Al Araby Al Jadeed

وداعًا للسالم

- باسل طلوزي

لئن كـان أرنست همنغواي قد كتب روايـتـه الشهيرة «وداعـــا للسالح» في تقبيح الحرب العاملية األولــى، فسأختار من جهتي «وداعــا للسالم» ألعبر عن شماتتي بضحايا موجة السالم «الثانية» مع إسرائيل من العرب، ومنهم جنراالت السودان املتصارعون حاليا، ال على السلطة فقط، بل على تقديم تنازالت أزيد إلسرائيل، والتفوق على اآلخر باختصار طريق التطبيع نحو تل أبيب. قد تكون تلك إجابة عن سؤال مؤرق عما إذا كانت إسرائيل طرفا خفيا في هذا الصراع، وكيف سمحت أصال باندالعه بني طرفني يبادالنها الود، وال يتحرجان من إبداء رغبتهما في عقد اتفاقية سالم معها، فهل خشيت من تراجع أحدهما، مثال، أم شعرت بأن ثمة تلكؤًا في مسار التطبيع يوجب الحسم العسكري بني أطراف السلطة؟ إن صح هذا، فإن من يضع نهاية حرب السودان ليس الجنراالت، بل إسرائيل، حيث ال صلح بني اإلخـوة قبل الصلح معها، لترسي بذلك معيارًا جديدًا للعالقات البينية العربية حتى داخل البلد الواحد، بعد أن نجحت هي وأميركا بذلك دوليا، بأن جعلتا من «السالم» مع إسرائيل معيارًا أساسيا لتوطيد العالقات الغربية مع أي دولة عربية راغبة بذلك، مقابل عدم التورع عن تدمير أي نظام عربي ينادي بخالفه، كما حدث مع نظام صدام حسني الذي هدد بحرق «نصف إسرائيل». والخشية أال يكون ببعيد ذلك اليوم الذي تصبح فيه إسرائيل وسيطا للسالم بني العربي وشقيقه. من هنا، تبدو الشماتة مشروعة بضحايا موجة التطبيع الثانية، من الذين لم يتعظوا بأقرانهم في املوجة األولـى، التي بدأت بمصر، وتبعها األردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، فمن ينظر إلى أحوال هذه الدول الثالث، التي ال تسر صديقا وال عدوًا باستثناء إسرائيل، يدرك مبلغ الخديعة التي جلبها «السالم» لهذه الدول التي تردت أوضاعها االقتصادية إلى ما دون الحضيض، حتى راجت فيها طرفة مفادها بأن «زمن الحرب كان نعيما قياسا بزمن السالم»، فال وعد تحقق، وال تجارة ازدهرت، وال تطور أو تحديث ملسه املواطن، بل اتسعت رقع الفقر والبطالة، وقلت الحريات، وتفاقم القمع والكبت... ولم يبق غير ذلك السؤال املر ناشبا في حلوق شعوبها: أين ثمار السالم التي وعدنا بها؟ وفي املوجة الثانية سيتكبد «املساملون» ثمنا أبهظ، بدأت مالمحه في السودان، ألسباب عدة، أبسطها أن إسرائيل فقدت صبرها في «عصر السرعة»، ولم تعد تقبل بإطالة «أمد السالم» كما كانت تفعل، وهي فلسفة الحرب ذاتها التي تعتمدها، القائمة على «الحرب الخاطفة»، فهي تريد «سالما خاطفا»، وشامال، ومن يتلكأ أو يتردد فسيدفع الثمن، وعليه أن يعلم، جيدًا، أن ال ثمار لهذا السالم، بل كل ما سيحصل عليه الطرف «املسالم» هو السماح له بالبقاء على عرش السلطة فقط. وعليه بعد ذلك أن يتدبر أمر شعبه واقتصاده، وفي أحسن األحوال، يمكن أن تساعده إسرائيل باستثمار مصنع «مالبس» في بالده، كما فعلت مع األردن، مقابل فتح أسواقه مشرعة أمام بضائعها وسلعها، وربـمـا قواعدها العسكرية إن شـــاءت، ألن معايير املـوجـة الثانية للسالم اختلفت عن سابقتها، إذ لم تعد تكتفي إسرائيل بالسفارات واألعالم واملصافحات، بل املطلوب هو األحــالف، والقواعد، ومعاهدات الدفاع املشترك، وربما أبعد من ذلك أيضا. هل كانت الشماتة في محلها، إذًا، في إخوة يتحاربون في ما بينهم ويمدون أيديهم ملصافحة إسـرائـيـل؟ وقبل ذلـــك، هـل يكون عـنـوان الــروايــ­ة النقيضة «وداعـــا للسالم» مالئما لوصف عرب لم يودعوا السالح إال على «الجبهة الغربية» مع إسرائيل التي ظلت «هادئة» تماما، باستثناء حروب تلقوها أكثر مما أعلنوها، وفروا منها أكثر مما خاضوها، وسلموا أراضيها أكثر مما دافعوا عنها، كما حدث في الجوالن؟ كــل شــيء جـائـز، غير أن مـا يعنينا هنا أن نـكـرر ثانية أن الـحـرب أجـمـل عندما تكون مع عدو مغتصب محتل يفرض شروط السالم كمن يفرضها على مهزوم، وحينها سيكون مسوغا لنا أن نكتب روايتنا نحن الذين ال نرضخ لشروط العار تلك، وعنوانها: «وداعا للسالم».

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar