جنوبيون في الشمال
ُدنى غالي تجميع الحكاية العراقية في روايتها الجديدة، تقص الكاتبة العراقية حكايات «جنوبيين» اضطرّتهم أحوالهم إلى الهجرة نحو شمال أوروبي لن يغادروه كما جاؤوه
بــــدءًا مـــن الـــعـــنـــوان يـمـكـن قـــــراءة روايــــة «جنوب» للروائية العراقية دنى غالي :)1963( فــالــجــنــوب هـــــو الــــعــــراق. لـكـن الجنوبيني الـذيـن تتحدث عنهم مــروا في الشمال أو عاشوا فيه، في الدنمارك والسويد. إنهم جنوبيون في الشمال. والجنوب بهذه املباشرة صــار جنوبًا بـنـسـبـتـه إلــــى الـــشـــمـــال، بــمــا للجهتني مـــن رمـــزيـــة وأزمــــــات تــفــاضــل بـيـنـهـمـا؛ فالجنوب عالم عنيف مشغول بالقتل املــــبــــاشــــر. فـــيـــمـــا الـــجـــنـــوبـــيـــون، الـــذيـــن وصـــلـــوا الــشــمــال ـــــ والــــروايــــة الـــصـــادرة عـن دار «املــــدى» حديثًا تـتـحـدث عنهم ـــــ مــنــفــيــون إلــــى عـــالـــم قـــصـــي، هـــاربـــون من ذاكــرة العنف، ويبحثون عن نجاة مــــن أصــــــــداء الـــقـــتـــل الـــــــذي عــــانــــوا مـنـه في العراق. الـــبـــلـــدان فـــي الــــروايــــة إقــــامــــات ولـيـسـت انــــتــــمــــاءات؛ إذ يـــخـــرج حـــســـام وفــاضــل ووائــل من الـعـراق، الجئني إلـى السويد والدنمارك. ثم يعود فاضل إلى الكويت، وحــــســــام إلـــــى اإلمـــــــــارات حـــيـــث يـسـتـقـّر ويـــتـــزوج بـعــد مــحــاولــتــه االنــتــحــار في الـسـويـد. وفــي الــعــودة عـــزوف عـن نمط العيش في أوروبا، وارتداد إلى الشرق/ الـجـنـوب لــحــل أزمــــات سـبـبـهـا الــغــرب/ الشمال. أو هـذا مـا تلمح إلـيـه الـراويـة، وما تريده، أو ما تقوله صراحة. ثم بعد زمــن، يعود فاضل وحسام إلـى أوروبـا سائحني ال الجئني، كي يلتقيا مع وائل. يتحضرون للقاء في املنفى، ليستذكروا وطنًا أفقدتهم إيــاه الـحـرب. لكن يغيب فــــاضــــل عـــــن الـــــوعـــــي مـــــا إن يــــنــــزل مــن الطائرة. وفـي الغيبوبة يقرأ له حسام مـن مفكرة والــد صديقهم وائـــل. فاضل هـــو مــــن اقـــتـــرح الـــلـــقـــاء، والـــلـــقـــاء حــدث بالفعل. لكن بال فاضل الذي يموت في الغيبوبة، ويعود به حسام إلى البصرة جثة، ومن ثم يلحق بهما وائل. فـــــي الــــكــــتــــاب روايــــــــتــــــــان، األولــــــــــى هــي «خطوات»، وجزؤها األول في جوهره لقاء جمع صديقني مع جثة صديقهما الــتــي تــعــود إلـــى «الـــوطـــن» وتعيدهما مـــعـــهـــا. وعـــلـــى ضــــفــــاف هـــــذا الـــجـــوهـــر نــقــرأ حــــال عــراقــيــني خـــرجـــوا هـــربـــًا من املــــوت، واجــتــمــعــوا فــي املـنـفـى بــوفــادة املـــوت، وأخـيـرًا عـــادوا إلــى الــعــراق، إلى انتمائهم الوحيد، بمعونِة املوت.
نلتقي أيضًا في «خطوات» مع مفكرة، تــمــثــل مـحـتـويـاتـهـا الـــجـــزء الــثــانــي من هذه الرواية. وهي سيرة بذاتها، ألنها مــا تبقى مــن سـيـرة صـاحـبـهـا. وتـــروي يــومــيــات والــــد وائــــل فــي عـــام ،2008 إذ يجد الــقــارئ يوميات املـــرض وانقطاع الكهرباء والــغــالء والـشـعـور بالوحدة؛ أي، يـومـيـات التقتير. تقتير كـــل شيء نهاية بموت األشياء وفنائها، واملـوت هــــنــــا إعـــــــــــدام لـــلـــحـــيـــاة بــــعــــد تــقــتــيــرهــا تدريجيًا. كـــمـــا فــــي املــــفــــكــــرة ســــــر الــــعــــاشــــق، ســـر غلفه تحفظ الـعـائـالت الـعـراقـيـة طــوال خمسني عـامـًا. وأســاســًا مـا مـيـز فاضل عـــن صــديــقــيــه ومــــا ألـهـمـهـمـا هـــو حـبـه لــبــثــيــنــة، الــــحــــب الــــــذي مـــنـــحـــه املــعــنــى. والـــروايـــة، بــهــذا، بـحـث الجنوبيني عن معنى فقدوه في الشمال. هكذا، يلتئم مصير الشخصيات التي قهرها العنف على محاولة الحب، وهو سلوك يحضر خـجـوال، مقترًا ومغمورًا تحت طبقات مـــن الـــســـرد. فـالـشـخـصـيـات تـبـحـث عن
سير يجمعها اللجوء والفرار ولعنة األوطان المفقودة الــــحــــب كــــي يـــغـــمـــرهـــا ويــــضــــيء عـلـيـهـا عتمتها. في الشكل يأتي الكتاب بهيئة روايتني؛ األولـى في جزأين، والثانية في مقاطع ســـــرديـــــة. فـــــي الـــشـــكـــل أيـــــضـــــًا، الـــكـــتـــاب مجموعة مـن الــروايــات املنفصلة التي تجمعها سيرة اللجوء والـفـرار ولعنة األوطان املفقودة. وال توجد شخصيات يـمـكـن لــلــقــارئ أن يــعــرف سـيـرتـهـا من الـبـدايـة إلــى النهاية، وإنــمــا ملـحـات عن شخصيات مضطربة، ولحظات فارقة فــي حـيـاتـهـم. وقـــد أحـكـمـت عـلـى الـزمـن فـــي الـــروايـــة ســمــة شــتــات املـــكـــان، وهــو مـقـسـوم إلـــى زمــنــني؛ زمـــن الــحــرب الــذي هو زمن لالنتظار، انتظار وجبة الطعام وانتظار املرتب، ويمكن أن يكون أيضًا انتظار الخروج. وزمن اللجوء الذي هو، في جوهره، انتظار للعودة. تحمل الرواية الثانية اسم «مانفيستو الـــحـــجـــرة». وتـحـضـر فـيـهـا شخصيات متعجلة؛ جــنــود ينتظرون إجـازاتـهـم؛ وفــــتــــيــــات فــــي املــــراهــــقــــة يـــتـــقـــن ملــعــرفــة أجسادهن. أيضًا نقرأ مخاوف انتهاك الـــجـــســـد، وانـــــكـــــســـــارات الـــعـــاطـــفـــة عـبـر مــــــوضــــــوعــــــات كـــــاإلجـــــهـــــاض وتـــأجـــيـــر األرحـــــــــــــام، فـــــي مـــــا يـــــعـــــرف بــــاألمــــهــــات الوسيطات. ولــــيــــس بـــعـــيـــدًا أن تــــكــــون حـــكـــايـــة األم الــوســيــطــة، الـــتـــي ال تــــرى ولــيــدهــا بعد الوالدة كي ال تتعلق به، قد تسللت إلى الحكاية من فضاء اللجوء، ومن فضاء مـغـادرة أوطـــان لم يعد لديها ما تطعم به أبناءها. ال سيما مع وصف الراوية للعراق، بلدها، بـأنـه بلد محكوم عليه بغياب اآلباء من جراء الحروب الطويلة التي شهدها. وســرد دنــى غالي يبحث عـن داللــة ال فـي الحكاية عينها، وإنما فـي تجميعها. وهـنـا تجتمع: أم برحم وســـيـــط، وبـــلـــد بـــــأب ضـــائـــع، ومـنـفـيـون يهيمون بروح الجنوب في عالم الشمال.