تونس ومنعرج الحريات الصحافية
شهدت تونس صدور أول تشريع منظم لقطاع الصحافة واإلعام في 14 أكتوبر/ تشرين األول ،1884 وذلـك إبـان الحماية الفرنسية على الباد، ولم يكن هذا النص القانوني الوحيد الذي عاشت على وقعه اإليــــالــــة الــتــونــســيــة حــيــث كـــانـــت قــوانــني الصحافة وتشريعاتها تهدف للتعايش الـسـيـاسـي واالجــتــمــاعــي واإلعـــامـــي مع املستعمر الفرنسي الجديد. ومـع مطلع العشرينيات من القرن املاضي، وتحديدًا خـال شهر يناير/ كانون الثاني ،1922 تـم سن قانون جديد ملجابهة الصحافة االشتراكية، إضافة إلى تشريعات الحقة أخــــــرى نــظــمــت الــــحــــدود بــــني الــصــحــافــة الصادرة باللغة العربية، وتلك الصادرة بالعبرية، تبعًا لكثافة الجالية اليهودية الـــتـــي كـــانـــت مــــوجــــودة فـــي تــلــك الـحـقـبـة بتونس، والصحافة الفرنسية، صحافة املـسـتـعـمـر الــفــرنــســي. ويــذكــر للصحافة الــعــربــيــة فـــي تــلــك الــفــتــرة دورهـــــا الــبــارز فـي مسار حركة التحرير الوطنية، فقد كان الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه من ذوي التجارب الصحافية ومن مؤسسي الصحف ذات التاريخ العريق. ومـع دولــة االستقال عـام ،1956 صدرت الـعـديـد مـن الـنـصـوص التشريعية التي كان هدفها تنظيم السياسات اإلعامية والصحافية للدولة الوطنية الفتية، ولعل أهم هذه التشريعات «مجلة الصحافة»، واملجسمة لقانون عــدد 32 لسنة ،1975 والذي أعلن صراحة «أن حرية الصحافة والـتـعـبـيـر مـضـمـونـة عـمـا بـمـا جـــاء في الفصل الثامن من دستور .»1959 ولكن قــــانــــون 1975 لـــلـــصـــحـــافـــة، ســــرعــــان مـا تــحــول إلـــى قــانــون زجــــري بــاعــتــبــاره قد جــــرم عــــددًا مـــن األفـــعـــال واملـــقـــاالت تحت طائلة مـا يـعـرف بـجـرائـم الصحافة إلى جــانــب تنصيصه عـلـى عـقـوبـات سالبة لـلـحـريـة وأثـــنـــاء املــحــاكــمــات الـسـيـاسـيـة الـــتـــي عــرفــتــهــا تـــونـــس بــعــد االســـتـــقـــال،
وهـي تتجاوز الخمسني محاكمة، حيث استند القضاء إلـى هـذا القانون الزاجر إلــى جـانـب نـصـوص الـقـوانـني الجزائية إلخـــــمـــــاد صـــــــوت املـــــعـــــارضـــــة ومـــتـــابـــعـــة الـــصـــحـــافـــيـــني، مـــــا جـــعـــل بـــعـــض فــقــهــاء الــقــانــون يـعـتـبـرون أن قــانــون الصحافة في تلك الفترة هو قانون النوايا، أي أنه كــان يـجـرم نـيـة الفعل قبل الفعل. وعلى الـــرغـــم مـــن أن الـسـلـطـة الــســيــاســيــة إبـــان حكم الـرئـيـس الــراحــل زيــن العابدين بن علي قـد أدخـلـت بعض التنقيحات على هــذا الـقـانـون، إال أن هــذه التنقيحات لم تمس الجوهر ليستمر قانون الصحافة فـي تـونـس إبـــان مـا أصـبـح يـعـرف بعهد الــتــغــيــيــر ،)2011-1987( أداة لـتـكـمـيـم األفــــــــــواه وضـــــــرب الــــحــــريــــات اإلعـــامـــيـــة والصحافية. وبـقـيـام ثـــورة 14 يـنـايـر/ كــانــون الثاني ،2011 اعـــتـــبـــر أهــــــل الــــقــــطــــاع اإلعــــامــــي واالتـــصـــالـــي والـــســـيـــاســـة أن تـــونـــس قد دخـــلـــت مــرحــلــة جـــديـــدة بـتـفـتـحـهـا على الديمقراطية وحرية اإلعـام، فقد حققت الثورة إنجازًا هامًا تمثل في منح وسائل اإلعــــام وأهــــل الــقــطــاع مــن الـصـحـافـيـني، الــــحــــريــــة الــــتــــامــــة لــلــتــفــكــيــر والـــتـــعـــبـــيـــر، وتكونت بذلك الهيئات الهادفة لتقنني هـــذا اإلنــجــاز ومـنـحـه الـصـيـغ القانونية الازمة، تنفيذًا ملا تنص عليه املؤسسات الــدســتــوريــة، وقـــد رافــــق هـــذه اإلجـــــراءات قـيـام الهيئة الوطنية املستقلة إلصـاح اإلعــــام واالتـــصـــال الــتــي شـهـد تكوينها مـشـاركـة صحافيني وخــبــراء وإعاميني عــرفــوا بمناهضتهم لـلـقـانـون الـزجـري الــــذي شــهــدتــه تــونــس قــبــل الـــثـــورة. وقــد أصدرت هذه الهيئة املرسومني الشهيرين عـــدد 115 و611، كــمــا ألــغــت كـــل الصيغ املـعـروفـة بمجلة الصحافة فــي مختلف مـراحـلـهـا )1993-1988-1975( ونسخة ،2001 ويـنــص املــرســوم عـــدد ،115 وهـو األشهر اليوم، في فصله 79 على «إلغاء جــمــيــع الـــنـــصـــوص الـــســـابـــقـــة، وخـــاصـــة مــجــلــة الـــصـــحـــافـــة الـــــصـــــادرة بــالــقــانــون
حققت الثورة التونسية إنجازًا هامًا تمثل في منح وسائل اإلعالم وأهل القطاع من الصحافيين الحرية التامة للتفكير والتعبير
عـدد 32 لسنة ،1975 وجميع النصوص الــاحــقــة املـتـمـمـة واملـنـقـحـة لــــه»، كـمـا تـم إلغاء وزارة اإلعـام. ومن مرجعيات هذا املـــرســـوم الــجــديــد بـــنـــود الــعــهــد الـــدولـــي لـــلـــحـــقـــوق املـــدنـــيـــة والـــســـيـــاســـيـــة وبــقــيــة املـــواثـــيـــق الـــدولـــيـــة، وخـــاصـــة الـــحـــق في حـــريـــة الــتــعــبــيــر وحــــريــــة تـــــــداول ونــشــر وتـلـقـي األخـــبـــار واآلراء واألفـــكـــار مهما كــان نـوعـهـا. كما شمل هــذا املــرســوم في بعده التحرري املؤلفات الفكرية واألدبية والــــفــــنــــيــــة، وجــــمــــيــــع مـــــجـــــاالت الـــقـــطـــاع اإلعــــامــــي، ضــامــنــًا حــقــوق الـصـحـافـيـني وواجـــبـــاتـــهـــم وحــــــدود املـــســـؤولـــيـــة الــتــي عليهم أن يلتزموا بـهـا. ومــن مـزايـا هذا املرسوم منع أي فرض على حرية تناول املعلومات والوصول إليها، مكرسًا الحق فـــي إعـــــام حــــر وتــــعــــددي وشــــفــــاف، وقــد اعتبر هذا املرسوم واملرسوم ،116 ثورة فــي قــطــاع اإلعـــــام، وتـكـفـي اإلشـــــارة إلـى أنـهـمـا ألـغـيـا الـعـقـوبـة الـسـالـبـة للحرية بالنسبة للصحافيني واملبدعني عمومًا.