Al Araby Al Jadeed

حاشية على قمة جدة

- سوسن جميل حسن

اختتمت الـقـمـة الـعـربـيـ­ة أعـمـالـهـ­ا ببيان إعـــــان جـــــدة الـــــذي أعـــلـــن خــريــطــ­ة طـريـق ومـــشـــا­ريـــع مــســتــق­ــبــلــيـ­ـة، مــــا يـــمـــيـ­ــزه عــمــا ســبــق هـــو آلـــيـــا­ت تـفـكـيـر جـــديـــد­ة ونــظــرة إلـى املستقبل مبنية على تفكيك الراهن ونــقــد املـــاضــ­ـي كـعـتـبـة دخــــول إلــــى الــغــد، هــــذا مـــا قـــدمـــه الــبــيــ­ان وركـــــز عـلـيـه وزيـــر الخارجية السعودي فيصل بـن فرحان، فـــي املـــؤتــ­ـمـــر الــصــحــ­افــي الـــــذي عـــقـــده مع األمني العام لجامعة الدول العربية أحمد أبـــو الــغــيــ­ط، بـطـريـقـة مـبـسـطـة ومحكمة وشــامــلـ­ـة لـلـمـحـاو­ر الـرئـيـسـ­يـة، تـظـهـر أن هـنـاك انـعـطـافـ­ة فــي طـريـقـة الـتـعـاطـ­ي مع املـشـكـات املـتـجـذر­ة فــي واقـعـنـا الـعـربـي، والتي كانت انتفاضات الشعوب العربية نتيجة لها بقدر ما كانت مشكلة إضافية فـــوقـــه­ـــا، إذا مـــا نــظــرنــ­ا إلــــى مـــــآالت هــذه االنــــتـ­ـــفــــاض­ــــات، وواقــــــ­ــع الــــــــ­دول الــعــربـ­ـيــة الحالي، إذ ركـــزت القمة، أمــام املعضات الــكــبــ­يــرة الـــتـــي تــواجــهـ­ـهــا فـــي عــــدة دول عربية، ومـا يمتد منها إلـى بقية الــدول، فتصيب األمن العربي واالقتصاد العربي واالستقرار العربي في باقي الدول، على ضــــرورة الــدخــول فــي الـعـصـر بمقدراتنا ومواردنا وتكاملنا، وذلك بامتاك أدوات هـــــذا الـــــدخـ­ــــول، وركـــــــ­ـزت عـــلـــى املــــبــ­ــادرات املستدامة، معالجة التحديات عن طريق فـكـر اقــتــصــ­ادي حــديــث، وبــنــاء مـــبـــاد­رات مبنية على تصور استثماري من خال استغال ساسل اإلمـــداد بفاعلية أكبر، وإنـــشـــ­اء حـــاويـــ­ات فــكــريــ­ة مــعــتــم­ــدة على الـــحـــو­ار فــي فـهـم كـيـف نـبـنـي اقــتــصــ­ادات أكثر استدامة، ومبادرة البحث والتميز، ومــعــالـ­ـجــة مــشــكــل­ــة املــــيــ­ــاه، والـــتـــ­قـــدم في تقنيات هذا املجال، من أجل تعزيز األمن املــائــي الــعــربـ­ـي، مــا يـعـنـي أن نـخـفـف من االعتماد على اآلخرين، واملثال ما حققته الـــســـع­ـــوديـــة مـــن تــطــويــ­ر مــنــظــو­مــة املــيــاه لديها، عدا دول عربية أخرى، كما التركيز على أهمية االستدامة الثقافية، هذا إن دل على أمر أساسي، فهو االنتقال إلى الفعل املبني على دراسة متأنية وعميقة للواقع العربي، ونقد املاضي بتجاربه السابقة وما آل إليه على صعيد املنطقة العربية، ثـــم الــتــأسـ­ـيــس لـلـمـسـتـ­قـبـل عــلــى أرضــيــة مـــدروســ­ـة، وهـــو مــا لـخـصـه األمــــني الـعـام للجامعة أيـضـا فــي إجـابـتـه عـلـى بعض األســـئــ­ـلـــة، الـــتـــي اهــتــمــ­ت بــشــكــل أســاســي بــالــعــ­اقــة مـــع الــــخـــ­ـارج، إذ قـــــال: ينبغي االعـتـراف بـأن غالبية املشكات العربية، في األعــوام العشرة املاضية وربما أكثر، كــانــت تـعـالـج خـــارج اإلطــــار الــعــربـ­ـي، أمـا الــــيـــ­ـوم فـــهـــنـ­ــاك لــــجــــ­ان مـــتـــخـ­ــصـــصـــ­ة لـكـل مشكلة من املشكات املوجودة من سورية إلى السودان إلى ليبيا وغيرها، ويجب أن نعمل بمعزل عن رؤيـة القوى الخارجية لهذه الخطوة، ويقصد بها عودة سورية إلــى جامعة الـــدول العربية، فـهـذا خاص بـــالـــش­ـــأن الــــعـــ­ـربــــي، وهــــــي دولـــــــ­ة مـنـشـئـة للجامعة، واستعادة مقعدها شأن عربي، علينا أن (نقنع) الـقـوى األخـــرى بصحة النهج العربي، وهناك اجتماع قـادم بني املجموعتني، العربية واألوروبية، أتمنى أال تقرر القوى الرافضة لهذه العودة أن تـقـاطـع هـــذا االجــتــم­ــاع، فــهــؤالء يشكلون ربـــــــع عــــضــــ­ويــــة األمــــــ­ــم املـــــتـ­ــــحـــــ­دة، نـــرغـــب بالعاقة الطيبة مع الجميع. تفاصيل ما جـاء في املؤتمر الصحافي، وقــبــلــ­ه فـــي بـــيـــان املـــؤتــ­ـمـــر املـــعـــ­قـــود على إثره، كلها تشير إلى رؤية جديدة للواقع الــعــربـ­ـي، واســتــرا­تــيــجــي­ــة جـــديـــد­ة، قائمة على التفكير االستقصائي والتحليلي واالســتــ­قــرائــي لـواقـعـنـ­ا، وهـــذا كـلـه يبنى عـلـى الـــســـؤ­ال، فـكـل تـفـكـيـر ال يـبـنـى على الــســؤال هـو مقيد وغـيـر مثمر، والـسـؤال كي يكون مجديا ودافـعـا إلـى التقدم في الــــوصــ­ــول إلـــــى بــــراهــ­ــني، يـــجـــب أن يــكــون مبنيا على أرضية حــرة، مستقلة عن أي إيديولوجيا أو عقيدة أو أجندة سياسية وغير سياسية، السؤال ال ينبني مع القيد والـفـكـر الـــواحــ­ـد، ومـــا تـشـهـده السعودية فـــي الــســنــ­وات األخـــيــ­ـرة، هـــو تـــطـــور الفــت وانفتاح على العصر في سبيل النهوض بـاملـمـلـ­كـة ومـــواكــ­ـبـــة املــســيـ­ـرة اإلنــســا­نــيــة، وهـذا لم يأت من ســراب، أو من نبوءة أو حـلـم، ولـــم يـنـزل عـلـى النخبة السعودية من فوق، بل هو نتيجة عمل فكري يقوم على الـسـؤال منذ البداية، ســؤال املاضي والحاضر، وسؤال الحداثة وما تتطلب. لــــكــــ­ن، عــــنــــ­دمــــا يــــكــــ­ون املــــــو­اطــــــن مــــقــــ­يــــدا، واملجتمع مـقـيـدا، والـشـعـب مـقـيـدا، بفكر شــــمــــ­ولــــي، وتــــربــ­ــيــــة تــــقــــ­وم عـــلـــى تـنـشـئـة األجـــيــ­ـال عـلـى الـتـلـقـي الـسـلـبـي، مــن دون إتــاحـة الـفــرص للعقل كــي يعمل بطاقته املكنونة، التي يعمل التقييد واملحاصرة عــلــى جـعـلـهـا فـــي حـــالـــة عـــطـــال­ـــة مــمــتــد­ة، وعندما تحاصر الحريات، ويقمع الرأي والتعبير، ويفرض خطاب من فوق يخدم سياسة الـنـظـام الـحـاكـم، فــإن هــذا سوف يــغــلــق األبــــــ­ـواب أمـــــام الـــطـــا­قـــات املـنـتـجـ­ة، ويقضي على اإلبـــداع بكل أشـكـالـه. ومن األمـــثــ­ـلـــة األخــــيـ­ـــرة مــــا جـــــرى فــــي املــؤتــم­ــر الصحافي للقمة العربية، عندما طرحت مــنــدوبـ­ـة اإلخـــبــ­ـاريـــة الــســوري­ــة أسئلتها، لــــوزيــ­ــر الـــخـــا­رجـــيـــة الــــســـ­ـعــــودي واألمـــــ­ني الـعـام للجامعة، على طريقة الخطابات اإليــديــ­ولــوجــيـ­ـة ولـغـتـهـا الـخـشـبـي­ـة الـتـي صـــــــــ­ارت مــــثــــ­ل حــــطــــ­ب الــــــبـ­ـــــريـــ­ـــة: فــــــي ظــل مـنـاخ دولـــي بــات يـدفـع نحو الـتـحـرر من (اإلمـــاءا­ت الخارجية)، التي كانت تحت ســـقـــف قــــرارات­ــــهــــا وخـــيـــا­راتـــهـــ­ا (وتــقــصــ­د الـــجـــا­مـــعـــة)، إلــــى أي حـــد ســـاعـــد الــتــحــ­رر مــــن ســــطــــ­وة اإلمــــــ­ـــــاءات الـــخـــا­رجـــيـــة فـي بــنــاء سـيـاسـاتـ­هـا عـلـى أســــاس املصلحة الــقــومـ­ـيــة، ولـــيـــس عــلــى أســـــاس مصلحة الخارج وهو ما عجل لم الشمل العربي؟ وفـــك طـــوق الــقــيــ­ود الـغــربـي­ـة وســـاعـــ­د في إيــجــاد آلـيـة تفاعلية للجامعة العربية؟ وملــاذا تمت دعــوة زيلينسكي إلـى القمة؟ هل هناك مدلول سياسي أرادتـــه اململكة الـــســـع­ـــوديـــة؟ ثــــم نــطــقــت بـــالـــس­ـــؤال الــــذي ال يـمـكـن ألي شــخــص نــشــأ فـــي أقـــــل حــد مـــن الـــحـــر­يـــة أن يــطــرحــ­ه عــلــى شخصية دبلوماسية عتيدة وعريقة كاألمني العام لجامعة الدول العربية: كثير من الشارع الـــعـــر­بـــي لــــم يـــعـــد يـــتـــاب­ـــع قـــمـــم الــجــامـ­ـعــة الـعـربـيـ­ة العـــتـــ­بـــارات كــثــيــر­ة، الـــيـــو­م كيف

ثقافة السؤال أولى لبنات التفكير المنتج الذي يفتح آفاق الرؤية المستقبلية، والسؤال ال ينمو إلّا في جّو من الحرية

تعيدون إقناع هذا الشارع بأن الجامعة تغيرت وكيف تعيدون الثقة؟ ما اضطر األمــــــ­ني الــــعـــ­ـام إلـــــى مــقــاطــ­عــتــهــا بــتــقــد­يــم رد يــدحــض ســؤالــهـ­ـا، وبـــأنـــ­ه كـــان يلهث فــي الـفـتـرة املـاضـيـة خـلـف اإلعــــام، ليقرأ املــزيــد واملــزيــ­د عــن أخــبــار الـقـمـة العربية وانتظارها، وهذا ما يشير إلى االهتمام الـكـبـيـر بــهــا، وتـابـعـت مـقـاطـعـة إيــــاه: هل ســـتـــقـ­ــدم نــفــســك بـــأنـــك املـــخـــ­لـــص؟ وأنــهــى كـامـه وســـط تصفيق حـــاد، تبعه تأكيد الوزير السعودي وموافقته على ما قال، وأن هـــذا الــطــرح مــن املــاضــي، والجامعة مهتمة بــاإلنــج­ــاز وباملستقبل، ليتتابع التصفيق. هــذا مــا تنتجه األنـظـمـة الــواحــد­يــة، التي تقصقص أجنحة العقل والخيال، وتنتج أفـــرادا فـي مختبرات ضخمة، تمتد على مساحة األوطان، فيصير الخطاب واحدا مــن الــهــرم إلــى الــقــاعـ­ـدة، وتقصي األفـــراد عن صناعة املستقبل، بل تسخر الطاقات كلها لصناعة واقـــع تـمـتـد جــــذوره نحو املـــاضــ­ـي، مـــن دون أن تـــولـــي املـــاضــ­ـي أي اهتمام أو دراســة، وكأنه خاضع للمحو وإعـــــــ­ـــادة الـــتـــش­ـــكـــيــ­ـل بـــمـــا يــــخــــ­دم فــكــرهــ­ا وأجنداتها. املـــــاض­ـــــي ال يـــمـــكـ­ــن تــــــجــ­ــــاوزه وتـــحـــر­يـــر الحاضر واملستقبل منه من دون تفكيكه ونقده وتجاوز عثراته، والبناء فقط على ما تأسس فيه من بنى تخدم املستقبل، وال يـمـكـن تـــجـــاو­زه بــإلــقــ­اء الـكـلـمـا­ت با مـسـؤولـيـ­ة، كـمـا صــــرح وزيــــر الـخـارجـي­ـة الــســوري­ــة، فيصل املــقــدا­د، عشية انعقاد مؤتمر وزراء الخارجية العرب للتحضير للقمة العادية في جدة: إن مشاركة باده فـــي هــــذه الــقــمــ­ة تـعـتـبـر «فـــرصـــة جــديــدة حتى تقول دمشق للعرب إنها ال تتطلع إلى املاضي وإنما إلى املستقبل»، وكأنه يقول لألنظمة العربية: لقد سامحناكم، فتعالوا لنرسم املستقبل كما نريد نحن. ثقافة السؤال أولـى لبنات التفكير املنتج الـــــــذ­ي يـــفـــتـ­ــح آفـــــــا­ق الـــــرؤي­ـــــة املــســتـ­ـقــبــلــ­يــة، والــســؤا­ل ال ينمو إال فـي جــو مـن الحرية، الـــتـــي مــــن أجـــلـــه­ـــا دفـــــع الـــشـــع­ـــب الـــســـو­ري الـــفـــا­تـــورة األعـــظــ­ـم فـــي الـــتـــا­ريـــخ الــحــديـ­ـث للبشرية، والحرية، هذه الجوهرة الثمينة، ال يمكن أن تتحقق من دون التخلص من تركة املـاضـي، والتخلص من هـذه التركة ال يــكــون بـالـقـفـز فــوقــه إلـــى املـسـتـقـ­بـل، بل باالعتراف باالرتكابا­ت واألخطاء، كخطوة أولى في تحقيق العدالة االنتقالية، بعدها يــمــكــن الـــحـــد­يـــث عـــن مــجــتــم­ــع يــمــشــي في طريق التعافي، ومنها تعافي فكره ليتعلم ويعلم أبـنـاءه قيمة الـسـؤال وأهميته في استدامة الحياة.

 ?? (رامي )Getty/ديسلا ?? احتجاجات في عفرين على دعوة األسد إلى القمة العربية
(رامي )Getty/ديسلا احتجاجات في عفرين على دعوة األسد إلى القمة العربية

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar