Al Araby Al Jadeed

مصرف لبنان: أزمة حوكمة ال أزمة حاكم

- علي نور الدين

في نهاية شهر يوليو/ تّموز املقبل، من املفترض أن تنتهي والية حاكم مصرف لبنان رياض سالمة السادسة، ليختتم بذلك ثالثني عامًا أمضاها على رأس املصرف املركزي. وفي الوقت الراهن يرجح البعض مغادرة الرجل منصبه قبل هذا املوعد، في ضوء املالحقات القضائية الجارية بحقه في العديد من الـدول األوروبية، بشبهات اإلثراء غير املشروع وتبييض األموال واختالس األموال العاّمة. مع اإلشـارة إلى أن سالمة مدعى عليه في لبنان أيضًا بالشبهات نفسها، وبموجب طلب من أعلى سلطة ادعاء عام في الجمهورية اللبنانية، أي النيابة العامة التمييزية. كما انضم حاكم مصرف لبنان، قبل أيـام إلى الئحة النشرة الحمراء لدى اإلنتربول الدولي، واألسبوع املاضي أصـدرت قاضية فرنسية مذكرة توقيف دولية بحق ريــاض سـالمـة. هـذا املشهد دفـع كثيرين للتفاؤل بإمكانية فتح صفحة جديدة على مستوى السياسة النقدية وإدارة القطاع املـصـرفـي بـمـجـّرد رحـيـل الــرجــل الـــذي ارتــبــط اسـمـه بالكثير من الفضائح املدوية، التي ال تنسجم مع السمعة الحسنة التي يفترض أن يتحلى بها املؤتمن على سالمة النقد الوطني والنظام املالي. وكان قد ارتبط اسم سالمة بالسياسات غير التقليدية التي اتبعها قبيل حـصـول االنـهـيـا­ر املــالــي، والــتــي ساهمت فــي تكبيد القطاع املصرفي كتلة هائلة مـن الخسائر على حساب أمـــوال املـودعـني، مقابل ضخ كمية من األرباح لصالح النخبة املالية النافذة في القطاع. بــاخــتــ­صــار، ثــّمــة مـــا يـكـفـي مـــن أســـبـــا­ب لــتــدفــ­ع عــمــوم الـلـبـنـا­نـيـني الستعجال رحيل هذا الشخص من منصبه، بل واالستبشار خيرًا بمن سيأتي بعد رحيله. ويكفي أن تصف تقارير البنك الدولي واألمني العام لألمم املتحدة ما حصل في مصرف لبنان باملخطط االحتيالي، أو «البونزي سكيم» كما يعرف باإلنكليزي­ة، حتى يدرك املرء أن شيئًا ما لن يستقيم في هذا املصرف املركزي قبل تغيير مهندس املخطط الـــذي أودى بــأمــوال املــودعــ­ني. وهـــذا التشخيص الــصــريـ­ـح ال يــقــلــل بـطـبـيـعـ­ة الـــحـــا­ل مــســؤولـ­ـيــة الـطـبـقـة الـسـيـاسـ­يـة وأصــحــاب الــقــرار فــي السلطة التنفيذية، املـسـؤولـ­ني بــدورهــم عن ارتكابات جسيمة ال تقل وطأة عن ارتكابات سالمة. ومـــع ذلــــك، ورغــــم أهــمــيــ­ة حــصــول تـغـيـيـر عـلـى مـسـتـوى حـاكـمـيـة املــصــرف املــركــز­ي، عبر تعيني شخصية جــديــدة فــي هــذا املـوقـع، من املهم القول إن هذه الخطوة لن تعالج وحدها مكامن الخلل في طريقة إدارة املصرف املـركـزي. إذ ثمة ثغرات تنظيمية وقانونية كبيرة داخل املصرف، ما سمح بتراكم كل هذه االرتكابات خالل السنوات املاضية، بعيدًا عن أي رقابة أو مساءلة. ومـن األكيد أن بقاء هذه الثغرات في املستقبل سيسمح بتكرار السيناريو نفسه، وربما بأشكال أسوأ، ولو تم تغيير الحاكم. أولى هذه الثغرات تتصل بمهمة الرقابة على ميزانية املصرف املـركـزي، وكيفية التصرف بأمواله، التي هي بحكم القانون أمــوال عامة. ومـن املعلوم أن هذه الصالحية مناطة بحكم القانون بمفوضية الحكومة لدى املصرف، الـتـي تملك صـالحـيـة وضـــع الـبـرنـام­ـج الـسـنـوي ملـراقـبـة حسابات املصرف، والتدقيق في ميزانيته، والتحقق من قانونية اجتماعات املجلس املـركـزي، الــذي يضع السياسة النقدية العامة. وكما بات واضحًا اليوم، لم تلعب هذه املفوضية خالل العقود املاضية أي دور على مستوى كشف املخالفات الجسيمة الحاصلة، إلى أن انفجرت األزمـة الراهنة، التي كشفت ما تراكم من ارتكابات وخسائر على امـتـداد سنوات طويلة سابقة. وبشكل عــام، ال يعلم اليوم معظم اللبنانيني بوجود هذه املفوضية، حتى بعد حصول االنهيار، الذي كان يفرض السؤال عن الجهة املسؤولة عن مراقبة ميزانية املصرف العامة ومالءته وطريقة تصرفه باملال العام. ولعل أكثر ما يعبر عن الــدور الشكلي والهامشي الــذي تلعبه هـذه املفوضية هو الشغور القائم منذ زمن في منصب املفوض، الذي يجب أن يدير املفوضية ويـشـرف على أعمالها الـرقـابـي­ـة. أمـــا املـفـارقـ­ة، فهي أن اللبنانيني يتساءلون اليوم عن مصير التدقيق الجنائي، الذي كان يفترض أن تجريه شركة استشارية أجنبية في ميزانيات املصرف املركزي، في حني أن هناك مفوضية مختصة بالتدقيق في أرقام املصرف على

ّّ نحو دوري. مع اإلشارة إلى أن هذه املفوضية تملك بحكم القانون حق االطالع على جميع سجالت املصرف ومستنداته وصناديقه وحساباته، كما يحق لها أن تطلب في أي وقت تشاء تزويدها بأي معلومات أو إحصاءات. وهذا تحديدًا ما كان سيسمح للمفوضية بلعب الدور نفسه املنتظر من قبل شركة التدقيق الجنائي، التي لم تنجز تقريرها حتى اآلن بفعل العراقيل السياسية املحلية. وإذا كانت السلطة السياسية مسؤولة عن الشغور الوظيفي القائم حاليًا فـي هــذه املـفـوضـي­ـة، وعــن االسـتـهـت­ـار الـتـاريـخ­ـي بــضــرورة رفدها باملوارد البشرية الالزمة، فالقوانني مسؤولة أيضًا عن محدودية الصالحيات املمنوحة للمفوضية. فرغم امتالك املفوضية صالحية االطالع على امليزانية العامة ومراقبة العمليات املالية، فإن القانون يحد من قــدرة املـفـوض على التدخل في الــقــرار­ات املتصلة بــإدارة املصرف.في الوقت نفسه، يعطي القانون اللبناني لجنة الرقابة على املصارف، في مصرف لبنان، صالحية السهر على حسن تطبيق املصارف للنظام املصرفي، ملنعها من التورط في املحظورات التي يمكن أن تشكل خطرًا على سالمة النظام املالي. بمعنى آخــر، كـان من املفترض أن تحرص هـذه اللجنة على منع املصارف اللبنانية من القيام باملجازفات التي جرت سابقًا، وأدت إلــى تبديد أمـــوال مودعيها. وكما صــار معروفًا الـيـوم، لـم تنجح اللجنة، وال املصرف املركزي بشكل عام، في لعب هذا الدور خالل السنوات املاضية.أسباب الفشل في أداء هذا الدور الرقابي مفهومة وواضحة. فالقانون اللبناني أعطى اللجنة استقاللية خاصة داخل مصرف لبنان، ملنع أي تضارب في املصالح بني دورهــا الرقابي البحت، والـدور التنظيمي لسائر أقسام املصرف املركزي، ومنها الحاكمية نفسها. لكن رغــم هــذه االسـتـقـا­للـيـة اإلداريـــ­ــة، لــم يعط القانون اللجنة صالحية التصرف إزاء أي مخالفة يمكن أن تجدها، إال عبر مراسلة حاكم املصرف املركزي. وبذلك، باتت مهام اللجنة الرقابية مقيدة بإرادة الحاكم، الذي يدير وينظم القطاع في الوقت نفسه، ما خلق تضاربًا في املصالح لدى الحاكم. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم عجز اللجنة عن التصرف إزاء العديد من املـجـازفـ­ات واملخالفات التي قامت بها املـصـارف اللبنانية خالل الــســنــ­وات املــاضــي­ــة. فجميع هـــذه املـخـالـف­ـات جـــرت بالتنسيق مع حاكمية املصرف املركزي، بل ومن خالل عمليات نظمها الحاكم نـفـسـه. وهــكــذا، لــم تمتلك حـاكـمـيـة مـصـرف لـبـنـان املصلحة في معاقبة املصارف على املمارسات الخطرة، حتى لو تم اكتشافها من قبل لجنة الرقابة على املصارف.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar