Al Araby Al Jadeed

دروس ديمقراطية من تركيا

- سامح راشد

أيـًا كـان ما ستؤول إليه االنتخابات الرئاسية التركية التي ستجرى جولة اإلعــادة منها في 28 مايو/ أيار الجاري، ستظل لهذا االستحقاق الديمقراطي بصمة واضحة على الصورة الذهنية لتركيا في العالم العربي. وهي صورة الدولة املنضبطة امللتزمة بقواعد ومبادئ يخضع لها الجميع، حكاما ومحكومني، مواالة ومعارضة، قوميني وإسالميني، محافظني وليبراليني. لم تكن هذه االنتخابات وحدها دليل ديمقراطية تركيا وتحضر الشعب التركي، فقبل سنوات قليلة، قدم األتـراك مثاال يحتذى في تموضع املواطن حاميًا رئيسًا وربما وحيدًا لصوته ولحقوقه في بلده. والحرص على إكمال االستحقاق االنتخابي بالقدر نفسه من الديمقراطي­ة والحرية وااللتزام، ال يقل وطنية وال شجاعة عن مواجهة االنقالب وإجهاضه. وبالنظر إلى ارتفاع نسبة الشباب في التركيبة العمرية للمجتمع التركي، يصبح املشهد مثيرًا لإلعجاب، حيث الشباب األكثر انفتاحًا وتمردًا على التقاليد واألطر التقليدية لم يقلوا التزاما وحرصًا على املشاركة عن الكهول والشيوخ، حتى تجاوزت نسبة املشاركة في االنتخابات %88 ممن يملكون حق التصويت، وهي من أعلى نسب املشاركة في العالم. بالتأكيد، دور املواطن الحارس هو األهم واملحوري في إنجاح أي تجربة ديمقراطية وتثبيتها، لكنه بالتأكيد لـيـس الـوحـيـد. وبـالـفـعـ­ل، ال تقتصر دروس االنـتـخـا­بـات التركية على هذا الدور الشعبي، فاملؤسسات الرسمية واألجهزة األمنية قدمت مثاال يحتذى في خدمة الشعب ممثال في أصواته واختياراته ملمثليه، من دون انحياز ال للموجودين في السلطة وال ملعارضيهم. وكان الحكم ورمانة امليزان في كل ذلك املشهد الديمقراطي رجال القضاء الذين لوال ثقة الشعب والقوى السياسية، وكذلك السلطة، بهم، لتعرضت االنتخابات للتشكيك والطعون وربما التخريب. ولعل هذا ما أحرج بعض األصـوات، فانخرست سريعًا بعد أن شككت في نزاهة االنتخابات منذ الساعات األولى للتصويت. وبعد اإلعالن رسميًا أن نتيجة التصويت لم تحسم لصالح أي مرشح، وأن االنتخابات ستشهد جولة ثانية، لم يجرؤ أي معارض على التشكيك في النتيجة. لسبب بسيط وواضح، وهو أنها دليل كاف على الديمقراطي­ة، إذ لم يتمكن رئيس الجمهورية من حسم الفوز من الجولة األولـى، وقد كان يحتاج فقط إلى أقل من %1 من األصوات ليعلن فوزه بالرئاسة. ما يعني أن أي تالعب ولو بعدد ضئيل جدًا من األصــوات كان سيمنحه تلك النسبة املطلوبة، غير أن هذا لم يحدث، وبالتالي تلك وحدها شهادة تلقائية بنزاهة االنتخابات بكل إجراءاتها. والداللة األبعد في ذلك، أن أيًا ما كانت نتيجة جولة اإلعادة، فسيعترف بها الجميع من دون أي شك أو تشكيك. ولن تكون قراءة النتائج النهائية من منظور الصدقية والنزاهة، وإنما من منطلق تجسيدها لواقع الشارع التركي وحدود االنقسام أو االنسجام داخله. وهو ما بدأت مالمحه تلوح بالفعل من الجولة األولى، إذ بدا واضحًا أن الرئيس رجب طيب أردوغان ال يحظى بتأييد أغلبية ساحقة من الناخبني، وإنما فقط بأغلبية ضئيلة للغاية. وفي هذا درس آخر عميق وبليغ، ذلك أن القبول أو الرفض ال ينبغي أن يكون مطلقًا أو ساحقًا. بل إن تضاؤل املسافة بني املتنافسني لهو دليل حيوية وحراك ووعي. أما ما نشهده في بالدنا من نسٍب خياليٍة توهم بالتأييد املطلق واألبدي، فليست إال تأكيدًا ملحدودية الفكر وقلة الوعي وانغالق العقول واالنسياق وراء الالمعقول. وبعد تكرار محاوالت التخلص من أردوغـان، تاّرة بانقالب وتـاّرة بخنق اقتصادي وتـــارة ثالثة بتحشيد املـعـارضـ­ة وتأليب شباب األتـــراك ضــده، هـا هـي االنتخابات التركية تثبت مجددًا للعالم أجمع أن الضامن الحقيقي والوحيد لبقاء أي حاكم في السلطة أو إبعاده عنها، هو إرادة الشعب، وليس الشعارات الفارغة من أي مضمون، وال الوعود الكاذبة أو دغدغة مشاعر البسطاء واملغيبني وعواطفهم.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar