Al Araby Al Jadeed

ومضات األمل في ليل البربرية الدامس بالخرطوم

- عبد الوهاب األفندي

في عصر الـرابـع عشر من شهر مايو/ أيار الـــجـــا­ري، وبــالــتـ­ـزامــن مــع الـــذكـــ­رى الخامسة والـسـبـعـ­ن للنكبة الـفـلـسـط­ـيـنـيـة، اضــطــرت أكاديمية سودانية معروفة ملغادرة منزلها فـــي الـــخـــر­طـــوم بــعــد تـــهـــدي­ـــدات مـــتـــكـ­ــررة من «مـــســـتـ­ــوطـــنــ­ـن» مـــــن مــلــيــش­ــيــا الــجــنــ­جــويــد املسماة قوات الدعم السريع. بدأ األمر بزيارة من مقاتلي املليشيا وسؤال سمعه كثيرون قبلها وبــعــدهـ­ـا: «إنــتــو لـسـه قـاعـديـن لـيـه؟» (ملاذا ال تزالون هنا؟). السؤال محمل بمعاٍن كثيرة: لم يعد لكم حق في البقاء؛ ألم تصل إلــيــكــ­م رســـالـــ­ة اإلرهـــــ­ـاب الـــتـــي اجــتــهــ­دنــا في بثها؟ هل تتجرأون على تحدينا؟ حــاولــت أن تــشــرح، ولــكــن الــقــوم لــم يـكـونـوا هــنــاك لــلــحــو­ار، بـعـد أن أجــبــرت تكتيكاتهم كل من في الجوار على املغادرة. زاروها مرة أخــــرى لــتــكــر­ار الـــرســـ­الـــة واإليـــــ­حـــــاءات، وفــي املـــرة الثالثة واألخــيــ­رة، خلعوا كـل األقنعة، وكــشــروا عـن أنـيـابـهـ­م، مطلقن تـهـديـدات ال تحتمل التأويل. لم يسألوا الدكتورة عن توجهها السياسي، ومــــا إذا كــــان املـــنـــ­زل مــمــلــو­كــا لــشــخــص في الـجـيـش، كـدأبـهـم فـي غـاراتـهـم األخــــرى، فقد كانوا يعرفون جدًا من هي، كونها مناضلة شــهــيــر­ة مـــن مــنــاضــ­ات ثــــورة 19 ديـسـمـبـر، وتدير مركزًا ثقافيا يحمل اسم والدها، وهو مناضل يساري معروف. ومـن املستبعد أن تـكـون األكـاديـم­ـيـة صـدقـت مـا أشـاعـه بعض أنــــصـــ­ـار املــلــيـ­ـشــيــا أن هـــــذه ثــــــارت مــــن أجـــل الديمقراطي­ة، وإعــادة السلطة للمدنين من تجمع قـوى الحرية والتغيير، ولكنها على األقل اعتقدت أن املليشيا لن تعتبرها خطرًا على مشروعها. فـــي نـهـايـة األمـــــر، فـهـمـت الـــرســـ­الـــة، وحملت حـقـيـبـتـ­هـا وغـــــــا­درت، وألنـــهــ­ـا كـــانـــت ال تـــزال تتمسك ببعض األمل (في أن القوم يقرأون، وأنـــــهـ­ــــم يـــفـــهـ­ــمـــون، وأنـــــهـ­ــــم يـــــأبــ­ـــهـــــو­ن)، فـقـد وضعت الفتة على باب البيت كتبت عليها: «هنا ال يوجد كـاش أو ذهــب. يوجد الكثير مـن الـذكـريـا­ت والـكـتـب». لـم يقل لها أحــد إن الـــذكـــ­ريـــات والــكــتـ­ـب هـــي مـــا يـــقـــصـ­ــدون، فقد تعرضت جامعة بكاملها لنهب كل ما فيها وحرق مكتبتها. وعندما زاروا جامعة أخرى عـــريـــق­ـــة، هـــي جــامــعــ­ة الـــبـــن­ـــات الـــوحـــ­يـــدة في الـــســـو­دان، بــــدأوا بـاغـتـصـا­ب عــامــات فيها! ذلك مبلغهم من العلم. وفي أثناء كتابة هذه السطور، وصل إلي نبأ تعرض منزل عميد اإلعـــامـ­ــيـــن الـــســـو­دانـــيـــ­ن لـــاعـــت­ـــداء، ونـهـب مكتبته الــورقــي­ــة والـصـوتـي­ـة الــتــي تحتوي أنفس ما في السودان من تراث فني وفكري. كشفت هــذه الـحـادثـة مـن بـن مئات غيرها إلــــــى أيــــــن تـــتـــجـ­ــه األوضـــــ­ـــــاع فـــــي الـــعـــا­صـــمـــة السودانية التي تحولت إلى مدينة يسكنها الـرعـب، فـي مشاهد تـذكـر بـغـداة اجتياحها من الـقـوات االستعماري­ة الغازية في مطلع سبتمبر/ أيــلــول مــن ،1898 وإذن الـجـنـرال كتشنر لـجـنـوده باستباحتها فــي مشاهد خـــلـــده­ـــا حــــمــــ­ور زيـــــــا­دة فــــي روايــــتـ­ـــه «شــــوق الـدرويـش» .)2014( في تلك الحقبة، انصب عـــلـــى املــــديـ­ـــنــــة بــــــأس الـــــغــ­ـــزاة األجـــــا­نـــــب مــع حركات انتقام ضحايا العصر املهدي الكثر، فجاءهم العذاب من فوقهم ومن أسفل منهم. ولكن تلك الفترة انتهت بسرعة، بعد أن أعاد كتشنر ورجاله األمن. منذ تلك الحقبة الـــســـو­داء، ظلت الخرطوم مدينة مساملة إلى حد كبير، رغم أنها شهدت اضــطــراب­ــات مــتــكــر­رة، وانــقــاب­ــات عسكرية، وصدامات محدودة، ورغم الحروب األهلية التي اجتاحت جنوب السودان وغربه. ولكن مـا شهدته العاصمة منذ انـطـاق محاولة مــلــيــش­ــيــا الــــدعــ­ــم الـــســـر­يـــع لـــاســـت­ـــيـــاء عـلـى الـحـكـم وفـشـلـهـا كـــان انــفــاتـ­ـا غـيـر مسبوق للعنف من كل عقال. وألن األحداث تفجرت صباح السبت، وبدون سابق إنـــذار، كــان نــاس كثيرون قـد خرجوا إلـــى شـؤونـهـم الـيـومـيـ­ة. عـلـى سبيل املــثــال، فـتـحـت مــــدارس كـثـيـرة أبــوابــه­ــا واستقبلت الــتــامـ­ـيــذ. وكـــانـــ­ت مـــن أوائـــــل الــجــرائ­ــم الـتـي ســـجـــلـ­ــت عــــلــــ­ى املـــلـــ­يـــشـــيـ­ــا قــــتــــ­ل شـــــــاب كــــان يصطحب والدته إلحضار أحد أطفال األسرة من املـدرسـة. استوقفه أحـد جنود املليشيا،

ًّ ثم قرعه ألنه لم يتوقف بمجرد إعطاء األمر، قائا له: «ملاذا لم تتوقف عندما أمرتك؟» قال الشاب إنه لم ينتبه إلى التوجيه. فرد الرجل قائا: «لعلك ال تعترف بأن لدي الحق في أن أوقـفـك؟» ثم أطلق عليه النار وعلى والدته. قتل الشاب على الفور، وماتت والدته مساء ذلك اليوم متأثرة بطلقة أصابت فكها. تــــــكــ­ــــررت حـــــــــ­وادث الـــقـــت­ـــل الــــعـــ­ـشــــوائـ­ـــي عــنــد الـــحـــو­اجـــز الـــتـــي نـصـبـتـهـ­ا املــلــيـ­ـشــيــا فـــي كل مـــكـــان. عــلــى سـبـيـل املـــثـــ­ال، كــــان أي شخص يحمل هوية عسكرية، حتى لو كان متقاعدًا، يحتجز، وغالبا ما يختفي أو يقتل. أعقبت ذلــك حـــوادث اخـتـطـاف لـأجـانـب، خصوصا موظفي املنظمات الدولية التخاذهم رهائن. وصحب ذلـك أول حادثة اغتصاب مسجلة، وهــــي ملــوظــفـ­ـة أمــمــيــ­ة آســـيـــو­يـــة. تـــكـــرر كـذلـك اقتحام املنازل وإخـراج سكانها منها عنوة. وفـــــي الــــغـــ­ـالــــب، يـــســـمـ­ــح لـــهـــم بـــدقـــا­ئـــق ألخـــذ الـــضـــر­وري مـــن أغـــراضــ­ـهـــم. وفـــي واحـــــدة من الحوادث املشهودة، أخرج رجل مسن وزوجته من منزلهما، وفيما كانا يستعدان للمغادرة، صاح بهما رجل من املليشيا من شرفة املنزل يطالبهما بعدم استغال سيارتهما وتركها مكانها. ولـم ينتظر اإلجـابـة، بل أطلق النار على الفور، وقتل املرأة. وتعج وسائل التواصل االجتماعي بمئات اإلعانات عن اختفاء أشخاص، كثير منهم مـــن الــشــبــ­اب، غــالــبــ­ا عــنــد عــبــورهـ­ـم مناطق تــســيــط­ــر عــلــيــه­ــا املــلــيـ­ـشــيــا. اخـــتـــف­ـــى مـعـظـم هؤالء با عودة، ووجدت جثث بعضهم في العراء. هناك اتهامات للمليشيا بأنها تجند الـشـبـاب قــســرًا، وقــد حـــذر إعـــان جـــدة الــذي وقعته الــقــوات املسلحة مـع مليشيا الدعم السريع من هذه املمارسات. ولكن املليشيا لــــم تــــتــــ­راجــــع، بــــل تــكــثــف­ــت حـــــــاا­لت اقـــتـــح­ـــام البيوت والقتل والخطف واالغتصاب منذ توقيع اإلعان. تـــكـــثـ­ــفـــت هـــجـــمـ­ــات املـــلـــ­يـــشـــيـ­ــا عـــلـــى املــــنــ­ــازل الــــخـــ­ـاصــــة، بـــعـــد أن خــــســــ­رت كــــل مــواقــعـ­ـهــا ومعسكراتها املهمة في العاصمة، ما دفعها إلى تبني استراتيجية دفاعية تعتمد على االحتماء باملواقع املدنية. شمل هذا التوجه احتال مواقع مثل الـــوزارا­ت واملستشفيا­ت واملـــطــ­ـارات ومـحـطـات ضــخ املــيــاه أو توليد الــكــهــ­ربــاء، وحــتــى بــعــض مـــواقـــ­ع املـنـظـمـ­ات الدولية. تحصنت املليشيا كذلك في مواقع سـكـنـيـة، حــيــث اســتــخــ­دمــوا الــســكــ­ان دروعـــا بـشـريـة. ومــع مـــرور الــوقــت، كثفت املليشيا اقــــتـــ­ـحــــام املــــــن­ــــــازل، خـــصـــوص­ـــا فــــي األحــــيـ­ـــاء الفخمة، وطــرد أهلها، ونشر القناصة على األســــطـ­ـــح والــــطــ­ــوابــــق الـــعـــل­ـــيـــا، قـــبـــل الــعــبــ­ث بـمـحـتـوي­ـاتـهـا، وســـرقـــ­ة املـقـتـنـ­يـات الثمينة والسيارات، والتهام كل ما وجد من مأكوالت. وإذا كـان الخوف هو ما دفـع بهذه الشراذم إلـــى انــتــهــ­اك حـــرمـــا­ت الــبــيــ­وت، فـــإن الجشع مـا لبث أن حــل محله، فلم يــعــودوا يكتفون بالتحصن داخــل مواقع مدنية بما يغل يد الجيش عن استهدافهم، ولكن نهب املنازل أصبح هو الهدف، بعد أن اكتشفوا سهولة تـــرويـــ­ع املـــدنــ­ـيـــن، وإخـــراجـ­ــهـــم مـــن بـيـوتـهـم بدون أي تكلفة، وهكذا كلما فرغوا من نهب مــنــزل يـنـتـقـلـ­ون إلـــى آخــــر. ومـــا لــبــث الــشــره إلـى الغنائم أن دفـع املليشيا إلـى استهداف املصارف واملتاجر بالنهب، مع التركيز على صناديق أمانات العماء، حيث املجوهرات واملدخرات. وهكذا تحولت الخرطوم، وتحديدًا وسطها واألحـيـاء الفخمة، إلـى مدينة أشباح، حيث لم يعد هناك أمن داخل املنازل وال خارجها. وخـال األيــام، بل الساعات، املاضية، ظللت أتـلـقـى تــقــاريـ­ـر مــن األقـــــا­رب واألصـــدق­ـــاء عن أحداٍث أصبحت متكّررة إلى درجة الغثيان. أسـرة زارتها زمـرة من الجنجويد بسؤالها املــعــهـ­ـود: «إنــتــو لـيـه لــســه قــاعــديـ­ـن؟». ومعه ســؤال، هل أنتم من الجيش أم اإلسامين؟ من أين لكم ثمن هذا البيت؟ هذا بعد تفتيش األغــــــ­راض واســتــكـ­ـشــاف املـــنـــ­زل، وتــهــديـ­ـدات مـبـطـنـة بـــالـــع­ـــودة. اضـــطـــر­ت األســـــر­ة لـلـفـرار في اليوم التالي، وال تـزال تبحث عن مأوى آمــــن. واســتــعـ­ـدت أســــرة أخــــرى لـلـرحـيـل ّبعد أن زارهـــا األشـــرار وتـفـقـدوا البيت، وهـــددوا بالعودة اليوم التالي. ولكن املجموعة عادت واقتحمت البيت في الحادية عشرة مساء، تـحـت وابــــل مــن الـــرصـــ­اص. فـــر الــســكــ­ان بما كـان عليهم من ثياب، وتكرر هـذا في منازل كثيرة، بينما نهبت أخــرى غــاب أصحابها بـــــدون حـــاجـــة عــلــى مـــا يـــبـــدو لــســكــن­ــاهــا. لم يتركوا شيئا، بما في ذلك األثاث. اإلعانات عن املخطوفن واملفقودين تترى: شــاب أو شيخ خــرج ولــم يـعـد. فـتـاة خرجت إلى املتجر املجاور للمنزل ولم تعد. طبيب اخـــتـــف­ـــى وهـــــو فــــي طـــريـــق­ـــه إلـــــى املــســتـ­ـشــفــى. زعــــران مــن املليشيا طــرقــوا الـبـيـت وطـلـبـوا تسليمهم الفتيات املوجودات فيه! من بن كل مدن العالم، العاصمة السودانية الخرطوم (األصح العاصمة املثلثة: الخرطوم وأم درمـــان والـخـرطـو­م بـحـري) وطــن خاص ملـن عرفها. يعشقها كـل زائــر مـن أول نظرة، وهـــو عـشـق يتعمق وتــــزداد تـبـاريـحـ­ه كلما ازداد بها معرفة. بالنسبة لنا، كــان الوطن جامعة الخرطوم التي عشنا فيها، كما كتبت من قبل، أسعد أيامنا، وأثراها بالصداقات والـكـسـب العلمي والــغــذا­ء الثقافي والعمق اإلنــســا­نــي. زرت عــشــرات املـــدن والــبــلـ­ـدان في كل صقع من كوكبنا منذ تلك الحقبة، ولكن الــحــب بـقـي للحبيب األول. حـتـى فــي أثـنـاء وجــودي في الجامعة، زرت بريطانيا حيث قــضــيــت عــــامـــ­ـا، والـــــوا­ليـــــات املـــتـــ­حـــدة، حـيـث قــضــيــت خــمــســة أشـــهـــر، ولــكــنــ­ي كــنــت أعـــود دائما إلى غرفتي في السكن الجامعي، على بعد خطوات من أثرى بيئة ثقافية في الباد. فـــي الـــصـــب­ـــاح (وفـــــي املـــســـ­اء أيـــضـــا) نحضر املحاضرات، ولكن مساء الجامعة كان يزخر بالفعاليات الثقافية والفكرية والسياسية، من مسرحيات وليال شعرية وندوات علمية وفكرية وسياسية، وأحداث رياضية، وإن لم يكن هذا وذاك، فجلسات أنس مع األصدقاء فـي حـدائـق الجامعة وأرصفتها. كنا كثيرًا

ما نتمشى إلى قلب الخرطوم، حيث املقاهي الرائعة، وفـي مقدمها مقهى «أتـنـي». كانت حـــيـــاة خـــالـــي­ـــة مــــن املــــلــ­ــل، وعــــامــ­ــرة بـاملـحـبـ­ة والــرضــا، رغــم أنها كانت عاصفة سياسيا. كان أكثر ما يجذب في الخرطوم هو إيقاعها الهادئ. فعلى الرغم من أنها توسعت كثيرًا وتأثرت بحمى الحداثة، فإنها ال تـزال، رغم ذلـــك كـلـه، قـريـة كـبـيـرة. أمـــا الــيــوم، فتحولت كل املنطقة إلـى كابوس الكوابيس، تجوس خـــال ديـــارهــ­ـا وحـــوش كـــاســـر­ة، تـجـبـر املــرء على هجران أحـب األماكن إليه، وهو كبيرة الـكـبـائـ­ر. وفـــي الـــقـــر­آن أن إخــــراج الــنــاس من ديارهم شر من القتل، واملبرر األول للجهاد، فقد جـاء فـي آيـة اإلذن بالقتال أنـه يحل ملن «أخرجوا من ديارهم بغير حق». وليست األكـاديـم­ـيـة الـتـي قـاومـت مـحـاوالت إخـــراجــ­ـهـــا مـــن بــيـتــهـ­ـا بـــبـــدع مـــن األمــــــ­ر، وال يـــحـــتـ­ــاج مـــا شــهــدنــ­ا مـــن تــمــســك­ــهــا بـــإصـــر­ار بمراتع الطفولة إلى تفسير. البيت هو حيث تـــرتـــا­ح مـــن كـــل نـــضـــال، هـــو مــلــجــؤ­ك األخــيــر ومــــاذك مــن صـخـب الـدنـيـا وضـجـيـجـه­ـا. ال يهم إن كــان كـوخـا أو قـصـرًا أو ظــل شجرة. بـمـجـرد دخــولــك إلـيـه تتحلل مــن كــل تكلف: تــلــبــس مــــا تــــشــــ­اء، تـــأكـــل وتــــشـــ­ـرب بــمــزاجـ­ـك متى وحـيـث شـئـت. تحتفظ فيه بذكرياتك، بـأشـيـائـ­ك الـصـغـيـر­ة الـتـي ال يـأبـه لـهـا أحــد، ولكنها هي عندك بالدنيا. البيت في النهاية عنوان الوطن، بل هو الوطن. فا وطن بدون مـأوى تسكن فيه وإليه، ويفوح من محيطه عبير الــذكــري­ــات ومـشـاعـر األلــفــة. تـحـن إليه حــن تـغـيـب، وتــتــألـ­ـق فــرحــا حــن يحتضنك مجددًا. ولعل أفدح مصاب حل بالسودان وأهله بعد 15 الشهر املاضي (إبريل/ نيسان) أن مفهوم البيت والسكن لم يعد له وجود. لم يعد أحد آمنا على نفسه في الخرطوم، سواء كان طفا أو رجا أو امرأة (خصوصا لو كانت امرأة). يمكن، في ليل البربرية الـدامـس الــذي ألقى بكلكله على الـخـرطـوم أن تقتل أو تخطف أو تـخـتـفـي بـــا أثــــر، وربـــمـــ­ا أســــوأ مـــن ذلـــك، خصوصا بالنسبة للنساء، بغض النظر عن هويتك وتوجهك السياسي وجنسك وعرقك ودينك. يكفي أن تكون إنسانا ال تنتمي إلى الجنجويد. الــطــاعـ­ـون الـــذي حــل بمدينتنا األثـــيــ­ـرة كـان مزيجا بن هجمات «داعش»، وحقد الخمير الــحــمــ­ر، وأمــثــال­ــهــم مـــن مـلـيـشـيـ­ات ليبيريا وسـيـرالـي­ـون، مـن كـانـوا يـكـرهـون الحضارة والــــعــ­ــلــــم، أو وحـــــــو­ش روانــــــ­ـــدا والـــبـــ­وســـنـــة، املـــولــ­ـعـــن بـالـتـطـه­ـيـر الـــعـــر­قـــي. وهــــو جـمـاع كـــل تــلــك املـــســـ­اوئ. هــنــاك شـــعـــور بـالـصـدمـ­ة والعجز، ولكن أيضا باألمل، فليس للبربرية مستقبل، وال مكان ملغول العصر في حاضر الــبــاد وال مستقبلها، وال مــكــان كــذلــك ملن راهــــن عــلــى الـــبـــر­بـــريـــة... وســتــعــ­ود مدينتنا األثيرة بـإذن الله، أجمل مما كانت، وأنظف مما كانت... بكثير.

يمكن، في ليل البربرية الدامس الذي ألقى بكلكله على الخرطوم أن تقتل أو تخطف أو تختفي بال أثر

نهب المنازل أصبح هو الهدف، بعد أن اكتشفت المليشيا سهولة ترويع المدنيين وإخراجهم من بيوتهم بدون أي تكلفة

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar