Al Araby Al Jadeed

عندما فشلوا في التخلص من السلطان العثماني

- صالح الدين الجورشي

ألن تركيا دولة محورية، تحولت انتخاباتها إلى حدث دولي، واتسعت رقعة األطراف التي عبرت بوضوح عن رغبتها في خسارة رجب طيب أردوغان، حتى تجاوزت حدود املعقول، فحكومات االتحاد األوروبي والواليات املتحدة وإسرائيل وحكومات عربية كانت تنتظر التخلص من الرجل بشكل فج وبكراهية عالية. جعل هذا األمر الصحافي البريطاني ديفيد هيرست يصرح بأن تغطية وسائل اإلعالم الغربية للرئيس التركي «عدائية بشكل واضح». وضرب أمثلة على ذلك بدير شبيغل وإيكونوميس­ت ولوبوان وتليغراف. والسؤال: ملاذا عادت كل هذه األطراف الرجل وحزبه، حتى كادت املسألة أن تنقلب إلى قضية شخصية وتنفيسًا عن «حقد تاريخي»؟. لست من أنصار الرئيس التركي، وسبق أن انتقدت أسلوبه في الحكم، لكن ما حدث معه هذه األيام يدفع نحو إعادة تقييم أمور كثيرة ال يمكن االستهانة بها، فما حصل جعل صحيفة نيويورك تايمز تواجه هذا التيار العدائي، وتكتب «توقفوا عن وصم أردوغان بالديكتاتو­ر، الديمقراطي­ة التركية ال تزال بخير، والشخص الذي يذهب إلى جولة اإلعادة ليس مزورًا، أردوغان رئيس منتخب ديمقراطيًا». كتبت الصحيفة ذلك، بعد أن وجهت اإلدارة األميركية رسالة عدائية صريحة إلى الرئيس التركي. كما نجد قناة LCI الفرنسية تختار، في أحد برامجها، عنوانًا صادمًا بعد نتائج الجولة األولى من االنتخابات «العمى الغربي». كما اعتبر الصحافي هيرست السبب الحقيقي لهذا العمى أن «أوروبـــا تصلي من أجـل إسقاط أردوغــــا­ن»، لكونه «جعل من تركيا دولة مستقلة لديها قوات مسلحة قوية، دولة ال تنصاع تلقائيًا ملا يوجه إليها من إمالءات». صحيح أن هناك عوامل عديدة عملت ضد الرئيس التركي، وكادت أن تسقطه انتخابيًا، وهي التي راهن عليها جميع خصومه في الداخل والخارج. من هذه العوامل األزمة االقـتـصـا­ديـة الخانقة، الـتـراجـع الكبير لليرة، الــزلــزا­ل الـــذي وقــع وتمنى حـدوثـه أحد معارضيه، واعتبره كافيًا للتخلص من أردوغان. يضاف إلى ذلك تراجع الحريات. في املقابل، هناك رصيد هام يتمتع به الرجل، وتغافل عنه خصومه: يجب استحضار االنتقال السريع لتركيا خــالل سـنـوات قليلة إلــى قــوة اقتصادية وعسكرية أهلتها لكي تكون ضمن العشرين األقوى عامليًا. هذا إنجاز عظيم لم تتمكن من تحقيقه دول كثيرة، بما في ذلك دول غربية عديدة. كما أن هذه القفزة لم تحققها بقية التجارب التي خاضتها أحــزاب إسالمية مارست الحكم بعد الثورات العربية، التي ّحدث معها العكس تماما، بسبب االرتجال وغياب الرؤية وانعدام الكفاءة. هذا ما قدره ماليني األتراك رغم النكسة االقتصادية لحزب العدالة والتنمية، بمن في ّذلك سكان املناطق التي أصابها الزلزال أخيرا، والذين راهنت عليهم املعارضة لكي يصوتوا ملرشحيها، فإذا بـ06% منهم يصرون على التمسك بتجديد الثقة في أردوغان. حتى الشباب الذين لم يعيشوا فترة ما قبل صعود حـزب العدالة والتنمية، ولـم يتابعوا فترات التحول الكبير الذي حصل بعد ذلك، وكان يتوقع أن ينحازوا إلى حزب الشعب وحلفائه، انخرط جزء واسع منهم إلى الرئيس بحماس الفت لالنتباه، اعتقادًا منهم أنه جعل من بالدهم دولة وازنة في العالم وفي الشرق األوسط. وجدوا فيه الزعيم في بلد يفتقر إلى شخصيات كارزماتية قادرة على جّر الجماهير وراءها، وتوحيد مشاعرها وطموحاتها. أما الذين ال يزالون يتعاملون مع الرئيس التركي باعتباره عضوًا في تنظيم اإلخوان املسلمني، فهم لم يفهموا شيئًا كثيرًا من التحوالت التي حصلت خالل السنوات األخـيـرة. لم يـدركـوا بعد حجم التيار املحافظ وتـعـدد أشكاله في بلد مثل تركيا. ولم يستوعبوا التالحم الحاصل هناك بني اإلسالم والقومية، ما أعطى فرصة لبناء تحالفات سياسية واجتماعية جديدة وقوية كان لها تأثير حاسم في االنتخابات أخيرًا. وبـدل أن يـؤدي العداء الغربي لشخص أردوغــان إلى تحجيمه والقضاء عليه سياسيًا، حصل العكس تمامًا، إذ منحه شعبية كاسحة، وجعل منه رقمًا صعبًا يحيي لدى خصومه شبح السلطان العثماني الذي يخشون انبعاثه من جديد.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar