سراب االنتخابات الليبية
ال يــــزال الــحــلــم بـــتـــداول الـسـلـطـة السلمي وإجـــــــراء االنـــتـــخـــابـــات الـــحـــرة (حـــتـــى وإن لـم تكن نزيهة) بعيدًا عـن الـواقـع الليبي، والـــذي يـبـدو أنــه ال يـــزال مستعصيًا على املــعــالــجــة فـــي املـــــدى املـــنـــظـــور، واقـــــع بــات أغــلــب الـلـيـبـيـن يـــدركـــون حقيقته الــيــوم، كـمـا أدركـــــوا أن الــحــديــث عـــن ذلـــك الـحـلـم، وعــن قــرب تحقيقه، نوعًا مـن املبالغة في التفاؤل ليس له ما يبرره، إذ ال يزال بلوغ هــــذه االنـــتـــخـــابـــات تـــرفـــًا، يــــرى مــتــصــدرو املشهد أنـه لم يحن وقته بعد. من ناحية أخــــرى، يـــرى الكثير مــن الليبين أن هـذه االنتخابات، حتى وإن كتب لها اإلنجاز، وذلك أمر بعيد االحتمال، فإنها بالتأكيد لـن تكون البلسم الشافي ألوضـــاع البالد الحالية، بل على العكس من ذلك، فقد تجر البالد إلى حرب أخرى لن يستطيع أحد أن يتنبأ بنهايتها أو بمآالتها، رؤية ليست متشائمة بقدر استنادها إلى ما حدث في انتخابات مجلس الـنـواب التي جــرت في العام ،2014 حيث لم ترفض نتائجها فقط، بل قادت إلى حرب ال تزال ليبيا تعاني من آثـــارهـــا االجـتـمـاعـيـة واالقــتــصــاديــة حتى هـــذا الــيــوم. وعـلـى الــرغــم مــن كـــل املــبــررات الــواهــيــة وغــيــر املـقـنـعـة، الــتــي سـاقـهـا كـل طــــرف فـــي تــلــك املـــرحـــلـــة، إال أن الـحـقـيـقـة الوحيدة التي يعرفها الليبيون جميعًا، وازدادوا يقينًا من صحتها في السنوات األخيرة، أن تلك الحرب لم تكن إال لخسارة طـــرف مــن األطـــــراف فــي تـلـك االنـتـخـابـات، ويــــقــــيــــنــــه بـــــأنـــــه ســــيــــخــــرج مــــــن الـــلـــعـــبـــة، فــوجــد فــي الــحــرب طـريـقـة لـخـلـط األوراق وإعـــــادة األمـــــور إلـــى املـــربـــع األول. وعـلـى هـــذا األســـــاس، فــالــخــوف مـــن االنـتـخـابـات الــقــادمــة (إن حــدثــت) لــه مــا يـــبـــرره، فبعد أكـثـر مـن عشر سنو ات على االنتخابات الـوحـيـدة الـتـي أجـريـت بعد انتهاء حقبة القذافي، ليست هناك ظـروف تختلف عن تلك الظروف، التي قد تجعل االنتخابات مقبولة من الجميع أو مفروضة عليهم، بل إن الظروف الحالية أصبحت أكثر تعقيدًا عما كانت عليه، حيث ازدادت حدة التدخل الخارجي وتسارعت وتنوعت آلياته إلى الدرجة التي أصبحت الـدول املتدخلة في الـــشـــأن الــلــيــبــي أكـــثـــر صـــراحـــة ووضـــوحـــًا في دعم وكالئها في الداخل، الذين تعول عليهم في رعاية مصالحها وتمثيلها في كــل االجتماعات التي تجرى بـالـداخـل أو الــخــارج، ولــم تعد حـكـومـات هــذه البلدان تخفي ذلك، أو تنكره كعادتها فيما مضى. وفـي نفس السياق، كــادت االنتخابات أن تـنـجـز فــي الــعــام ،2021 حـيـث دعـــت إليها معظم الـدول، وأفــردت األمم املتحدة حيزًا مـقـدرًا لها، ووصــل الحرص على ضـرورة إقـامـتـهـا إلـــى الـــدرجـــة الــتــي هــــددت الـــدول الـكـبـرى، وعـلـى رأسـهـا أمـيـركـا، بعقوبات فـــوريـــة ســـتـــطـــاول كــــل مـــن يــعــرقــلــهــا، ولــم يكتف السفير األميركي في ليبيا ريتشارد نورالند بالتأكيد على إنجازها، بل أشار في أكثر من لقاء إلـى أن هـذه االنتخابات تحظى بمتابعة اإلدارة األميركية بشكل مـــبـــاشـــر، وأن إجـــــراءهـــــا لــــم يـــعـــد خـــيـــارًا ملــتــصــدري املــشــهــد، بـمـا فـــي ذلـــك مجلسا الـــنـــواب والــــدولــــة، بـــل أصــبــح أمــــرًا حتميًا سـتـرعـاه أمـيـركـا بـمـسـانـدة معظم الـــدول. وعـــلـــى نـــفـــس الــــوتــــيــــرة، ســــارعــــت الـكـثـيـر مـــن الـــــدول اإلقـلـيـمـيـة وغــيــرهــا للمطالبة
بضرورة إجراء هذه االنتخابات، ال سيما بعد أن أعلنت أميركا حرصها ودعمها... وتهديدها أيضًا. لم تختلف األجواء الداخلية كثيرًا، وعلى نفس املنوال، أعلن الجميع عن رغبته في إجــــراء االنــتــخــابــات فــي مــوعــدهــا املــحــدد، بل سارع الكثير من املسؤولن إلى القول إنـهـم بالفعل ينتظرون هــذا االستحقاق، ألنـــه بـالـفـعـل سـيـريـحـهـم مـــن حــمــل أمــانــة املسؤولية التي تحملوها في وقت صعب، وإن استمرارهم في البقاء على كراسيهم لسنوات لم يكن حبًا فيها، بل كان دافعه الـخـوف على مصير الـبـالد والــفــراغ الـذي قد ينتج من تخليهم عن مناصبهم، وهم يعرفون، كما يعرف غيرهم، أن الذهاب إلى االنتخابات والقبول بنتائجها سيكونان نهاية لفترة طويلة استأثروا فيها بأموال الدولة لتنمية ثرواتهم الخاصة، وصرفوا املــلــيــارات مــن دون أن يـكـون لـذلـك أي أثـر يــمــكــن أن يـــالحـــظـــه املــــواطــــن أو يـنـعـكـس على حياته بشكل إيـجـابـي، وســط فساد اســــتــــشــــرى إلــــــى الـــــدرجـــــة الــــتــــي يــــكــــاد أن يـصـبـح الـــقـــاعـــدة، انــتــخــابــات قـــد ال تنهي هذه الحياة املخملية التي يعيشها هؤالء وأسرهم ومن يسبحون بحمدهم، بل ربما تقودهم إلـى خلف القضبان، بتهم أقلها الفساد والرشوة واملحسوبية واملساهمة في ارتهان القرار السياسي واالقتصادي لــــدول أجـنـبـيـة مـقـابـل الــبــقــاء فــي السلطة وإبــعــاد شـبـح االنـتـخـابـات بشتى الـطـرق والــوســائــل. حــــدد مـوعـد ذلـــك االستحقاق لـيـكـون بـمـنـاسـبـة ذكــــرى اســتــقــالل ليبيا، وبالرغم من معرفة معظم الليبين بمدى تشبث مـن ساقتهم األقـــدار ليتولوا زمـام أمـــورهـــم بــالــســلــطــة، ويـقـيـنـهـم وإدراكـــهـــم أن حـــديـــثـــهـــم عــــن االنـــتـــخـــابـــات ال يــعــدو كـــونـــه دغـــدغـــة عـــواطـــف وعـــزفـــًا عــلــى وتــر يـسـر الـسـامـعـن، إال أن تـغـريـدات السفير األميركي وإدراجــــات السفيرة اإلنكليزية وتـأكـيـدات الدبلوماسية التركية، جعلت الـــكـــثـــيـــرون يـــتـــفـــاء لـــون بــإمــكــانــيــة إجـــــراء هــــذه االنـــتـــخـــابـــات. كــمــا وزعـــــــت بــطــاقــات االنتخابات، وخصصت املالين من أجل تهيئة الظروف اللوجستية حسب ما جاء في تصريحات اللجنة العليا لالنتخابات، الــــتــــي أكـــــــدت أنــــهــــا عـــلـــى أتـــــــم االســـتـــعـــداد والـــجـــهـــوزيـــة لــتــنــفــيــذ هـــــذا االســـتـــحـــقـــاق. وبـالـفـعـل، بــاشــرت الـلـجـان املختلفة التي انتشرت على مختلف املناطق الجغرافية فـي استقبال أوراق املترشحن الــذي فاق عددهم 90 مترشحا، ونقلت تلك املراسم عــلــى مـخـتـلـف اإلذاعـــــــات املــحــلــيــة، وشـعـر الليبيون حينها بجرعة أمل قد تنسيهم ما عانوه لسنوات. فجأة، خفتت األصــوات إلى حد االختفاء، وتــــــراجــــــع الـــجـــمـــيـــع عـــــن حــــــــدة املــــطــــالــــب، وتـــالشـــت تــلــك الـــتـــهـــديـــدات، وانــتــهــت تلك املوجة القصيرة من التفاؤل واصطدمت اآلمــــال فــي انـعـقـاد االنــتــخــابــات بـمـبـررات واهية. فمن أعلن جاهزيته التامة لعقدها، عـــاد ليعلن وجــــود قـــوة قــاهــرة تعرقلها، ومــــــن تـــعـــهـــد بــــعــــدم الــــتــــرشــــح بـــاعـــتـــبـــاره الراعي لها، عاد ليعلن أن تعهده أخالقي ال قـانـونـي، واألخـــالق غير ملزمة (حسب تـــعـــبـــيـــره)، ونـــســـي أو تـــنـــاســـى أن الـــــدور الوحيد الذي اضطلع ووعد القيام به هو ترؤس حكومة موحدة تمهد لالنتخابات. أما املطلوب للمحاكم الوطنية والدولية، فـــقـــد دخــــــل إلــــــى لـــجـــنـــة االنــــتــــخــــابــــات فـي
ازدادت حدة التدخل الخارجي في الشأن الليبي وتسارعت وتنّوعت آلياته إلى الدرجة التي أصبحت الدول المتدخلة تعلن ذلك صراحة
الجنوب، ليعلن رسميًا عن ترشحه وسط حـراسـات مـشـددة ال تــزال لغزًا لم تستطع جـهـابـذة األمـــن الـداخـلـي والــخــارجــي حله حتى اآلن، ومن نص القانون على ضرورة تـنـحـيـه واســتــقــالــتــه مـــن مـنـصـبـه إن أراد الـــتـــرشـــح، فــقــد تـــقـــدم بـاسـتـقـالـة صــوريــة، وكلف أحد أقرب وأخلص معاونيه تولي مـــهـــامـــه وارتـــــــــداء نــيــاشــيــنــه، لـــيـــكـــون خـط رجــعــتــه لــتــولــي املــنــصــب ســـهـــال وسـلـسـًا، حــيــث إنــــه ال يـــريـــد أن يــضــحــي بمنصبه من أجـل انتخابات، يعلم أنـه لن يكتب له الـنـجـاح فيها. أمــا مبعوث األمـــم املتحدة الـسـلـوفـاكـي بـــان كــوبــيــش، الــــذي كـــان من املقرر أن يرعى هذه االنتخابات، ويسهل إجـــراء هـــا، فـقـد آثـــر االسـتـقـالـة قـبـل موعد االنتخابات املزعوم في انسحاب مفاجئ من امللف الليبي. النتيجة أن متصدري املشهد والسياسين في الـداخـل، والكثير من الــدول الخارجية املستفيدة من استمرار الوضع على ما هو عليه، أصـــروا جميعًا على حجب الضوء الــذي كــان يــراه الليبيون يلوح فـي نهاية الـنـفـق املـظـلـم الــــذي أجـــبـــروا عـلـى العيش فيه سنوات طويلة، وحرموا من الوصول إلـــى انـتـخـابـات عــقــدوا عليها آمـالـهـم في إعـــــــادة ضـــبـــط االنــــفــــالت األمــــنــــي واألزمــــــة الــســيــاســيــة واالقــــتــــصــــاديــــة، ووضــــــع حـــد لتقسيم السلطات التنفيذية والتشريعية. أما األمم املتحدة، فأرسلت مندوبًا جديدًا، قــالــت (كــمــا قــالــت ســابــقــا) إنــــه سيساهم فـــي مــســاعــدة الـلـيـبـيـن فـــي الـــوصـــول إلـى االنـــتـــخـــابـــات. وصــــل املـــبـــعـــوث، وبـــــدأ من حيث ابتدأ املندوب السابق!، وحتى اآلن، ال يـــزال هـــذا املـبـعـوث فــي املـرحـلـة األولـــى، وهي مرحلة التنقل بطائرته الخاصة بن املـدن والقرى الليبية والتقاط الصور مع مجموعات، تارة يشار إليها بمجموعات الـــحـــراك املـــدنـــي، وتــــــارة أخــــرى بـالـشـيـوخ والـفـاعـلـيـات االجـتـمـاعـيـة، وتــــارات أخــرى بـــالـــســـيـــاســـيـــن الــــفــــاعــــلــــن مــــــن مــخــتــلــف األطــــيــــاف! وبــعــد كــــل زيــــــارة، يـــكـــرر نفس الـــتـــصـــريـــحـــات، الـــتـــي اعـــتـــادهـــا الــجــمــيــع، بــــضــــرورة إجــــــراء االنـــتـــخـــابـــات فـــي أقـــرب فــرصــة، فــي حــن ال يـعـرف الليبيون متى سيسمح لهذه الفرصة أن تكون سانحة، أو أن االنتخابات، التي انتظروها طويال، أصبحت أثرا بعد عن؟!