظ اكـــتـــظـــاظـــا عـــنـــد بـــوابـــتـــهـــا الشمالية لكنه انطلق أمام العابرين: اشـتـري علكة ول... علشان عـيـون األمــــورة... الله يخليلك إياها! يزهو الـشـاب فيتباطأ فـي مشيته ويشتري، تأخذ الفتاة علكتها بقليل من الخجل. لـــكـــن هــــــذه الــــخــــدعــــة ال تـــفـــلـــح مـــــع الـــجـــمـــيـــع، فالبعض يكشر في وجهي ويقول: ـ طير وله... انقلع! ال بد أنهم باعوا شيئا ما حني كانوا في مثل سني. البيع أمـــام الجامعة مـريـح، ومـربـح أكـثـر من الـتـجـول فـي املجمعات والقفز مـن بــاص إلى آخر. حــاولــت مــــرة أن أبــيــع جـــرائـــد، لكنني عندما ذهبت إلى الكشك وطلبت كمية من صاحبه، نــهــض بـــهـــدوء خــلــف طـــاولـــتـــه، ومـــــال جهتي بـنـصـفـه األعـــلـــى مـتـكـئـا عــلــى الــطــاولــة وحــني أصبح قريبا مني صرخ في وجهي: إقلب وجهك...! أوالد الحارة قالوا لي إنـه ال بد أن يضمنني عــنــده أحــــد كـبـيـر مـثـل أبــــي، وحـــني عـــدت إلـى البيت وأخبرته بذلك، رشف من كأسه رشفة، ثم تجشأ وبصق علي. إذا بـــعـــت الــــيــــوم كــــل مــــا لــــــدي ســـيـــكـــون مـعـي ثــــاثــــة دنـــانـــيـــر كـــامـــلـــة، لــــكــــن مــــا أكـــســـبـــه فـي تـجـوالـي وعــراكــي يــأخــذه أبــي ويسكر بــه، أو يعطيه لزوجته الثانية لتشتري به فساتني للنوم، أمـا أمــي فا تفعل شيئا سـوى الدعاء وتحضير الحجب. جــس الـبـائـع الصغير جيبه فـاطـمـأن إلــى ما تجمع لديه من نقود، وعزم على تنفيذ خطته. هرول ناحية الجهة الشرقية للجامعة، حيث نادرًا ما تصل عيون الحرس، وقف أمام السور الـــعـــالـــي، ثـــم نــظــر خــلــفــه نــحــو مــبــنــى الـــدفـــاع املــدنــي، وحــني اطـمـأن أن ال عـني تـــراه رمــى ما تبقى من علكة داخــل القميص وراح يتسلق الجدار الحجري، في نهايته قاومته األساك الشائكة فعبر من خالها بحذر وبطء ثم قفز إلى األرض. مـشـى بـضـع خـــطـــوات متلفتا حـــولـــه، فانتبه خلفه لطالبني يـفـعـان مثلما فـعـل، لــم يفهم ملـاذا يلجأ الكبار إلـى دخـول الجامعة بنفس طـريـقـتـه، حــني تـــجـــاوزاه سـمـع أحــدهــم يقول لآلخر: كل شي جاهز أكيد...؟! كل شي... اليافطات واإلعام والسماعة. اجتهد الصغير أن يمشي بـحـذر كـي ال يـراه أحـد من الحرس، وحني وصل إلى الحاويات الكبيرة التي تقع عند املطابخ املركزية، توارى بـيـنـهـا، نـظـر إلـــى غــرفــة الـــحـــرس، فــــرأى ثاثة منهم يتجولون بلباسهم الرسمي: يـــا روحــــــي! زلــــم طــــول بـــعـــرض والبـــســـني زي الكشافة! الحـظ الصغير أن أبـا شنب بينهم، فتذكر حادثة الصيف، كان يومها قد استولى على حاويتني لوحده، ثم اتجه إلى الثالثة وطرد اآلخـــريـــن عـنـهـا، ومـــا إن مـــد عـنـقـه داخـلـهـا حتى فوجئ بمن يمسكه من رقبته وينهال عليه ضـربـا، لقد كــان أبــا شنب الـــذي جـره إلـى غرفة زجاجية تقع أمــام البوابة ورفع سـمـاعـة الــهــاتــف ثـــم هـــــدده بـــأنـــه سيسلمه للشرطة إذا رآه هنا مرة أخرى: عندما أكبر سأشتري تنك نضح وأدوس من يقف في طريقي! تـــســـلـــق الـــبـــائـــع الــصــغــيــر إحــــــدى الـــحـــاويـــات الكبيرة فراعه ما شاهد على امتداد ناظريه؛ لـم يكن االكتظاظ عند مدخل الجامعة فقط، بل رأى مجموعات كبيرة تتجمع في الداخل، ثـمـة مـا يـنـذر بالخطر، وفــي لحظة مـا تفجر الصمت الحذر، فانطلق أحد الطلبة يهتف: وحد صفك.. وحد صفك. وراحــــت مجموعة مــن الطلبة تتجمع تباعا وتردد نداء ه بصوت جماعي مهيب: وحد صفك... وحد صفك. تحركت الجموع بتماوج وهي تغني:
نزلنا ع الشوارع رفعنا الرايات غنينالبادي أحلىاألغنيات غنيناللحرية لألرضالعربية
وتـــــحـــــرك رجـــــــال الـــكـــشـــافـــة أيــــضــــا مــــع حــركــة الجموع، لكن بحذر وتـرقـب، كـان في أعينهم ما يشي باالنقضاض. أحـــد الـطـالـبـني الـلـذيـن قــفــزا عــن الــســور أشــار بيده للجموع ثم راح يتحدث عن األرض والدم
عندما تهطل األمطار بغزارة تفُّر البشاعة من الشارع
والشهداء. أحس البائع الصغير بالقشعريرة والخوف: األرض إيش؟ كل الدنيا يعني؟ حني كنت في املدرسة كنا نعطل في عيد الفطر واألضــــحــــى، وكـــــان األســـتـــاذ يــأخــذنــا لـــزراعـــة األشجار في يوم الشجرة، لكني ال أتذكر أنه تكلم لنا عن يوم األرض، كلما سمعت سيرة املــــوت، تــذكــرت خــالــي، أنـــا ال أعــرفــه لـكـن أمــي تذكره دائمًا وتبكي. تــحــرك املــتــظــاهــرون ضــمــن دوائـــــر مـتـداخـلـة، وحملوا اثنني أو ثالثًا على األكتاف فراحوا يــتــنــاوبــون الــهــتــاف بــحــمــاســة مـــتـــزايـــدة، في حـــني كــــان رجــــال الــكــشــافــة يـــرافـــقـــون املـسـيـرة بتحفز، وحني رآهم الصغير بدا أنهم مقبلون نــحــوه، انـقـبـضـت مـعـدتـه وتـــــوارى فــي دوامـــة املتظاهرين: (من مجموعة «عيون الغرقى» الصادرة هذه األيام
عن «املؤسسة العربية للدراسات والنشر»)