Al Araby Al Jadeed

سراب االنتخابات الليبية

- أبو القاسم علي الربو

ال يــــزال الــحــلــ­م بـــتـــدا­ول الـسـلـطـة السلمي وإجـــــــ­راء االنـــتــ­ـخـــابـــ­ات الـــحـــر­ة (حـــتـــى وإن لـم تكن نزيهة) بعيدًا عـن الـواقـع الليبي، والـــذي يـبـدو أنــه ال يـــزال مستعصيًا على املــعــال­ــجــة فـــي املـــــدى املـــنـــ­ظـــور، واقـــــع بــات أغــلــب الـلـيـبـي­ـن يـــدركـــ­ون حقيقته الــيــوم، كـمـا أدركـــــو­ا أن الــحــديـ­ـث عـــن ذلـــك الـحـلـم، وعــن قــرب تحقيقه، نوعًا مـن املبالغة في التفاؤل ليس له ما يبرره، إذ ال يزال بلوغ هــــذه االنـــتــ­ـخـــابـــ­ات تـــرفـــًا، يــــرى مــتــصــد­رو املشهد أنـه لم يحن وقته بعد. من ناحية أخــــرى، يـــرى الكثير مــن الليبين أن هـذه االنتخابات، حتى وإن كتب لها اإلنجاز، وذلك أمر بعيد االحتمال، فإنها بالتأكيد لـن تكون البلسم الشافي ألوضـــاع البالد الحالية، بل على العكس من ذلك، فقد تجر البالد إلى حرب أخرى لن يستطيع أحد أن يتنبأ بنهايتها أو بمآالتها، رؤية ليست متشائمة بقدر استنادها إلى ما حدث في انتخابات مجلس الـنـواب التي جــرت في العام ،2014 حيث لم ترفض نتائجها فقط، بل قادت إلى حرب ال تزال ليبيا تعاني من آثـــارهــ­ـا االجـتـمـا­عـيـة واالقــتــ­صــاديــة حتى هـــذا الــيــوم. وعـلـى الــرغــم مــن كـــل املــبــرر­ات الــواهــي­ــة وغــيــر املـقـنـعـ­ة، الــتــي سـاقـهـا كـل طــــرف فـــي تــلــك املـــرحــ­ـلـــة، إال أن الـحـقـيـق­ـة الوحيدة التي يعرفها الليبيون جميعًا، وازدادوا يقينًا من صحتها في السنوات األخيرة، أن تلك الحرب لم تكن إال لخسارة طـــرف مــن األطـــــر­اف فــي تـلـك االنـتـخـا­بـات، ويــــقـــ­ـيــــنـــ­ـه بـــــأنــ­ـــه ســــيــــ­خــــرج مــــــن الـــلـــع­ـــبـــة، فــوجــد فــي الــحــرب طـريـقـة لـخـلـط األوراق وإعـــــاد­ة األمـــــو­ر إلـــى املـــربــ­ـع األول. وعـلـى هـــذا األســـــا­س، فــالــخــ­وف مـــن االنـتـخـا­بـات الــقــادم­ــة (إن حــدثــت) لــه مــا يـــبـــرر­ه، فبعد أكـثـر مـن عشر سنو ات على االنتخابات الـوحـيـدة الـتـي أجـريـت بعد انتهاء حقبة القذافي، ليست هناك ظـروف تختلف عن تلك الظروف، التي قد تجعل االنتخابات مقبولة من الجميع أو مفروضة عليهم، بل إن الظروف الحالية أصبحت أكثر تعقيدًا عما كانت عليه، حيث ازدادت حدة التدخل الخارجي وتسارعت وتنوعت آلياته إلى الدرجة التي أصبحت الـدول املتدخلة في الـــشـــأ­ن الــلــيــ­بــي أكـــثـــر صـــراحـــ­ة ووضـــوحــ­ـًا في دعم وكالئها في الداخل، الذين تعول عليهم في رعاية مصالحها وتمثيلها في كــل االجتماعات التي تجرى بـالـداخـل أو الــخــارج، ولــم تعد حـكـومـات هــذه البلدان تخفي ذلك، أو تنكره كعادتها فيما مضى. وفـي نفس السياق، كــادت االنتخابات أن تـنـجـز فــي الــعــام ،2021 حـيـث دعـــت إليها معظم الـدول، وأفــردت األمم املتحدة حيزًا مـقـدرًا لها، ووصــل الحرص على ضـرورة إقـامـتـهـ­ا إلـــى الـــدرجــ­ـة الــتــي هــــددت الـــدول الـكـبـرى، وعـلـى رأسـهـا أمـيـركـا، بعقوبات فـــوريـــ­ة ســـتـــطـ­ــاول كــــل مـــن يــعــرقــ­لــهــا، ولــم يكتف السفير األميركي في ليبيا ريتشارد نورالند بالتأكيد على إنجازها، بل أشار في أكثر من لقاء إلـى أن هـذه االنتخابات تحظى بمتابعة اإلدارة األميركية بشكل مـــبـــاش­ـــر، وأن إجـــــراء­هـــــا لــــم يـــعـــد خـــيـــارًا ملــتــصــ­دري املــشــهـ­ـد، بـمـا فـــي ذلـــك مجلسا الـــنـــو­اب والــــدول­ــــة، بـــل أصــبــح أمــــرًا حتميًا سـتـرعـاه أمـيـركـا بـمـسـانـد­ة معظم الـــدول. وعـــلـــى نـــفـــس الــــوتــ­ــيــــرة، ســــارعــ­ــت الـكـثـيـر مـــن الـــــدول اإلقـلـيـم­ـيـة وغــيــرهـ­ـا للمطالبة

بضرورة إجراء هذه االنتخابات، ال سيما بعد أن أعلنت أميركا حرصها ودعمها... وتهديدها أيضًا. لم تختلف األجواء الداخلية كثيرًا، وعلى نفس املنوال، أعلن الجميع عن رغبته في إجــــراء االنــتــخ­ــابــات فــي مــوعــدهـ­ـا املــحــدد، بل سارع الكثير من املسؤولن إلى القول إنـهـم بالفعل ينتظرون هــذا االستحقاق، ألنـــه بـالـفـعـل سـيـريـحـه­ـم مـــن حــمــل أمــانــة املسؤولية التي تحملوها في وقت صعب، وإن استمرارهم في البقاء على كراسيهم لسنوات لم يكن حبًا فيها، بل كان دافعه الـخـوف على مصير الـبـالد والــفــرا­غ الـذي قد ينتج من تخليهم عن مناصبهم، وهم يعرفون، كما يعرف غيرهم، أن الذهاب إلى االنتخابات والقبول بنتائجها سيكونان نهاية لفترة طويلة استأثروا فيها بأموال الدولة لتنمية ثرواتهم الخاصة، وصرفوا املــلــيـ­ـارات مــن دون أن يـكـون لـذلـك أي أثـر يــمــكــن أن يـــالحـــ­ظـــه املــــواط­ــــن أو يـنـعـكـس على حياته بشكل إيـجـابـي، وســط فساد اســــتـــ­ـشــــرى إلــــــى الـــــدرج­ـــــة الــــتـــ­ـي يــــكــــ­اد أن يـصـبـح الـــقـــا­عـــدة، انــتــخــ­ابــات قـــد ال تنهي هذه الحياة املخملية التي يعيشها هؤالء وأسرهم ومن يسبحون بحمدهم، بل ربما تقودهم إلـى خلف القضبان، بتهم أقلها الفساد والرشوة واملحسوبية واملساهمة في ارتهان القرار السياسي واالقتصادي لــــدول أجـنـبـيـة مـقـابـل الــبــقــ­اء فــي السلطة وإبــعــاد شـبـح االنـتـخـا­بـات بشتى الـطـرق والــوســا­ئــل. حــــدد مـوعـد ذلـــك االستحقاق لـيـكـون بـمـنـاسـب­ـة ذكــــرى اســتــقــ­الل ليبيا، وبالرغم من معرفة معظم الليبين بمدى تشبث مـن ساقتهم األقـــدار ليتولوا زمـام أمـــورهــ­ـم بــالــســ­لــطــة، ويـقـيـنـه­ـم وإدراكـــه­ـــم أن حـــديـــث­ـــهـــم عــــن االنـــتــ­ـخـــابـــ­ات ال يــعــدو كـــونـــه دغـــدغـــ­ة عـــواطـــ­ف وعـــزفـــًا عــلــى وتــر يـسـر الـسـامـعـ­ن، إال أن تـغـريـدات السفير األميركي وإدراجــــ­ات السفيرة اإلنكليزية وتـأكـيـدا­ت الدبلوماسي­ة التركية، جعلت الـــكـــث­ـــيـــرون يـــتـــفـ­ــاء لـــون بــإمــكــ­انــيــة إجـــــراء هــــذه االنـــتــ­ـخـــابـــ­ات. كــمــا وزعـــــــ­ت بــطــاقــ­ات االنتخابات، وخصصت املالين من أجل تهيئة الظروف اللوجستية حسب ما جاء في تصريحات اللجنة العليا لالنتخابات، الــــتـــ­ـي أكـــــــد­ت أنــــهـــ­ـا عـــلـــى أتـــــــم االســـتــ­ـعـــداد والـــجـــ­هـــوزيـــ­ة لــتــنــف­ــيــذ هـــــذا االســـتــ­ـحـــقـــا­ق. وبـالـفـعـ­ل، بــاشــرت الـلـجـان املختلفة التي انتشرت على مختلف املناطق الجغرافية فـي استقبال أوراق املترشحن الــذي فاق عددهم 90 مترشحا، ونقلت تلك املراسم عــلــى مـخـتـلـف اإلذاعــــ­ـــات املــحــلـ­ـيــة، وشـعـر الليبيون حينها بجرعة أمل قد تنسيهم ما عانوه لسنوات. فجأة، خفتت األصــوات إلى حد االختفاء، وتــــــرا­جــــــع الـــجـــم­ـــيـــع عـــــن حــــــــد­ة املــــطــ­ــالــــب، وتـــالشــ­ـت تــلــك الـــتـــه­ـــديـــدا­ت، وانــتــهـ­ـت تلك املوجة القصيرة من التفاؤل واصطدمت اآلمــــال فــي انـعـقـاد االنــتــخ­ــابــات بـمـبـررات واهية. فمن أعلن جاهزيته التامة لعقدها، عـــاد ليعلن وجــــود قـــوة قــاهــرة تعرقلها، ومــــــن تـــعـــهـ­ــد بــــعــــ­دم الــــتـــ­ـرشــــح بـــاعـــت­ـــبـــاره الراعي لها، عاد ليعلن أن تعهده أخالقي ال قـانـونـي، واألخـــال­ق غير ملزمة (حسب تـــعـــبـ­ــيـــره)، ونـــســـي أو تـــنـــاس­ـــى أن الـــــدور الوحيد الذي اضطلع ووعد القيام به هو ترؤس حكومة موحدة تمهد لالنتخابات. أما املطلوب للمحاكم الوطنية والدولية، فـــقـــد دخــــــل إلــــــى لـــجـــنـ­ــة االنــــتـ­ـــخــــاب­ــــات فـي

ازدادت حدة التدخل الخارجي في الشأن الليبي وتسارعت وتنّوعت آلياته إلى الدرجة التي أصبحت الدول المتدخلة تعلن ذلك صراحة

الجنوب، ليعلن رسميًا عن ترشحه وسط حـراسـات مـشـددة ال تــزال لغزًا لم تستطع جـهـابـذة األمـــن الـداخـلـي والــخــار­جــي حله حتى اآلن، ومن نص القانون على ضرورة تـنـحـيـه واســتــقـ­ـالــتــه مـــن مـنـصـبـه إن أراد الـــتـــر­شـــح، فــقــد تـــقـــدم بـاسـتـقـا­لـة صــوريــة، وكلف أحد أقرب وأخلص معاونيه تولي مـــهـــام­ـــه وارتــــــ­ـــداء نــيــاشــ­يــنــه، لـــيـــكـ­ــون خـط رجــعــتــ­ه لــتــولــ­ي املــنــصـ­ـب ســـهـــال وسـلـسـًا، حــيــث إنــــه ال يـــريـــد أن يــضــحــي بمنصبه من أجـل انتخابات، يعلم أنـه لن يكتب له الـنـجـاح فيها. أمــا مبعوث األمـــم املتحدة الـسـلـوفـ­اكـي بـــان كــوبــيــ­ش، الــــذي كـــان من املقرر أن يرعى هذه االنتخابات، ويسهل إجـــراء هـــا، فـقـد آثـــر االسـتـقـا­لـة قـبـل موعد االنتخابات املزعوم في انسحاب مفاجئ من امللف الليبي. النتيجة أن متصدري املشهد والسياسين في الـداخـل، والكثير من الــدول الخارجية املستفيدة من استمرار الوضع على ما هو عليه، أصـــروا جميعًا على حجب الضوء الــذي كــان يــراه الليبيون يلوح فـي نهاية الـنـفـق املـظـلـم الــــذي أجـــبـــر­وا عـلـى العيش فيه سنوات طويلة، وحرموا من الوصول إلـــى انـتـخـابـ­ات عــقــدوا عليها آمـالـهـم في إعـــــــا­دة ضـــبـــط االنــــفـ­ـــالت األمــــنـ­ـــي واألزمــــ­ــة الــســيــ­اســيــة واالقــــت­ــــصــــا­ديــــة، ووضــــــع حـــد لتقسيم السلطات التنفيذية والتشريعية. أما األمم املتحدة، فأرسلت مندوبًا جديدًا، قــالــت (كــمــا قــالــت ســابــقــ­ا) إنــــه سيساهم فـــي مــســاعــ­دة الـلـيـبـي­ـن فـــي الـــوصـــ­ول إلـى االنـــتــ­ـخـــابـــ­ات. وصــــل املـــبـــ­عـــوث، وبـــــدأ من حيث ابتدأ املندوب السابق!، وحتى اآلن، ال يـــزال هـــذا املـبـعـوث فــي املـرحـلـة األولـــى، وهي مرحلة التنقل بطائرته الخاصة بن املـدن والقرى الليبية والتقاط الصور مع مجموعات، تارة يشار إليها بمجموعات الـــحـــر­اك املـــدنــ­ـي، وتــــــار­ة أخــــرى بـالـشـيـو­خ والـفـاعـل­ـيـات االجـتـمـا­عـيـة، وتــــارات أخــرى بـــالـــس­ـــيـــاسـ­ــيـــن الــــفـــ­ـاعــــلــ­ــن مــــــن مــخــتــل­ــف األطــــيـ­ـــاف! وبــعــد كــــل زيــــــار­ة، يـــكـــرر نفس الـــتـــص­ـــريـــحـ­ــات، الـــتـــي اعـــتـــا­دهـــا الــجــمــ­يــع، بــــضــــ­رورة إجــــــرا­ء االنـــتــ­ـخـــابـــ­ات فـــي أقـــرب فــرصــة، فــي حــن ال يـعـرف الليبيون متى سيسمح لهذه الفرصة أن تكون سانحة، أو أن االنتخابات، التي انتظروها طويال، أصبحت أثرا بعد عن؟!

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar