Al Araby Al Jadeed

العمارة النبطية نحت الصخور بحثًا عن الخلود

- تيسير خلف

كانت للبتراء ومدائن صالح مدارس نحت نبطية ذات ميزات خاصة تختلف عن سائر مدارس الفن المعاصر لهما، على الرغم من اختالط عناصر فنونها وامتزاجها بعّدة عناصر فنّية من حضارات مختلفة

لـــم يــكــن غــريــبــ­ا أن تـــدخـــل مـديـنـة البتراء، جنوبي األردن، عام 2007 فــي قـائـمـة عـجـائـب الـدنـيـا السبع الجديدة، نتيجة تصويت عاملي ال يخلو من العيوب واملالحظات. ولكن عاصمة األنباط تستحق هذا الدخول بسبب ما يمكن وصفه باإلعجاز املعماري غير املسبوق، وأيضا غير املكرر. والسمة األهـم لهذا اإلعجاز تكمن في تقنية نحت الكتل الحجرية الضخمة بهدف الـوصـول إلــى تشكيالت هندسية وجمالية، وهي تقنية تقوم على عكس فكرة العمارة كما عرفها اإلنسان منذ نهايات العصر الحجري الـحـديـث، والـقـائـم­ـة على رصــف الـحـجـارة أو الطني املشوي، وصوال إلى هيكل البناء.

أصل األنباط

ال يـــزال أصــل األنــبــا­ط ولغتهم واملــكــا­ن الـذي قــدمــوا مـنـه إلـــى بــالدهــم املــمــتـ­ـدة مــن مـدائـن صالح في اململكة العربية السعودية جنوبا إلـــــى شـــمـــال­ـــي الـــعـــا­صـــمـــة الـــســـو­ريـــة دمـــشـــق، مـــوضـــع جــــدل ونـــقـــا­ش بـــني الــبــاحـ­ـثــني، رغــم ترجيح الغالبية الساحقة منهم بــأن أصل هــــذا الــشــعــ­ب الـــعـــر­بـــي هـــو مـــن مـــكـــان مـــا في الـــجـــز­يـــرة الـــعـــر­بـــيـــة، يـــقـــع إلـــــى الـــجـــن­ـــوب مـن مـمـلـكـتـ­هـم الــتــي تــأخــذ شــكــال طــوالنــي­ــا على امــــتـــ­ـداد طـــريـــق قـــوافـــ­ل تــــجــــ­اري. املــعــلـ­ـومــات املـــتـــ­وفـــرة حـــــول ذلـــــك قــلــيــل­ــة، ولــكــنــ­هــا تـتـيـح تـــكـــوي­ـــن تـــصـــور مـــبـــدئ­ـــي عــــن انـــتـــق­ـــالـــهـ­ــم مـن مرحلة الــبــداو­ة والتنقل إلــى االســتــق­ــرار في مستوطنات دائـمـة، وهــذا االستقرار بـدأ في الـــقـــر­ن الــثــانـ­ـي قــبــل املـــيـــ­الد نـتـيـجـة عـــائـــد­ات تجارة القوافل التي امتهنوها، ودرت عليهم ثـــروات هـائـلـة، تــحــدث عنها أكـثـر مــن مــؤرخ عاصرهم أو عاش في مدينتهم. وفي نهايات الـقـرن األول قبل املــيــال­د، توسعت تجارتهم إلــى حــوض البحر األبـيـض املـتـوسـط، حيث عثر على أنصاب ومعابد ونقوش نبطية في جزر اليونان، وفي ميناء بوتيولي اإليطالي الذي كان ميناء نبطيا بشكل أو بآخر.

تحول نحو االستقرار

يالحظ زياد السالمني، وهو أكاديمي أردني متخصص فــي تــاريــخ وآثــــار األنـــبــ­ـاط، أنهم مـع اتـخـاذهـم الـبـتـراء عاصمة لـهـم، تحولوا من نمط حياة البداوة إلى االستقرار. ويبدو أنـهـم اسـتـمـروا يعيشون فــي خـيـام وكهوف صخرية داخــل البتراء وحولها حتى نهاية القرن األول قبل امليالد، حيث نشهد في هذه املـرحـلـة ازديــــادًا فـي الـنـشـاط الـعـمـران­ـي، فقد بني الشارع املعمد الذي يقطع وسط املدينة من الشرق إلى الغرب، كما بني املدرج الكبير مع نهاية القرن األول قبل امليالد وبداية القرن األول للميالد، وفي الوقت نفسه بني معبدان آخـــران فـي الـبـتـراء، هما: معبد قصر البنت، ومـــعـــب­ـــد األســــــ­ـود املـــجـــ­نـــحـــة. ويـــعـــك­ـــس هــــذان املعبدان مزيجا من الخصائص الحضارية املحلية والخارجية؛ فبني معبد قصر البنت على نمط املعابد السورية واليونانية، وبني

مــعــبــد األســــــ­ود املــجــنـ­ـحــة عــلــى نــمــط مـعـابـد جنوب الجزيرة العربية. وحتى سقوط مملكة األنــبــا­ط، وضمها إلى رومــا عــام م106 تحت اســم الـواليـة العربية، لم يطرأ أي تغير كبير على أنماط العمارة الـنـبـطـي­ـة، مــمــا يـعـنـي أن مــرحــلــ­ة االســتــق­ــرار والرخاء ترتبط بعهد حارثة الرابع (حكم بني عامي 9 ق.م و14 م). ويبدو أن ازدياد النشاط الـــعـــم­ـــرانـــي فـــي الـــبـــت­ـــراء تـــرافـــ­ق مـــع تــغــيــر­ات اجتماعية أيضا، وتغير في نمط الحياة، إذ بدأ األنباط ببناء بيوت من الحجارة، حيث عــثــر عــلــى نــوعــني مـــن املــســاك­ــن فـــي الــبــتــ­راء: كهوف صخرية، وبيوت مبنية من الحجارة. وقــد عثر على بيوت تعود إلــى بـدايـة القرن األول قبل امليالد، وهي بيوت بسيطة لكنها شهدت تطورًا مع بداية القرن األول امليالدي، وهــي الـفـتـرة الـتـي شـهـدت بـنـاء بـيـوت وفلل فــــــاره­ــــــة؛ ومــــــن األمــــثـ­ـــلــــة عـــلـــى ذلــــــــ­ك: مـــنـــاز­ل الزنطور والفيال النبطية بوادي موسى التي تحتوي على غرف كبيرة متعددة، وساحات وخـــــزان­ـــــات لــلــمــي­ــاه وحــــمـــ­ـامــــات. كـــمـــا زيـــنـــت جدرانها الداخلية بالفريسكو، واستخدمت الفسيفساء لتزيني بعض أرضياتها. ولكن معجزة العمارة النبطية تتمثل في الواجهات املــحــفـ­ـورة بــالــصــ­خــر، واملــــــ­درج املــنــحـ­ـوت من

صـخـرة واحـــدة باستثناء الــواجــه­ــة، إضافة إلــى شبكة املـيـاه املـتـطـور­ة واملـعـقـد­ة؛ أنظمة وإدارة وتصريفا.

بيوت األبدية

كما غيرهم من شعوب الشرق القديم، اعتقد األنباط بالخلود بعد املوت، ومثل التدمريني أطلقوا على مقابرهم اســم «بـيـوت األبـديـة» (بــيــت عـــاملـــ­ا)، ولـــذلـــ­ك اهــتــمــ­وا بــهــا اهـتـمـامـ­ا يــفــوق اهـتـمـامـ­هـم بـبـيـوت الــســكــ­ن، كـمـا تـدل البقايا األثرية. وقد ضمنت تقنية النحت في الصخر لهذه املدافن صمودًا في هيكل البناء بــوجــه الــحــت والـــــزا­لزل والــنــهـ­ـب، ولـكـنـهـا لم تحمها من العبث والسرقة والنهب على مر العصور التالية. إضافة إلى أن عمليات الحت والـنـهـب تـركـت غموضا فـي تــواريــخ تشييد مـــدافـــ­ن الـــبـــت­ـــراء، مـــقـــار­نـــة بـــواجـــ­هـــات مــدائــن صالح في العربية السعودية املعاصرة لها واملؤرخة في معظمها، حيث كانت واجهات البتراء مطلية بالجص، وربما كتبت عليها بعض الـنـصـوص، ولكنها امــحــت مــع مــرور الزمن وعوامل التعرية. ويرى السالمني أن نحت الواجهات الصخرية تـطـلـب تــضــافــ­ر جــهــود مــشــتــر­كــة، فــهــو عـمـل تعاوني شـاق يشترك فيه النحات والرسام واملهندس املعماري، ويعتمد إخراج الواجهة كلوحة فنية على تميز التصميم وجـودتـه وجـــودة النحت ومـــدى إتـقـانـه، فـكـان الفنان يــبــدأ عمله بتخطيٍط أولـــي دقــيــق للواجهة واخـتـيـار مكانها بعناية، وتجهيز السطح الـــذي سيتم قطعه، وتنفيذ العمل بكل دقة وعناية. ويحتاج نحت الواجهات إلى توافر عــــدد مـــن الــــشـــ­ـروط فـــي الـــنـــح­ـــات واملــهــن­ــدس واملصمم، كالصبر، والـدقـة، وشــدة التركيز، واالنـــتـ­ــبـــاه، والــتــأن­ــي أثــنــاء عـمـل الــرســوم­ــات األولــــي­ــــة والـــنـــ­حـــت، كــمــا يــحــتــا­ج إلــــى خــبــرة ودراية أثناء تنفيذ هذه األعمال. وتـــمـــث­ـــل الـــحـــج­ـــر املــقــطـ­ـوعــة فـــي الــصــخــ­ر في مدينة البتراء حوالي 1179 حجرة، في حني يـبـلـغ عـــدد الــقــبــ­ور الــتــذكـ­ـاريــة املـنـحـوت­ـة في الصخر حوالي 628 واجهة، وقـد لقيت هذه الواجهات اهتماما كبيرًا من ِقبل الباحثني الذين درسوها ودرســوا زخارفها وحاولوا إعطاء تصنيف نوعي وتأريخي لها. ولـكـن بـشـكـل عــــام، يمكن تقسيم الـواجـهـا­ت النبطية املقطوعة بالصخر في مدينة البتراء اعتمادًا على خصائص معمارية وفنية إلى املجموعات التالية: واجـــهـــ­ات الــقــبــ­ور املــســنـ­ـنــة، وتـــعـــر­ف أحـيـانـا بـاسـم قـبـور خـطـوة الــغــراب، ويـسـمـي بعض الباحثني هــذا الـنـوع مـن الـواجـهـا­ت بالنوع اآلشوري بسبب وجود زخرفة خطوة الغراب التي كانت شائعة في بالد ما بني النهرين، وواجـــهــ­ـات الــقــبــ­ور املــــدرج­ــــة، وهـــي واجــهــات زخـــــرف الـــجـــز­ء الـــعـــل­ـــوي مــنــهــا بـــزوجـــ­ني من األدراج الــتــي تـشـابـه أدراج خــطــوة الــغــراب، والقبور التي زيـنـت بإفريز مقوس محمول على دعامتني فوق املدخل، وواجهات القبور املزخرفة بلوحة مثلثة تعلو املدخل تحملها دعامتان أو أربع دعامات مالصقة للواجهة. والقبر املعبد، وهو نوع متطور من الواجهات املثلثة، مـزخـرف بلوحة مثلثة أو أجـــزاء من لـــوحـــة مــثــلــث­ــة، وقــــد زودت هــــذه الــواجــه­ــات أحــيــانـ­ـا بــأشــكــ­ال قــوســيــ­ة. ويــلــفــ­ت الـسـالمـن­ي إلـــى الــدقــة غـيـر الـعـاديـة فــي نـحـت الـواجـهـا­ت الصخرية، إذ إن واجهة واحدة فقط تضمنت خـطـأ مـعـمـاريـ­ا، مــن بــني 628 واجــهــة اتسمت بـــالـــد­قـــة الـــفـــا­ئـــقـــة، حـــتـــى أنـــــك لــــو قـــمـــت بـقـص واجــهــة إلـــى نصفني متقابلني ستجد أنهما يـتـطـابـق­ـان بـاملـيـلـ­لـيـمـتـر. ويـــقـــو­ل إن األنــبــا­ط اسـتـخـدمـ­وا فــي نحت هــذه الــواجــه­ــات جميع علوم الهندسة، وجميع نظريات الرياضيات والكيمياء والفيزياء والجيولوجي­ا.

المدرج األثري

مـــا قــيــل عـــن الـــواجــ­ـهـــات الــقــبــ­وريــة يـمـكـن أن يقال عن املدرج األثري املنحوت في الصخر، والـــذي نـحـت إبـــان عهد املـلـك حــارثــة الــرابــع، فـــي الـــجـــز­ء األول مـــن الـــقـــر­ن األول املـــيـــ­الدي، بمناسبة زواجـه من زوجته الثانية شقليه، كما دلت على ذلك مسكوكة نقدية عثر عليها في املدرج أثناء التنقيبات األثرية. وكــــــمـ­ـــــا هـــــــو حـــــــــ­ال املـــــــ­ــدرجـــــ­ــــات اإلغــــري­ــــقــــي­ــــة والـــرومـ­ــانـــيــ­ـة األخــــــ­رى، فــقــد جــــرى تصميمه عـــلـــى شـــكـــل نـــصـــف دائـــــــ­ـرة، بــقــطــر 95 مـــتـــرًا، وبـــارتــ­ـفـــاع 23 مـــتـــرًا. ولـــكـــن مـــا يـخـتـلـف فيه عــن تـلـك املـــدرجـ­ــات أن مـقـاعـده مـنـحـوتـة في الصخر باستثناء الواجهة األمامية املبنية بــالــحــ­جــارة، وذلــــك الســتــحـ­ـالــة الــعــثــ­ور على تكوين جيولوجي بمكن أن يساعد على بناء املدرج كله من صخرة واحدة. يتسع املــدرج إلـى نحو عشرة آالف مشاهد، وتـــتـــك­ـــون مـــقـــاع­ـــد املـــشـــ­اهـــديـــ­ن مــــن 45 صـفـا مـن املقاعد املقسمة أفقيا إلــى ثـالثـة أقـسـام، األسفل 11 صفا، واألوسط 34 صفا، والعلوي 10 صـــفـــوف، وهـــي مـقـسـمـة أيــضــا مـــن خـالل األدراج الخمسة إلى ستة أجزاء، ويوجد فوق املـــدرجـ­ــات قـطـع صــخــري مـقـطـوع مــن بعض املــدافــ­ن السابقة ملبنى املــســرح. وجـــرى قطع فـنـاء األوركــسـ­ـتــرا بالصخر، كما أن املمرين الــجــانـ­ـبــيــني لــلــفــن­ــاء مــقــطــو­عــان فـــي الـصـخـر أيضا ومسقوفان بالحجارة على شكل عقد، أما الجدار الخلفي للمسرح فيتكون باألصل من ثالثة طوابق، ومزين بكوات وأعمدة.

 ?? )Getty( ?? من صروح العمارة النبطية في البتراء باألردن
)Getty( من صروح العمارة النبطية في البتراء باألردن
 ?? )Getty( ?? القصر الفريد في مدائن صالح
)Getty( القصر الفريد في مدائن صالح
 ?? )Getty( ?? رجل من البتراء يظهر عمالت قديمة استخدمت في فترة مبكرة بعد الميالد
)Getty( رجل من البتراء يظهر عمالت قديمة استخدمت في فترة مبكرة بعد الميالد
 ?? )Getty( ?? في موقع البيضا شمال البتراء
)Getty( في موقع البيضا شمال البتراء
 ?? )Getty( ?? من القبور النبطية في مدائن صالح بالسعودية
)Getty( من القبور النبطية في مدائن صالح بالسعودية

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar