حاشية على قمة جدة
اختتمت الـقـمـة الـعـربـيـة أعـمـالـهـا ببيان إعـــــان جـــــدة الـــــذي أعـــلـــن خــريــطــة طـريـق ومـــشـــاريـــع مــســتــقــبــلــيــة، مــــا يـــمـــيـــزه عــمــا ســبــق هـــو آلـــيـــات تـفـكـيـر جـــديـــدة ونــظــرة إلـى املستقبل مبنية على تفكيك الراهن ونــقــد املـــاضـــي كـعـتـبـة دخــــول إلــــى الــغــد، هــــذا مـــا قـــدمـــه الــبــيــان وركـــــز عـلـيـه وزيـــر الخارجية السعودي فيصل بـن فرحان، فـــي املـــؤتـــمـــر الــصــحــافــي الـــــذي عـــقـــده مع األمني العام لجامعة الدول العربية أحمد أبـــو الــغــيــط، بـطـريـقـة مـبـسـطـة ومحكمة وشــامــلــة لـلـمـحـاور الـرئـيـسـيـة، تـظـهـر أن هـنـاك انـعـطـافـة فــي طـريـقـة الـتـعـاطـي مع املـشـكـات املـتـجـذرة فــي واقـعـنـا الـعـربـي، والتي كانت انتفاضات الشعوب العربية نتيجة لها بقدر ما كانت مشكلة إضافية فـــوقـــهـــا، إذا مـــا نــظــرنــا إلــــى مـــــآالت هــذه االنــــتــــفــــاضــــات، وواقــــــــع الــــــــدول الــعــربــيــة الحالي، إذ ركـــزت القمة، أمــام املعضات الــكــبــيــرة الـــتـــي تــواجــهــهــا فـــي عــــدة دول عربية، ومـا يمتد منها إلـى بقية الــدول، فتصيب األمن العربي واالقتصاد العربي واالستقرار العربي في باقي الدول، على ضــــرورة الــدخــول فــي الـعـصـر بمقدراتنا ومواردنا وتكاملنا، وذلك بامتاك أدوات هـــــذا الـــــدخـــــول، وركــــــــزت عـــلـــى املــــبــــادرات املستدامة، معالجة التحديات عن طريق فـكـر اقــتــصــادي حــديــث، وبــنــاء مـــبـــادرات مبنية على تصور استثماري من خال استغال ساسل اإلمـــداد بفاعلية أكبر، وإنـــشـــاء حـــاويـــات فــكــريــة مــعــتــمــدة على الـــحـــوار فــي فـهـم كـيـف نـبـنـي اقــتــصــادات أكثر استدامة، ومبادرة البحث والتميز، ومــعــالــجــة مــشــكــلــة املــــيــــاه، والـــتـــقـــدم في تقنيات هذا املجال، من أجل تعزيز األمن املــائــي الــعــربــي، مــا يـعـنـي أن نـخـفـف من االعتماد على اآلخرين، واملثال ما حققته الـــســـعـــوديـــة مـــن تــطــويــر مــنــظــومــة املــيــاه لديها، عدا دول عربية أخرى، كما التركيز على أهمية االستدامة الثقافية، هذا إن دل على أمر أساسي، فهو االنتقال إلى الفعل املبني على دراسة متأنية وعميقة للواقع العربي، ونقد املاضي بتجاربه السابقة وما آل إليه على صعيد املنطقة العربية، ثـــم الــتــأســيــس لـلـمـسـتـقـبـل عــلــى أرضــيــة مـــدروســـة، وهـــو مــا لـخـصـه األمــــني الـعـام للجامعة أيـضـا فــي إجـابـتـه عـلـى بعض األســـئـــلـــة، الـــتـــي اهــتــمــت بــشــكــل أســاســي بــالــعــاقــة مـــع الــــخــــارج، إذ قـــــال: ينبغي االعـتـراف بـأن غالبية املشكات العربية، في األعــوام العشرة املاضية وربما أكثر، كــانــت تـعـالـج خـــارج اإلطــــار الــعــربــي، أمـا الــــيــــوم فـــهـــنـــاك لــــجــــان مـــتـــخـــصـــصـــة لـكـل مشكلة من املشكات املوجودة من سورية إلى السودان إلى ليبيا وغيرها، ويجب أن نعمل بمعزل عن رؤيـة القوى الخارجية لهذه الخطوة، ويقصد بها عودة سورية إلــى جامعة الـــدول العربية، فـهـذا خاص بـــالـــشـــأن الــــعــــربــــي، وهــــــي دولـــــــة مـنـشـئـة للجامعة، واستعادة مقعدها شأن عربي، علينا أن (نقنع) الـقـوى األخـــرى بصحة النهج العربي، وهناك اجتماع قـادم بني املجموعتني، العربية واألوروبية، أتمنى أال تقرر القوى الرافضة لهذه العودة أن تـقـاطـع هـــذا االجــتــمــاع، فــهــؤالء يشكلون ربـــــــع عــــضــــويــــة األمــــــــم املـــــتـــــحـــــدة، نـــرغـــب بالعاقة الطيبة مع الجميع. تفاصيل ما جـاء في املؤتمر الصحافي، وقــبــلــه فـــي بـــيـــان املـــؤتـــمـــر املـــعـــقـــود على إثره، كلها تشير إلى رؤية جديدة للواقع الــعــربــي، واســتــراتــيــجــيــة جـــديـــدة، قائمة على التفكير االستقصائي والتحليلي واالســتــقــرائــي لـواقـعـنـا، وهـــذا كـلـه يبنى عـلـى الـــســـؤال، فـكـل تـفـكـيـر ال يـبـنـى على الــســؤال هـو مقيد وغـيـر مثمر، والـسـؤال كي يكون مجديا ودافـعـا إلـى التقدم في الــــوصــــول إلـــــى بــــراهــــني، يـــجـــب أن يــكــون مبنيا على أرضية حــرة، مستقلة عن أي إيديولوجيا أو عقيدة أو أجندة سياسية وغير سياسية، السؤال ال ينبني مع القيد والـفـكـر الـــواحـــد، ومـــا تـشـهـده السعودية فـــي الــســنــوات األخـــيـــرة، هـــو تـــطـــور الفــت وانفتاح على العصر في سبيل النهوض بـاملـمـلـكـة ومـــواكـــبـــة املــســيــرة اإلنــســانــيــة، وهـذا لم يأت من ســراب، أو من نبوءة أو حـلـم، ولـــم يـنـزل عـلـى النخبة السعودية من فوق، بل هو نتيجة عمل فكري يقوم على الـسـؤال منذ البداية، ســؤال املاضي والحاضر، وسؤال الحداثة وما تتطلب. لــــكــــن، عــــنــــدمــــا يــــكــــون املــــــواطــــــن مــــقــــيــــدا، واملجتمع مـقـيـدا، والـشـعـب مـقـيـدا، بفكر شــــمــــولــــي، وتــــربــــيــــة تــــقــــوم عـــلـــى تـنـشـئـة األجـــيـــال عـلـى الـتـلـقـي الـسـلـبـي، مــن دون إتــاحـة الـفــرص للعقل كــي يعمل بطاقته املكنونة، التي يعمل التقييد واملحاصرة عــلــى جـعـلـهـا فـــي حـــالـــة عـــطـــالـــة مــمــتــدة، وعندما تحاصر الحريات، ويقمع الرأي والتعبير، ويفرض خطاب من فوق يخدم سياسة الـنـظـام الـحـاكـم، فــإن هــذا سوف يــغــلــق األبـــــــواب أمـــــام الـــطـــاقـــات املـنـتـجـة، ويقضي على اإلبـــداع بكل أشـكـالـه. ومن األمـــثـــلـــة األخــــيــــرة مــــا جـــــرى فــــي املــؤتــمــر الصحافي للقمة العربية، عندما طرحت مــنــدوبــة اإلخـــبـــاريـــة الــســوريــة أسئلتها، لــــوزيــــر الـــخـــارجـــيـــة الــــســــعــــودي واألمـــــني الـعـام للجامعة، على طريقة الخطابات اإليــديــولــوجــيــة ولـغـتـهـا الـخـشـبـيـة الـتـي صـــــــــارت مــــثــــل حــــطــــب الــــــبــــــريــــــة: فــــــي ظــل مـنـاخ دولـــي بــات يـدفـع نحو الـتـحـرر من (اإلمـــاءات الخارجية)، التي كانت تحت ســـقـــف قــــراراتــــهــــا وخـــيـــاراتـــهـــا (وتــقــصــد الـــجـــامـــعـــة)، إلــــى أي حـــد ســـاعـــد الــتــحــرر مــــن ســــطــــوة اإلمـــــــــــاءات الـــخـــارجـــيـــة فـي بــنــاء سـيـاسـاتـهـا عـلـى أســــاس املصلحة الــقــومــيــة، ولـــيـــس عــلــى أســـــاس مصلحة الخارج وهو ما عجل لم الشمل العربي؟ وفـــك طـــوق الــقــيــود الـغــربـيـة وســـاعـــد في إيــجــاد آلـيـة تفاعلية للجامعة العربية؟ وملــاذا تمت دعــوة زيلينسكي إلـى القمة؟ هل هناك مدلول سياسي أرادتـــه اململكة الـــســـعـــوديـــة؟ ثــــم نــطــقــت بـــالـــســـؤال الــــذي ال يـمـكـن ألي شــخــص نــشــأ فـــي أقـــــل حــد مـــن الـــحـــريـــة أن يــطــرحــه عــلــى شخصية دبلوماسية عتيدة وعريقة كاألمني العام لجامعة الدول العربية: كثير من الشارع الـــعـــربـــي لــــم يـــعـــد يـــتـــابـــع قـــمـــم الــجــامــعــة الـعـربـيـة العـــتـــبـــارات كــثــيــرة، الـــيـــوم كيف
ثقافة السؤال أولى لبنات التفكير المنتج الذي يفتح آفاق الرؤية المستقبلية، والسؤال ال ينمو إلّا في جّو من الحرية
تعيدون إقناع هذا الشارع بأن الجامعة تغيرت وكيف تعيدون الثقة؟ ما اضطر األمــــــني الــــعــــام إلـــــى مــقــاطــعــتــهــا بــتــقــديــم رد يــدحــض ســؤالــهــا، وبـــأنـــه كـــان يلهث فــي الـفـتـرة املـاضـيـة خـلـف اإلعــــام، ليقرأ املــزيــد واملــزيــد عــن أخــبــار الـقـمـة العربية وانتظارها، وهذا ما يشير إلى االهتمام الـكـبـيـر بــهــا، وتـابـعـت مـقـاطـعـة إيــــاه: هل ســـتـــقـــدم نــفــســك بـــأنـــك املـــخـــلـــص؟ وأنــهــى كـامـه وســـط تصفيق حـــاد، تبعه تأكيد الوزير السعودي وموافقته على ما قال، وأن هـــذا الــطــرح مــن املــاضــي، والجامعة مهتمة بــاإلنــجــاز وباملستقبل، ليتتابع التصفيق. هــذا مــا تنتجه األنـظـمـة الــواحــديــة، التي تقصقص أجنحة العقل والخيال، وتنتج أفـــرادا فـي مختبرات ضخمة، تمتد على مساحة األوطان، فيصير الخطاب واحدا مــن الــهــرم إلــى الــقــاعــدة، وتقصي األفـــراد عن صناعة املستقبل، بل تسخر الطاقات كلها لصناعة واقـــع تـمـتـد جــــذوره نحو املـــاضـــي، مـــن دون أن تـــولـــي املـــاضـــي أي اهتمام أو دراســة، وكأنه خاضع للمحو وإعــــــــــادة الـــتـــشـــكـــيـــل بـــمـــا يــــخــــدم فــكــرهــا وأجنداتها. املـــــاضـــــي ال يـــمـــكـــن تــــــجــــــاوزه وتـــحـــريـــر الحاضر واملستقبل منه من دون تفكيكه ونقده وتجاوز عثراته، والبناء فقط على ما تأسس فيه من بنى تخدم املستقبل، وال يـمـكـن تـــجـــاوزه بــإلــقــاء الـكـلـمـات با مـسـؤولـيـة، كـمـا صــــرح وزيــــر الـخـارجـيـة الــســوريــة، فيصل املــقــداد، عشية انعقاد مؤتمر وزراء الخارجية العرب للتحضير للقمة العادية في جدة: إن مشاركة باده فـــي هــــذه الــقــمــة تـعـتـبـر «فـــرصـــة جــديــدة حتى تقول دمشق للعرب إنها ال تتطلع إلى املاضي وإنما إلى املستقبل»، وكأنه يقول لألنظمة العربية: لقد سامحناكم، فتعالوا لنرسم املستقبل كما نريد نحن. ثقافة السؤال أولـى لبنات التفكير املنتج الـــــــذي يـــفـــتـــح آفـــــــاق الـــــرؤيـــــة املــســتــقــبــلــيــة، والــســؤال ال ينمو إال فـي جــو مـن الحرية، الـــتـــي مــــن أجـــلـــهـــا دفـــــع الـــشـــعـــب الـــســـوري الـــفـــاتـــورة األعـــظـــم فـــي الـــتـــاريـــخ الــحــديــث للبشرية، والحرية، هذه الجوهرة الثمينة، ال يمكن أن تتحقق من دون التخلص من تركة املـاضـي، والتخلص من هـذه التركة ال يــكــون بـالـقـفـز فــوقــه إلـــى املـسـتـقـبـل، بل باالعتراف باالرتكابات واألخطاء، كخطوة أولى في تحقيق العدالة االنتقالية، بعدها يــمــكــن الـــحـــديـــث عـــن مــجــتــمــع يــمــشــي في طريق التعافي، ومنها تعافي فكره ليتعلم ويعلم أبـنـاءه قيمة الـسـؤال وأهميته في استدامة الحياة.