Al Araby Al Jadeed

عن أردوغان

- أسامة أبو ارشيد

لــــيــــ­س الــــرئــ­ــيــــس الـــــتــ­ـــركـــــ­ي، رجـــــــب طــيــب أردوغـــــ­ــــان، قـــديـــس­ـــا ولــكــنــ­ه لــيــس شــريــرًا أيــضــا. وهـــو لـيـس زعـيـمـا ملهما، ولكنه لـــيـــس زعـــيـــم­ـــا عــــاديــ­ــا كــــذلـــ­ـك. وهـــــو لـيـس ديــــكـــ­ـتــــاتــ­ــورًا، ولـــكـــن­ـــه لـــيـــس ديــمــقــ­راطــيــا واهـمـا. وهـو ليس أبـا لتركيا، ولكنه في املـــقـــ­ابـــل مـــجـــدد لــهــا بـــاعـــث لـتـطـلـعـ­اتـهـا، وال شــــك طــبــعــت بــصــمــا­تــه مـسـتـقـبـ­لـهـا. وهــو ليس فاتحا إسـامـيـا، ولكنه أحيا لـــدى كـثـيـريـن أمـــجـــا­دًا ســطـرهــا فـاتـحـون مــــســــ­لــــمــــ­ون كــــــثــ­ــــر. وهــــــــ­ـو لـــــيـــ­ــس رهـــيـــن­ـــة إيـديـولـو­جـيـا وال تنظيمات وال تـيـارات كما يتوهم بعضهم، ولكنه ال يتنصل من اإليديولوج­يا وال يتبرأ من انتماء تركيا إلــى اإلســـام، تاريخا وجغرافية وثقافة وحضارة. أردوغان رئيس لدولة إقليمية كــبــرى، لها طموحاتها وأطـمـاعـه­ـا، كما أن لها حساباتها وتـحـديـات­ـهـا، داخليا وإقليميا ودولـيـا. وأوال، وقبل ّأي شيء، يـــدرك أردوغـــــ­ان أن رئـاسـتـه وزعــامــت­ــه ال تــعــنــي­ــان شـــيـــئـ­ــا، بــــل وال تـــتـــحـ­ــقـــقـــ­ان، مـن دون دعـــــم غــالــبــ­يــة األتــــــ­ـــراك، ال ســـواهـــ­م لـــه. وتـركـيـا بـلـد منقسم إثـنـيـا ومذهبيا وثقافيا وإيديولوجي­ا. من ال يفهم هذه الـتـعـقـي­ـدات ومـــا قـــد تــبــدو تــنــاقــ­ضــات ال يفهم أردوغــان وال يفهم تركيا الحديثة، الـــتـــي لـــم يــجــد حــتــى مـــرشـــح املــعــار­ضــة، كـمـال كـلـجـدار أوغــلــو، الـــذي يــقــدم نفسه مدافعا عن اإلرث األتاتوركي للباد، إال أن يتمسح باإلسام ويتودد إلى طبقات املتدينني األتراك. يـــدرك خـصـوم تركيا، غربيا وعـربـيـا، أن تــركــيــ­ا مـــن دون أردوغـــــ­ـان لــيــس كتركيا بـزعـامـة أردوغـــــ­ـان. هـــذا رجـــل لــديــه رؤيــة لــتــركــ­يــا قــــوة إقـلـيـمـي­ـة كـــبـــرى، وصـــاعـــ­دة ومــؤثــرة عـاملـيـا. وهــو مـحـتـرف فـي القفز بـــني الــحــبــ­ال املـــتـــ­عـــددة واملــتــن­ــاقــضــة في ســـيـــاق مـــشـــرو­عـــه لـــتـــرك­ـــيـــا. مــــن نـــاحـــي­ـــة، يحافظ على عاقاته بالغرب ويبقي على عـضـويـة بــــاده بـحـلـف شــمــال األطـلـسـي (الـنـاتـو)، لكنه ال يسلم سيادتها إليهم وال يــــــتــ­ــــردد فـــــي االصــــــ­طــــــدام بـــمـــا يـــــراه مـشـاريـع تستهدف تـركـيـا ومصالحها، كـــمـــا فــــي ســــوريــ­ــة. ومـــــن نـــاحـــي­ـــة أخـــــرى، يـــــعـــ­ــزز خــــطــــ­وط الــــتـــ­ـواصــــل مـــــع روســـيـــ­ا والــــصــ­ــني، ولـــكـــن­ـــه ال يـــغـــام­ـــر بــالــتــ­حــالــف مـعـهـمـا ضـــد الـــغـــر­ب. يـعـلـم أردوغـــــ­ــان أن الواليات املتحدة ومعسكرها الغربي ال ينظران إلى تركيا وال يريدانها إال تابعة ومخلبا متقدما لهما فـي فضاء الشرق األوســــط وفـــي مـسـاعـي احـــتـــو­اء روســيــا. وهــو ال يـتـردد فـي التصدي للمحاوالت األوروبـــ­يـــة، املــدعــو­مــة أمـيـركـيـ­ا، لخنقها فــــي شـــــرق املـــتـــ­وســـط عـــبـــر الــــيـــ­ـونــــان. هـم

يريدون إعادة تركيا ضعيفة كما كانت، معتمدة عليهم تدين بـالـوالء لهم، وهو يريد تركيا أكثر استقاال عنهم ال ترهن مصالحها االستراتيج­ية إلمبرياليت­هم. خـــــــــ­ال عـــــقـــ­ــديـــــن مـــــــن زعـــــامـ­ــــتـــــ­ه تــــركـــ­ـيــــا، حــــــدث بــنــيــت­ــهــا الــتــحــ­تــيــة وعـــــــز­ز قــوتــهــ­ا االقتصادية وأحدث قفزات غير مسبوقة فــــي صـــنـــاع­ـــاتـــهـ­ــا الـــعـــس­ـــكـــريـ­ــة وضـــاعـــ­ف حضورها اإلقليمي والدولي. وهو فوق ذلــــك أعــــاد جــســور الـــتـــو­اصـــل بـــني تـركـيـا والـــعـــ­رب، وال نـبـالـغ إن قـلـنـا إن شعبية أردوغـــــ­ـــان بـــني الـــشـــع­ـــوب الــعــربـ­ـيــة أعـلـى مـنـهـا بـــني األتــــــ­راك. لــكــن، أردوغـــــ­ـان الـــذي لديه انتماء إيديولوجي واضح، ويعرف كــيــف يـــوظـــف­ـــه عــنــدمــ­ا يــجــعــل مـــن نفسه رهينة له أبدًا، دون أن يعني ذلك التمرد عــلــيــه. هـــو يـفـهـم أنــــه زعــيــم دولــــة كـبـيـرة حقيقية ال يمكن اختزالها بشخص مهما عظم، وال بحزب مهما امتلك أغلبية. كما أن قـرار التسييد في يد األتــراك وحدهم، وهم منقسمون، كما سبق القول. كل من عـــجـــزو­ا عـــن إدراك ذلــــك ســقــطــو­ا إمــــا في فــخ تـهـويـل أردوغـــــ­ان وتحميله فـــوق ما يحتمل، أو أنهم سقطوا في فخ التهوين منه وشيطنته. عمل أردوغــان على بناء صـــورتـــ­ه داخــلــيـ­ـا زعــيــمــ­ا قــومــيــ­ا مسلما تركيا قــويــا. اإلســـام هنا جــزء مــن بناء الــصــورة والــزعــا­مــة فــي بـلـد يحضر فيه

حدث أردوغان بنية تركيا التحتية وعّزز قوتها االقتصادية وأحدث قفزاٍت غير مسبوقة في صناعاتها العسكرية

اإلسالم بقوة، دون التشكيك طبعا بإيمان الــــرجــ­ــل. كــمــا لـــم يــغــب عــنــه بـــنـــاء صـــورة مـــوازيــ­ـة مـوجـهـة لــلــخــا­رج كـزعـيــم مسلم منافح عن حقوق املسلمن املستضعفن، كما في فلسطن وسورية وميانمار. لكن، عندما تعارضت مصالح تركيا الكبرى مــــع هـــــذه الــــصـــ­ـورة مـــــال إلـــــى املـــســـ­اومـــة، فأعاد تطبيع العالقات مع إسرائيل بعد سنوات من التوتر والجفاء. وكان صوته أكــثــر انـخـفـاضـ­ا فــي الـحـديـث عــن حقوق املسلمن اإليغور في الصن. ثم جنح إلى املساومة واملهادنة مع بعض الدول التي شهدت انقالبات على الـثـورات العربية، كما مصر. ومع ذلك، تقتضي املوضوعية أن ننبه هـنـا أنـــه لــم يـتـواطـأ فــي ظـلـم أو اإلعانة عليه، بقدر انطالقه من حسابات الضرورة واملمكن. دعم الشعب السوري ما استطاع قبل أن تتبدل موازين القوى وتـجـد تركيا نفسها، بـل حتى حظوظه الرئاسية نفسها، في عن العاصفة. ومع ذلــــك، لــم يــتــن خـطـابـا عـنـصـريـا بغيضا ضــــد الــــالجـ­ـــئــــن الــــســـ­ـوريــــن فــــي بــــــالد­ه، كـمـا يفعل كـلـجـدار أوغــلــو، ولـــم يتركهم ملصيرهم. وهــو ضغط على املعارضن املـصـريـن املـقـيـمـ­ن فــي تـركـيـا للتهدئة، ولكنه لم يسلمهم لنظام بـالدهـم. سعى إلى تطبيع العالقات مع إسرائيل، ولكنه لــم يـهـادنـهـ­ا عـلـى حـسـاب الفلسطينين ولم يتخل عنهم. ال تـوجـد مـفـاجـأة فـي أن أردوغــــا­ن عجز، حتى اللحظة، عـن تـأمـن واليـــة رئاسية ثانية بعد أكثر من عقدين من استفراده وحزبه العدالة والتنمية بقيادة البالد، بل املفاجأة أن تعجز املعارضة املوحدة ضـــــــده فــــــي هــــزيـــ­ـمــــتـــ­ـه. يــــئــــ­ن االقــــتـ­ـــصــــاد الـــتـــر­كـــي تــحــت وطـــــأة مـــاليـــ­ن الــالجــئ­ــن والــتــضـ­ـخــم وتـــداعــ­ـيـــات جـائـحـة كــورونــا والـــــزل­ـــــزال الـــرهـــ­يـــب قـــبـــل بــضــعــة أشـــهـــر.

ولـم يــأل الغرب جهدًا في التحشيد ضد أردوغان والتحذير من خطره. ومع ذلك، تــقــدم أردوغـــــ­ان بــفــارق كبير فــي الجولة األولــى، وعلى األرجـح سيحسم الرئاسة فـي الجولة الثانية، مدفوعا بمشاريعه وإنـــجـــ­ازاتـــه الـــكـــب­ـــرى فـــي حـــقـــول الــطــاقـ­ـة واالقتصاد والصناعات العسكرية. ترى كم من الديمقراطي­ات الغربية نجح فيها حـزب في البقاء في الحكم 20 عاما؟ أما سفسطة بـعـض أبــــواق أنـظـمـة الطغيان العربي عن «ديكتاتورية» أردوغان، الذي يــنــافــ­ح لـلـظـفـر بــرضــى %50 مـــن شعبه، فهي أسخف من إعارتها انتباها. وكلمة أخـيـرة، إذا كــان األتـــراك أنفسهم يجدون مشكلة فــي الــوثــوق فــي كـلـجـدار أوغـلـو، فكيف يتمنى بعض العرب نجاحه، وهو الــــذي ال يــخــفــي عـنـصـريـت­ـه ورغــبــتـ­ـه في إشـاحـة الـوجـه عنهم؟ شخصيا، ال أظن ذلـك يأتي من بـاب السفاهة، وإنما لؤما على أمل أن تنهار تركيا وتعود سيرتها األولـــــ­ى ضـعـيـفـة تــابــعــ­ة فـــي فــلــك الــغــرب، حتى لو كانت معادية للعرب. بالنسبة لــهــؤالء، يـتـمـنـون تـركـيـا متعالية علينا نـحـن الـــعـــر­ب عـلـى تـركـيـا الــتــي قـــد تـقـدم نــمــوذجـ­ـا أفــضــل يـمـكـن لــنــا أن نـحـتـذيـه. إنهم يـودون رؤية تركيا منهارة على أن يقدموا تجربة تنافسها.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar