Al Araby Al Jadeed

الوليمة األخيرة ألعشاب البحر

- عائشة بلحاج

يولد بعض الشعراء كذلك، ثم يفقدون الشعر مع كـل خطوة في هـذا العالم. مثلما حدث لـ«يوملير» بطل روايـة «الحياة في مكان آخـر»، التي تــؤرخ حياته، قبل أن يأتي إليها، وتالحقه إلى آخرها، وهي تنتهي على غير ما بـدأت به. وربما بالضبط كما بدأت: غير اعتيادية وغامضة ومفاجئة. يقدم ميالن كونديرا الهوة التي تقف بني املرء وحياته، بني ما حمله إلى الحياة وما تمنحه له. كم واحد منا يعيش حياته التي جاء إليها مثل مربع نازل في لعبة إلى مكانه املثالي في البازل؟ وكم منا يتكدس عالقًا في املكان غير املناسب؟ غير قـادر على تخطي املكعبات األخــرى التي تحاصره رغمًا عنها، فهي أيضا وقعت في حيص بيص روليت الحياة. «الحياة في مكان آخر» جملة ال تقولها ألسنتنا دومًا، لكن أدمغتنا ال تتكلم إال لغتها. ال األمكنة التي نتنقل فيها، وال البشر الذين يشاركوننا األوكسجني والجدران، وال مسارات األشياء ومصائرها، ال شيء من ذلك هو لنا. نحن ألشياء أخـرى، منذورون ملا لم يتحقق، وما لم نفعله. فلنكن منصفني لحظة، لسنا ضحايا كاملي األوصاف لروليت الحياة، بل نحن، نوعًا ما، شركاء في الجريمة. ال توجد جثة وال أدلة قاطعة، لكننا شاركنا في ذبح كل ما ادخرناه من أحالم وبـراءة وعناد. مثل آدام درايفر في فيلم ،»paterson« تصل إلى اللحظة التي يمزق فيها كائن آخر دفتر شعرك، ويصفعك الفراغ الذي تجد نفسك فيه؛ فأنت ال تعرف شيئًا آخر غير أن تفيق صباحًا، لتبحث عن استعارة تصف بها يومك القادم. مستمدا القوة مما سبق ودونته. في ضياعك لن ينقذك سوى ساذج مثلك، يمدك بدفتر جديد، معيدا لعنة اإليمان بالشعر إليك. سيكون ذلك الشخص شبيهًا، يسافر إلى قارة أخرى، باحثًا عن مدينتك الضئيلة على الخريطة، ليزورها، فقط ألنها أنجبت شاعرًا يحبه. لست أنـت، بالطبع، ذلك الشاعر. لكنك مع ذلك ترى في الشعر أسرار السعادة؛ ويكفي أن تكتب لتجدها. عاملا أنه يومًا ما، سيزور شاعر قبرك، قادمًا من أقصى األرض، ألنه يحتاج لإليمان؛ وبدال من كونك مصدر شك عظيم لنفسك، ستصبح ّلغيرك، منبع إيمان أعظم. توفي قبل أيام الروائيٍ السوري حيدر حيدر، هو الذي تعرضت روايته «وليمة ألعشاب البحر» للمنع سنوات بعد صدورها، ثم نسي أمرها. ملاذا تعرضت الرواية للمضايقة بعد وقت طويل من صدورها؟ إنها لعبة نرد، في لحظٍة ينقلب النرد ويقع قلبك، ثم ينقلب مـّرات أخـرى، وفي كل خطوة مالئمة تتمنى لو أنها آخر شقلبة له، وفي الخطوات الخاسرة تود لو تدفعه بقلبك إلى جانبه. هاجر مهدي جواد، بطل «وليمة ألعشاب البحر»، أستاذ لغة عربية، من العراق إلى الجزائر، حيث تقابله غرابة، ال يجد سوى تكرار عبارة «أفريقية» لتفسيرها. نجد في ذلك تناقضًا ثقيال، فهو لو ذهب إلى مصر ملا تحدث عن أفريقيا، بل عن بلد عربي. ربما لم يستطع حينها وصف الجزائر بأنه بلد عربي، ألنه مزيج من األمازيغ والعرب، وجلهم صار فرنكوفونيًا بحكم االستعمار، وألنه عاين ذلك بما أنه ذهب لتدريس اللغة العربية. في هذه الحالة، كان عليه أن ينسب املكان وأهله إلى أنفسهم، أو إلى منطقة تجمعها القواسم نفسها، وهي املغرب الكبير في تعدده الثقافي واختالفه عن الشرق والغرب. جوع رفاق مهدي الجنسي ليس له إطار جغرافي بل هو عابر لألمكنة، فبحث الرجل الشرقي عن الجسد، بعينه الفاحصة لـ«جغرافيا النساء»، يـزداد ضــراوة مع تغيير املكان. واملفارقة التي يظهرها باستحضار نموذجني أزليني للنساء: عذراء بريئة إلى درجة السذاجة تبعده، فيركض كالوعل من أجل إغرائها وانتزاع براءتها. وامرأة ناضجة فاسقة تغريه، فينظر إليها بطهرانية مزعومة، رغم أنه قد يستجيب لندائها. الحب والرغبة في مكان آخر، هو الصعب املنال. أما الحياة لهذا الجيل فهي في ذهنه، ملعونة عبثية أفسدتها األحالم اإليديولوج­ية الطوباوية، والجشع الذكوري للسيطرة على كل شيء، ابتداء من الحوار والجدال، إلى السلطة والثقافة، إلى الجنس. لكن الحياة تبقى في مكان آخر، ألنه في محاولته امتالك كل شيء، يخسر كل األشياء، فتصير الحياة هالمًا وسرابًا، يتالشى تحت خيمة الفراغ.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar