في ذكرى النكبة... فلسطين تقود
فـــــي الــــــذكــــــرى الــــخــــامــــســــة والــــســــبــــعــــن لـــهـــا، تستمر نـكـبـة فلسطن بــاســتــمــرار املــشــروع االســتــيــطــانــي الـصـهـيـونـي الــعــنــصــري، لكن صــــمــــود الـــشـــعـــب الــفــلــســطــيــنــي ومـــقـــاومـــتـــه يــفــرضــان اســتــحــقــاقــات عــلــى الــجــمــيــع. فمن إقــــــرار األمـــــم املــتــحــدة بــجــريــمــة الــنــكــبــة، إلــى إعـــان جــــدة، حـتـى لــو كـــان لفظيًا، بمركزية الـــقـــضـــيـــة الــفــلــســطــيــنــيــة، يـــعـــنـــي أن ال أحـــد يستطيع تجاهل اسـتـمـرار مـقـاومـة الشعب الفلسطيني، بمختلف أشـكـالـهـا، وإصـــراره على نيل حقوقه الوطنية والتاريخية. ال تـرسـم هــذه السطور صـــورة ورديـــة، وهـذا لــيــس تـــهـــربـــًا مـــن واقـــــع اســـتـــمـــرار الـتـطـبـيـع وخـــطـــره عــلــى الـقـضـيـة الـفـلـسـطـيـنـيـة وعـلـى األمـن القومي العربي، لكنها دعـوة إلى عدم االسـتـسـام، بـل ولـاعـتـراف بكل فعل مقاوم وكــل إصـــرار على الـصـمـود، وبـــأن الترسانة العسكرية الصهيونية املـمـولـة أمـيـركـيـًا لم ولن تكون العامل الحاسم في تقرير مصير الشعب الفلسطيني ونضاله من أجل التحرر. تبقى النكبة ذكرى وواقعًا أليمًا، وتذكيرًا بفقدان وطـــن، الجـــئ يحتفظ بمفتاح دار، لـوعـة على عقود من االنتظار، ففلسطن قريبة من حيث املسافة، بعيدة عـن الـتـوق للدفن فـي أحضان ترابها. هي ذكرى وواقع من يعيش في سخنن والناصرة والنقب، ويقاوم األسرلة وعزله عن بقية الشعب الفلسطيني. هي ذكرى وواقع في رام الله ونابلس، فالتمدد االستيطاني تجسيد عملي وموجع للنكبة املستمرة، وظهور أجيال تقاوم وتقض مضاجع حكام ورؤساء، أي لوال هذا الضجيج لكانت كلمة فلسطن قد حذفت
من قاموس القمم العربية، ومن األمم املتحدة والعالم بأجمع. تذكرنا فداحة النكبة بـأن رد العالم هزيل وضعيف، وأحيانًا يفتقر إلى أدنى مستويات التعاطف اإلنساني. ولكن من الخطأ التقليل مــن أهـمـيـة تـأثـيـر اســتــمــرار الـنـضـال، بالرغم من االنقسامات، وشراسة قمع الجيش الـصـهـيـونـي. فــاعــتــراف األمـــم املـتـحـدة بـذكـرى النكبة لن يحرر فلسطن، لكنه اعتراف ضمني بجريمة إقــامــة الـــدولـــة الصهيونية، ودخـــول الـنـكـبـة كمصطلح إلـــى اإلعـــــام الــغــربــي مهم، فحرب املصطلحات في أهمية املقاومة املسلحة وغير املسلحة، فجزء من هدف املقاومة تحدي الرواية الصهيونية وتكسيرها وتعريتها. عــربــيــًا، لـــن يـــحـــرر اإلقــــــرار بــمــركــزيــة القضية فـــلـــســـطـــن، ولـــــن يــــوقــــف عـــمـــلـــيـــات الــتــطــبــيــع، لكنه دلـيـل على أنــه ال يمكن تجاهل الشعب الفلسطيني، ودليل على أن األنظمة العربية، حـــتـــى املـــطـــبـــعـــة مـــنـــهـــا، تـــقـــر وتــــعــــتــــرف، ولـــو ضـــمـــنـــيـــًا، أنــــــه رغــــــم تــبــعــيــة مـــعـــظـــم األنـــظـــمـــة لواشنطن، فإن تمسكها اللفظي (بغض النظر عن صدقه من عدمه) بالقضية الفلسطينية مــصــدر قـــوة وحــمــايــة لــهــا، ال حـبـًا بالقضية والــــقــــدس، بـــل خـــوفـــًا مـــن عـــواقـــب اســتــشــراس الحكومة اإلسرائيلية وتطرفها، وإطاق عنان املستوطنن. لذا، هو تطور مهم، لكنه ال يرقى إلى خطورة التهديد اإلسرائيلي، فمعاهدات التطبيع نفسها تشكل خرقًا أمنيًا واقتصاديًا لن تفلت منه أي دولة عربية بإعان التزامها مركزية القضية الفلسطينية. عليه، الشعب الفلسطيني، وال أقــول السلطة الفلسطينية، أكـثـر حـريـة وتـــحـــررًا مــن سـطـوة الصهيونية األيديولوجية من معظم األنظمة العربية، ألنه استطاع تحويل نكبته املستمرة إلى مقاومة
مستمرة، ترفض الخنوع والخضوع والتخلي عــن حقوقه وتــراثــه وتـاريـخـه وروايـــتـــه، فيما انـجـّرت أنظمة، وحتى عـدد مـن املثقفن، إلى فــخ اسـتـعـمـار الــعــقــول، بمصطلحات تزييف الحقيقة، فحديث بعضهم عن «حـوار أديـان» و«سام وإخاء» بن أبناء النبي إبراهيم أكبر أكذوبة، تهدف إلى نسيان فلسطن وهويتها. الـقـضـيـة لـيـسـت ديــنــيــة، وإن كــانــت إسـرائـيـل ســـعـــت وتـــســـعـــى إلشــــعــــال حـــــرب ديـــنـــيـــة، مـع املسلمن بشكل خاص، مستثمرة في تيارات اإلسـامـوفـوبـيـا واالســتــشــراق االسـتـعـمـاري، وكـأن مشروعها الكولونيالي لم يقتلع أبناء فلسطن املسيحين ويــشــردهــم أو يقتلهم.. فـــي ذكـــــرى الــنــكــبــة، يـــخـــوض الـفـلـسـطـيـنـيـون أكثر من معركة من رفض فلسطينيي الداخل )1948( أسرلة هويتهم الثقافية والوطنية، بل بدورهم في تحقيق وحـدة ساحات املقاومة، فهبة الكرامة عام 2020 املكملة لهبة أيـار في حي الشيخ جراح في القدس وكل مدن الضفة الغربية وقراها، واملقاومة املسلحة في قطاع غــزة، فمفهوم وحــدة الـسـاحـات كــان محصلة وحـــــدة الـفـلـسـطـيـنـيـن فـــي هـــبـــة أيـــــار ،2020 فالشعب الفلسطيني يواجه خطرًا واحدًا هو خطر مـصـادرة أراضيهم وبيوتهم، أي خطر اقتاعهم من وطنهم. ال يـــخـــفـــف ذلـــــك مــــن مــصــيــبــة مــــجــــازر جـيـش االحتال في حوارة وعقبة جبر وغزة وجنن ونابلس، واعـتـراف األمـم املتحدة ليس كافيًا مقابل هذه التضحيات املهولة وال بيان قمة جـــــدة، كـلـهـا هــزيــلــة أمـــــام تــضــحــيــات الـشـعـب الــفــلــســطــيــنــي، لـــكـــن، ال بـــد أن نـــقـــر بـــأنـــه لــوال مقاومة الشعب الفلسطيني، ملا كان هناك إقرار بالنكبة، وهــو إنـجـاز كبير قاومته إسرائيل عقودًا، فكلمة «النكبة» لوصف ما تحتفي به إسرائيل على أنه عيد استقالها بحد ذاتها تشكيك وتقويض أخاقي للدولة الصهيونية، فـــا قــــــرارات مـجـلـس األمــــن وال دعــــم أمـيـركـي يستطيع منح إسـرائـيـل الشرعية األخاقية التي طاملا كـان يتحدث عنها رئيس الـــوزراء اإلسرائيلي ورئـيـس الكيان الـراحـل شمعون بيريز. نعود هنا إلى اتفاقيات التطبيع بن دول عربية وإسرائيل. فمن منظور إسرائيل، ال تـهـدف هـــذه االتـفـاقـيـات إلـــى فـــرض هيمنة الكيان الصهيوني على املنطقة فحسب، بل إلى إضفاء شرعية أخاقية على دولة دخيلة على املنطقة، فدمج إسرائيل في املنطقة الذي تسعى له أميركا ال يعني االستسام لقوتها العسكرية فحسب، بل يتطلب نسيان القضية الـفـلـسـطـيـنـيـة بـــل واســــم فـلـسـطـن. ومــــن هنا يجب أن ال نقلل من قيمة أي إقــرار عربي في زمــن التطبيع بمركزية القضة الفلسطينية،
بل واتخاذه حافزًا ومحرضًا ملقاومة التطبيع. ليس هناك أوهام حيال نتائج قمة جدة، ولم تكن واشـنـطـن بعيدة عــن أجـــواء الـقـمـة. وفي الـــوقـــت نــفــســه، الـــدفـــع األمـــيـــركـــي، والــضــغــوط املستمرة من أجل الوصول إلى اتفاقية تطبيع علنية بن إسرائيل والسعودية مؤشر ودليل على أن كــا مـن واشنطن وتــل أبيب تحمان على أي إحياء ملركزية قضية فلسطن في أي من القمم العربية، وتـؤكـدان أنـه غير مقبول، ولذا تتصاعد األصوات في أميركا وإسرائيل مطالبة إدارة الـرئـيـس جــو بــايــدن بالتخلي عـــن الــتــريــث فـــي جــعــل الــســعــوديــة تــدخــل في االتفاقيات اإلبراهيمية. واشنطن وتل أبيب ال تهتمان باألفعال فقط، بــل تـعـمـان عـلـى تغيير الـخـطـاب السياسي، أكان صادقًا أم كاذبًا، تجاه فلسطن، فالخطاب السياسي العلني، وفقًا للرؤية االستراتيجية األميركية، يساهم في تشكيل الوعي الجمعي الــعــربــي، ولــــذا، تـعـمـل أمــيــركــا عـلـى التخلص من طغيان مصطلحات العداء إلسرائيل، وإن كانت مشاهد التطرف العنصري الصهيوني في فلسطن تعرقل كل عملية تشويه للوعي العربي، وتدفع األنظمة إلى العودة، ولو شكليًا، إلى مواقف تقر بمركزية القضية الفلسطينية. قد ال يتفق معي بعضهم، لكن، بما أن التحرر هو نتيجة عملية نضالية تراكمية، فالشعب الفلسطيني فـــي ذكــــرى نـكـبـتـه، وبــالــرغــم من املعاناة الرهيبة من قساوة القتل اإلسرائيلي ألطـفـال غــزة ووحشيته، يقود العالم العربي بفعل الصمود والفعل املقاوم، وهذا يعني أن إسرائيل ستزداد وحشية وهمجية في عقاب شعب يرفض النسيان.
تذكرنا فداحة النكبة بأن رّد العالم هزيل وضعيف، وأحيانًا يفتقر إلى أدنى مستويات التعاطف اإلنساني