في األزمة المالية للسلطة الفلسطينية
تمر األوضاع االقتصادية في مناطق السلطة الفلسطينية بحالة صعبة، يظهر ذلــك في ضــعــف الـــحـــركـــة الـــتـــجـــاريـــة، عــلــى الــعــمــوم، بـالـتـرافـق مــع حـالـة الــغــاء الـعـاملـيـة، وينال ذلك من مداخيل األسر الفقيرة واملتوسطة؛ إذ تكتفي الحكومة الفلسطينية بدفع نحو %80 مـن الــراتــب، للموظف العمومي الـذي يــعــانــي تــبــعــات هــــذا الـــراتـــب املــــجــــزوء، منذ ما يقارب عامًا، ونصف الـعـام. يؤشر على هذا التردي االقتصادي واملعيشي إضـراب معلمي مـــــدارس الـسـلـطـة الفلسطينية 80 يــومــًا، قـبـل أن يــتــوقــف، مــن دون أن يحقق املطالب املأمولة؛ في رفـع األجـــور، ومراعاة غاء املعيشة، باإلضافة إلى إضراب مفتوح بــــدأه الــعــامــلــون فـــي وكـــالـــة غـــوث وتشغيل الـاجـئـني الفلسطينيني (أونــــــروا)، اعتبارًا مـن 20 فـبـرايـر/شـبـاط املــاضــي؛ مـا انعكس سلبًا على الخدمات املقدمة فـي املخيمات الفلسطينية، من صحية وتعليمية وبيئية وخدماتية. تعتمد السلطة على مصادر مالية، منها ما هـو محلي، مـن أمـــوال الجباية والضرائب، ومــا إليها، وتشغل أمـــوال (املــقــاصــة) حيزًا مهمًا. ومنها مــا هــو خــارجــي، وقــد تراجع الدعم الخارجي تراجعًا حـادًا، فبعد أن كان مليارًا 200و مليون دوالر، سنويًا في عام ،2008 بــدأ يتراجع بشكل حـــاد، منذ ،2013 إلـى أن وصـل في العام املاضي ،2022 وفق تصريح وزير املالية الفلسطيني، إلى نسبة ال تزيد عن %20 مقارنة مع السابق. ومن أبرز الجهات الدولية االتحاد األوروبي الذي يعد األكثر التزامًا بتقديم الدعم املالي لـلـسـلـطـة الـفـلـسـطـيـنـيـة، (تــبــلــغ مــســاعــدات االتـــحـــاد األوروبــــــي 300 مـلـيـون يـــــورو، في الـــســـنـــة). وإن كــــان يــشــوب تــلــك املــســاعــدات اشـــتـــراطـــات ســيــاســيــة، كـــإجـــراء انـتـخـابـات رئـاسـيـة وتشريعية، وأحــيــانــًا، اشـتـراطـات أخـــــرى، كـاملـتـعـلـقـة بــاملــنــاهــج الفلسطينية املـــــقـــــررة فــــي املـــــــــدارس. وفـــــي هـــــذا الــســيــاق، عــــارض مـــســـؤول الــســيــاســة الــخــارجــيــة في االتـــحـــاد األوروبــــــي، جــوزيــب بـــوريـــل، حظر املساعدة املالية للسلطة الفلسطينية على خلفية أزمــــة فــي مـحـتـوى الـكـتـب املـدرسـيـة الفلسطينية، وقال لوكالة فرانس برس في استوكهولم، حيث كــان يـشـارك، أخـيـرًا، في اجتماع لـوزراء خارجية االتحاد األوروبـي: «الـــســـلـــطـــة الـفـلـسـطـيـنـيـة فــــي وضـــــع حــــرج، وهــــي مــعــرضــة لـخـطـر اإلفـــــــاس، إذا جــرى حـظـر تـمـويـل االتـــحـــاد األوروبـــــــي. بصفتي املــمــثــل األعـــلـــى لـــن أســـمـــح بــحــصــول ذلــــك». أمـــــا الــــدعــــم الـــعـــربـــي الـــرســـمـــي الــــــذي أعــــرب الـرئـيـس الفلسطيني محمود عــبــاس أمــام القمة العربية، في جدة، عن ثقته باستمرار تـقـديـمـه، سـيـاسـيـًا ومـــاديـــًا، فـهـو مـتـذبـذب، وغير مستدام، وأحيانًا مشروط سياسيًا، بموافقة السلطة مواقف دول عربية، طبعت مـــع دولــــة االحــــتــــال، وفــــق مـــؤســـس ومــديــر مؤسسة بال ثينك للدراسات االستراتيجية فـــي فـلـسـطـني، والـخـبـيـر االقـــتـــصـــادي، عمر شعبان، في مقابلة مع «العربي الجديد». تحيل األزمة املالية للسلطة الفلسطينية إلى أزمتها السياسية، وقصورها عن االستقال والسيادة، بسبب توقف املسار املفضي إلى الدولة، ومحدودية سيطرتها على مواردها الطبيعية؛ بفعل سـيـاسـة دولــــة االحــتــال، ومــــــن قــبــلــهــا تـــقـــيـــيـــدات اتـــفـــاقـــيـــة أوســــلــــو، وبـروتـوكـول بـاريـس االقـتـصـادي، وتجسد اقـــتـــطـــاعـــات حـــكـــومـــة االحــــتــــال مــــن أمـــــوال املـقـاصـة (عــائــدات الـضـرائـب الـتـي تجبيها إسرائيل على البضائع الواردة إلى األراضي الفلسطينية، من خال املنافذ التي تسيطر عليها بالكامل، واملقدرة شهريًا بنحو 700 مليون شيكل شهريًا 202( مليون دوالر) مقابل عمولة .%3 عامة واضحة، ومحرجة عــلــى تــلــك الـــعـــاقـــة املـــخـــتـــلـــة، بــــني الـسـلـطـة الفلسطينية التي ال تزال تفي باستحقاقات أوسلو، ودولة االحتال التي ال تلتزم إال بما يناسبها من بنود تلك االتفاقية. وبعد أن كانت حكومة االحتال تقتطع، أو تحتجز مـــن تــلــك األمـــــــوال؛ البــــتــــزازات ســيــاســيــة، أو بـحـجـة دفـــع الـسـلـطـة مـخـصـصـات األســـرى وعـــوائـــل الـــشـــهـــداء، صــــارت تـقـتـطـع بحجة دفـــعـــهـــا ملـــــن تــــزعــــم أنــــهــــم مــــتــــضــــررون مـن الــعــمــلــيــات الـفـلـسـطـيـنـيـة، فــفــي بـــدايـــة هــذا الــــعــــام، قـــــــررت حـــكـــومـــة االحــــتــــال اقــتــطــاع نحو 40 مليون دوالر من أمــوال «املقاصة» الفلسطينية. وحــســب قــنــاة كـــان الـعـبـريـة، تحتجز هيئة تنفيذ األحــكــام اإلسرائيلية أكـــثـــر مـــن تـسـعـة مـــايـــني شـيـكـل مـــن أمــــوال السلطة الفلسطينية، وتحولها إلى عائات قتلى العمليات، الذين فتحوا قضايا إنفاذ ضـــد الـسـلـطـة، ويــتــوقــع أن تـحـتـجـز أمــــواال إضافية الحـقـًا» لـهـذه الـذريـعـة. وفــي بداية العام الـجـاري، كشف رئيس الـــوزراء محمد اشـتـيـة أن «مـجـمـوع االقــتــطــاعــات املتعلقة بـــمـــخـــصـــصـــات األســـــــــرى والـــــشـــــهـــــداء، بـلـغ حوالي ملياري شيكل (الـدوالر يساوي 3.5 شــواكــل) منذ بـدايـة عــام 2019 حتى نهاية .»2022 تضاف إلــى هــذا العامل االحتالي تساؤالت عن استيفاء السلطة الفلسطينية مـــعـــانـــي الــــحــــوكــــمــــة، والـــشـــفـــافـــيـــة املـــالـــيـــة، والرقابة، واملحاسبة؛ بسبب تعطل املجلس التشريعي، ومحدودية السلطة القضائية؛ بوصفها سلطة عليا، حاكمة، فوق السلطة التنفيذية؛ ليفضي ذلك إلى أولويات إنفاقية تـسـتـفـرد بـهـا الـجـهـة املـتـنـفـذة فــي السلطة الفلسطينية، فهي ترصد أكثر من %30 من موازنتها لأمن، ومـا ال يزيد عن %6 فقط لــدعــم الـتـعـلـيـم والـــصـــحـــة، بـشـكـل منفصل، وحيث ثمة تفاوت في الـرواتـب، كما يظهر في زيادة متوسط األجر الشهري للموظفني في القطاع األمني عن متوسط األجر ملوظفي القطاع الـعـام بحوالي %15 وهـــذا، بحسب خبراء، خلل بنيوي في توزيع املوارد. تـــحـــقـــق هــــــذا الـــتـــأثـــيـــر الـــــواســـــع لــــلــــرواتــــب، بــعــد خــنــق الــحــيــاة الفلسطينية بــالــجــدار االحـتـالـي، وتحديد وصـــول املــزارعــني إلى أراضيهم، وغير ذلك من عراقيل الحياة التي يصطنعها املــحــتــل، وإال فـــإن الفلسطيني واسع الحيلة، وموفور النشاط نحو مناشط الحياة املعيشية. الـسـلـطـة الفلسطينية الــتــي وعـــد رئيسها أيـــــــام تـــرشـــحـــه لـــلـــرئـــاســـة، بـــتـــأمـــني أقــــــوات الناس، وتحقيق األمـن لهم، تواجه الشعب بـــعـــجـــزهـــا، وتـــلـــقـــي بـــالـــائـــمـــة عـــلـــى دولـــــة االحــــتــــال. وتـكـتـفـي بـتـصـويـر هــــذه األزمــــة ثمنًا ملواقفها الوطنية، خصوصًا في قضية األسرى، وعوائل الشهداء، الستمرار صرفها مخصصاتهم املالية. مع أنـهـا، في املقابل، تــتــقــاســم ودولـــــــة االحــــتــــال مـــنـــع املـــقـــاومـــة الفلسطينية املــســلــحــة، وتـسـتـمـر فـــي عقد اجتماعات أمنية مـع قـــادة االحــتــال، فيما وجودها، باملجمل، ال ينجح في كبح توسع االســتــيــطــان فـــي الــضــفــة الــغــربــيــة والــقــدس املحتلة، وفيما بقاؤها ال يبدو محل اكتراث كبير من قادة االحتال الحاليني. والسلطة
يخشى أن يصرف انشغال الناس بارتباكات الحياة المعيشية، وشؤون الراتب، عن مخاطر مصيرية تحدق بالقضية الفلسطينية
الفلسطينية، بعد ذلـــك، ال تـبـدي استجابة لتوصيات مختصني؛ بـإصـاح مـا أسموه خلا بنيويًا يعانيه واقع الرواتب واألجور فــي السلطة الفلسطينية؛ وذلـــك بمراجعة سلم الـرواتـب وتعديله، لتقليل الفجوة في الرواتب األساسية، وعدم منح درجة سفير ألي سفير ال يمارس مهمات سفير، بشكل فعلي، واعتماد آليات واضحة وشفافة لبند الـنـثـريـات ومخصصات الـضـيـافـة، ووضــع معايير صــارمــة لتصنيف مـوظـفـي وزارة الـخـارجـيـة إلـــى إداريــــــني، أو دبـلـومـاسـيـني؛ لتجنب عملية التصنيف، وفقًا العتبارات سياسية، أو شخصية. وتوصيات أخــرى، وذلـــــك وفــــق مـــا ورد فـــي تـــوصـــيـــات دراســــة االئتاف من أجل النزاهة واملساءلة (أمان) ،2017 فـثـمـة نـفـقـات متضخمة، وال سيما تلك الذاهبة إلـى السلك الدبلوماسي حول العالم! وهي نفقات ال تتناسب مع قدراتها بوصفها سلطة تحت االحتال، حيث تبالغ فـي توسيع نطاق سفاراتها، مـن دون آثـار كبيرة ملحوظة. تحققها تلك السفارات في املجمل، إذا ما قورنت بما حققته جماعات الــنــشــطــاء غــيــر الــحــكــومــيــني، مــنــهــا حــركــة «بي دي إس» العاملية الداعية إلى مقاطعة إســــرائــــيــــل، وســـحـــب االســــتــــثــــمــــارات مـنـهـا، وفرض عقوبات عليها. ويــــخــــشــــى أن يـــــصـــــرف انـــــشـــــغـــــال الــــنــــاس بارتباكات الحياة املعيشية، وشؤون الراتب، عــــن مـــخـــاطـــر مــصــيــريــة تـــحـــدق بـالـقـضـيـة الفلسطينية، وما يصار إليه احتاليًا، في هــذه املرحلة املصيرية؛ مـن تهويد القدس ومـــحـــاوالت تكريس سـيـادتـه على املسجد األقــــصــــى، فـــضـــا عــــن أن تـــــــردي األوضــــــاع االقـتـصـاديـة، مــع انــســداد األفـــق السياسي، ال يــســاعــد عــلــى تـثـبـيـت الفلسطينيني في وطــنــهــم؛ مـــا قـــد يــدفــع بــعــض الـــذيـــن ســــدت في وجوههم سبل العيش إلى التفكير في الهجرة، فضا عـن التسبب فـي احتقانات اجتماعية، قـد تنعكس، سلبًا، على السلم األهلي. وكـان الوضع سيصير مختلفًا، لو انــطــوت هـــذه املــعــانــاة الشعبية فــي سياق وطـــنـــي حــقــيــقــي، بــمــســار نــضــالــي واضــــح، وجـــــدي، نحو التخلص مــن االحـــتـــال، فقد تحملِّ الفلسطينيون ســـنـــواٍت، بــل عـقـودًا، من الضيق، املالي وغيره، حني كان الشعور الــجــمــعــي مـــــوحـــــدًا، ال تـــضـــعـــفـــه امـــتـــيـــازات ومـكـتـسـبـات يـتـمـتـع بــهــا بـعـضـهـم، مقابل حرمان أغلبية الناس.