فيل يسخر من السلطة في تونس
أطـــلـــق ســـــراح الــشــبــاب الــثــاثــة الـــذيـــن كــان قـد جـرى إيقافهم واقتيادهم إلـى السجن، على خلفية نشرهم على مـواقـع التواصل االجــتــمــاعــي أغــنــيــة ســـاخـــرة، هـــي أنــشــودة أطفال يبدأ مطلعها بـ: «مرة في حينا زارنا فيل ظريف»، وقد رافقت بداية التسعينيات شارة مسلسل كرتوني شهير، تروي قصة الفيل بابار الـذي تيتم مبكرًا، بعد أن قتل أحـــــد الـــصـــيـــاديـــن أبـــــــاه. وتـــثـــيـــر األنــــشــــودة التي عشقها أطـفـال التسعينيات توجعًا، مـــن خـــال قــســوة الــحــيــاة ومــتــعــة التمسك بالفضيلة، وهي لب املعضلة. يحاكي الشبان الثاثة، وهم أبناء ذلك الجيل، لحن تلك األنشودة، لكنهم يعيدون صياغة الكلمات التي تفيد بـأن أحـد اآلبـــاء يبحث عن ابنه في مقرات األمن والحيرة تعصره. غنى الشبان تلك األغنية مـن دون مرافقة موسيقية، وهي دندنة عفوية، فيها استياء عميق من معاملة األمن الشباب، خصوصًا من ذوي شبهة في استهاك املخدرات. فــــــور نـــشـــر األغــــنــــيــــة، جــــــرى الـــقـــبـــض عـلـى الشبان الثاثة، واقتيادهم إلى مركز األمن، وإحالتهم الحقًا وبسرعة إلى القضاء الذي قرر، في مرحلة أولى، إيداعهم السجن. قدم فريق الدفاع طلب إطاق سراحهم من الهيئة القضائية، غير أنها رفضت، رغم أنهم طلبة يــجــتــازون امـتـحـانـات آخـــر الــســنــة. وخــال ســــاعــــات، انـــتـــشـــرت هـــاشـــاتـــاغـــات عـــديـــدة، حيت إبداع الخيال الواسع للشباب، وأبدت تعاطفًا منقطع النظير مـعـهـم، وقـــد رسـم هؤالء أشكاال عديدة من صور الفيل بابار، وهو وراء القضبان، حتى إن هناك من طالب، في أسلوب من التورية، بإطاق سراح الفيل بـابـار هــذا. وأنـجـز آخـــرون أفـامـًا كرتونية قصيرة للشبان الثاثة، وهم يغنون األغنية نفسها، قبل أن تنتشر أغــان أخــرى عديدة باللحن نفسه تطالب بإطاق سراحهم. لهذه الحادثة داللة بليغة، لعل أهمها أنها تـدحـض الـسـرديـة الـتـي مــا زال الـنـظـام في تونس يرددها، وهي إعادة األمل إلى الشباب. وقد بنى شرعيته على حجة أنه جاء تلبية لندائه وتحقيق طموحاته ومطالبه، فقد كـان الرئيس قيس سعيد يحرضهم حتى بعيد انتخابه على تقويض املنظومة، فها هو الشباب نفسه يعبر عن سخطه مما آلت إليه أموره مع سعيد. جـــــــرى تــــوقــــيــــف الــــشــــبــــاب بــــســــرعــــة فـــائـــقـــة وإيــداعــهــم السجن مــن دون احــتــرام أبسط اإلجــراءات، لعل من أهمها إباغ عائاتهم والسماح للمحامني بحضور استنطاقهم. وبــقــطــع الــنــظــر عـــن الــكــلــمــات والــســيــاقــات الـتـي دفـعـت بـهـم إلـــى نـشـر هـــذه األنــشــودة الساخرة، تثير الحادثة جملة من املسائل عـلـى غـايـة الــخــطــورة: املـقـاربـة األمـنـيـة في مسالة املــخــدرات الـتـي لـم تعد قـــادرة على محاصرة الظاهرة وعاجها، خصوصًا أن جمعيات عديدة طالبت بتنقيح القانون 52 الــذي يبدو لبعضهم أنـه زجــري، وال يفرق مليًا بني املتاجرة باملخدرات واستهاكها، ولـــــو ملـــــــرة واحـــــــــدة، خـــصـــوصـــًا أن شــبــابــًا عــديــديــن تـحـطـمـت أحــامــهــم وآمــالــهــم في الـدراسـة والعمل، نتيجة مغامرة عرضية. لـذلـك تـدعـو هـــذه الجمعيات إلـــى مراجعة تشريعية عميقة، ترافقها سلة من املبادرات النفسية واالجتماعية والعائلية من أجل إيقاف هذا النزيف املستمر. أمـــا املـسـألـة األخــــرى فـهـي الـسـلـوك األمـنـي الـــــذي بـــــدأ، مــنــذ 25 يــولــيــو/ تـــمـــوز ،2021 ينحرف عن قيم األمن الجمهوري، املحمول عليه حفظ األمـــن فــي كنف احــتــرام حقوق اإلنـسـان والـحـريـات العامة، فالتهمة التي كانت حقيقة جاهزة هي «اإلساء ة إلى الغير عبر شبكات التواصل»، حسب ما نص عليه املـــرســـوم عــــدد 54 الــــذي ســنــه ســعــيــد بعد االنقاب، وبموجبه اقتيد عشرات املدونني والـــصـــحـــافـــيـــني والـــســـيـــاســـيـــني، والــتــهــمــة الــثــانــيــة «نــســبــة أمــــور غــيــر صـحـيـحـة إلــى موظف عمومي». وهـذه التهم كلها توجه عـادة إلى شخص مـادي، وهو ما ال يتوفر في قضية الحال، فاألمن هيئة ال يمكن أن تتطابق مــع شـخـص بعينه، حـتـى يجرى تكييف الجريمتني املذكورتني، غير أن األمر يستشف منه أن األغنية توحي ضمنيًا أن املقصود أحـد األعـــوان الــذي يتلقى مبلغًا، هو رشوة، حتى يطلق سراح املظنون فيه. غـنـي عـن التذكير أن األمـــر يتعلق بأغنية
ال شيء في األفق يفيد بأن الشباب التونسي استفاد من االنقالب
تحاكي مسلسا تلفزيونيًا كرتونيًا هام به جيل كامل من األطفال. ال يـدرك االستبداد العائد فـي تونس أن األمــر يتعلق بدندنة غـنـاهـا شـبـاب بشكل عـفـوي كـمـا قـــال أحـد املوقوفني بعد إطـاق سراحه، وأن الخيال الــفــنــي املــنــفــلــت ال يــمــكــن أن يـــحـــاكـــم بـهـذا الـشـكـل، بعد أن التقى رئـيـس الجمهورية مــع رئـيـسـة الـحـكـومـة نــجــاء بــــودن، ونــدد بـ«التنكيل بالشباب» على حـد قـولـه. لقد أصلح الرئيس خطأ جسيمًا اقترفته أجهزة األمن، وسايرها في ذلك القضاء، وهو الذي غدا «وظيفة» كما يصر الرئيس على نعته، حتى يمكن توجيهه بحسب مشيئة الحاكم وتـقـديـره الشبهة وتكييفها قانونيًا، فقد حــذر الرئيس سعيد القضاة ذات مــرة من مـغـبـة إطــــاق ســــراح املــوقــوفــني فـــي شبهة التآمر على أمن الدولة واعتبارهم شركاء لهم في هذه الجريمة إن تجرأوا على ذلك. تأتي هذه الحادثة وعشرات آالف من الشباب التونسي يهاجر فـرارًا من جحيم البطالة، وبــعــض مـنـهـم يـقـضـي نـحـبـه، فـيـمـا تـــزداد األوضـــــاع االجـتـمـاعـيـة قــتــامــة، إذ ارتـفـعـت نسبة البطالة خال الشهر الفارط، بحسب إحصائيات نشرها املعهد الوطني لإلحصاء بلغت ،%16 وهي نسبة غير مسبوقة تقريبًا. ال شيء في األفق يفيد بأن الشباب استفاد مــن هـــذا االنـــقـــاب، بــل كــل مــا يــحــدث يشي بخاف ذلك تمامًا... إنها ذاكرة الفيل التي لن تنسى ما وقع خال العهد السعيد.