Al Araby Al Jadeed

أن يبلغ االحتقان درجة الغليان

- عيسى الشعيبي

التعريف السوسيولوج­ي غير الدقيق لحالة القلق التي تصاحب اإلنسان، بدرجات متفاوتة الشدة، وال تبرحه، من أول تفتح وعيه إلى يوم مماته، يشخص هذه الحالة، على أنها نتاج مزيج متراكم من مشاعر الشك والتحسب والخوف وقلة الحيلة، وكل ما ينسل من تحت عباءة املصاعب اليومية، وقـوس الهموم املحتشدة في الفضاء العام، تلك التي تتعمق غورًا وتزداد اتساعًا، كلما ضاق مجال الرؤية وازداد الوعي وارتــفــع­ــت درجـــة الــحــس بـاملـسـؤو­لـيـة، نـاهـيـك عــن تـفـاقـم تكاليف الـحـيـاة مــن جهة، وتضاؤل الخيارات املتاحة من جهة مقابلة. ولعل االحتقان العام الذي يفيض به الخطاب االجتماعي الرائج في هذه اآلونة، بكل ما ينطوي عليه من تعبيرات بالغة الحدة، وكراهية ورغبة في االنتقام، وميول عنفيه تخرج أحيانًا عن السيطرة، هو أحد تجليات حالة القلق التي تستبد بعامة الناس والنخب وأولي األمر، كل حسب منظوره ومصالحه ومسؤولياته، حيث يتقاطع هؤالء جميعًا عند نقطة الخشية مـن عقابيل الـتـطـورا­ت املستقبلية املجهولة فـي الزمان واملكان. ومثلما يسخن املاء في املرجل، ويتحول عند درجة حرارة عالية إلى بخار ذي طاقة انفجارية، أو قوة يمكن التحكم بها وتطويعها لتشغيل املولدات الحرارية، وجر عجلة قطار متعدد العربات، كذلك يشتد االحتقان شيئًا فشيئًا، وتسخن حالة القلق على النطاقني الخاص والعام، ويكتسب هذا الخليط، مع مرور الوقت، خاصية البخار وقوته التدميرية، إن لم يحسن األفراد مداواته بالصبر الجميل وقدر قليل من رباطة الجأش، ويتمكن أصحاب القرار وذوو املسؤوليات الكبار، في اللحظة املناسبة، من تنفيس طنجرة الضغط محكمة اإلغالق هذه، وتبادر املرجعيات املعنية قبل ذلك إلى اإلسراع في احتواء املوقف، من خالل تخفيض شعلة اللهب املتقدة في الصدور والشارع السياسي واألسواق. هناك فيض من السوابق في غير مكان واحد من العالم العربي، تقص علينا ببالغة حاالت احتقان أدت، كل منها على انفراد، إلى انفجار اجتماعي ال تزال مضاعفاته ماثلة، وأفضت تداعياتها إلـى نشوب أزمــات سياسية كانت عواملها مثل جمرات كامنة تحت الــرمــاد، حيث بــدا االحـتـقـا­ن هنا وهـنـاك أشـبـه بمرجل الـبـخـار محكم اإلغالق، تسرب الهواء الالفح تدريجيًا من خالل فتحة متوارية تحت الغطاء، ثم انطلق هائجًا، بطاقة هائلة، لم يكن في وسع سائق القطار السيطرة عليها بعد أن تحول املاء املضغوط إلى بخار، وصار ما صار. وما ينطبق على الدول في مثل هذا الوضع املوصوف للتو ينطبق على األفراد سواء بــســواء. إذ بـقـدر مـا ينجح املـــرء فـي التحكم بـدرجـة قلقه املــشــرو­ع، حتى ال نقول الصحي في بعض األحيان، ويدير أزماته الحياتية مع املضارع من دون هلع أو رهاب، ويتحسب للمستقبل بال تطير، بقدر ما يتمكن من الحفاظ على املاء الدافئ في قرارة النفس املثخنة تحت درجة الغليان، وتنفيس بعض ما يمور في مرجل الذات من بخار كان قد تخلق جراء تجرع مرارات إخفاق متكرر، وتزايد وزن أثقال تنوء عن حملها القلوب، وتفاقم الضغط، واضطرام أوار االشتعاالت الداخلية املقيمة في النفوس ما أقام الليل والنهار. في األمثال البليغة الفائضة بالحكمة، وامللخصة خبرات أجيال متعاقبة راكمت تجاربها الغنية في معمعان الحياة، جاء أن أخطر األمراض، بما فيها العضال، مصدرها الخوف ذاته، وأن القلق وقصر ذات اليد، وهما رافعتا االحتقان، يقتل الهرة ذات التسعة أرواح. وأحسب أن االحتقان، وهو االبـن الشرعي للقلق، يعتبر في أطــواره األولية صحيًا ومشروعًا، وأخــذه بتؤدة واعتدال يعادل أخذ جرعة من دواء فعال، وأن االحتفاظ بقليله يشكل شرطًا الزمًا من شروط البقاء، بل ويعد من مصادر التحوط الالزم إزاء االنتكاسات املفاجئة، ومن روافع التكيف الذي ال مفر منه قبالة متغيرات الحياة املتقلبة تقلب الصيف والشتاء، إال أن انتقاله إلى طور عاصف من النزق وردود أفعال حادة ومبالغ بها، يحيله إلى مرض أشد فتكًا من املرض الخبيث.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar