العراق والحشد الشعبي... من يحُكم من؟
تـــحـــل فـــي مـنـتـصـف الــشــهــر املــقــبــل (يــونــيــو/ حـزيـران)، الـذكـرى التاسعة إلطــاق املرجعية الــديــنــيــة فـــي الــنــجــف فـــتـــوى مـــا عــــرف الحـقـا بــالــجــهــاد الــكــفــائــي، والـــتـــي دعــــا فـيـهـا ممثل املـــرجـــع الــشــيــعــي، عــلــي الــســيــســتــانــي، أبــنــاء الــشــعــب الـــعـــراقـــي إلــــى االنــــخــــراط فـــي الــقــوات املـسـلـحـة، مــن أجـــل الــتــصــدي لتنظيم الــدولــة اإلسامية (داعــش) الـذي سيطر حينها على ثاث محافظات في غرب العراق وشمال غربه وهدد العاصمة بغداد. وكانت قد سبقت هذه الــدعــوة بـثـاثـة أشـهـر دعـــوة لـرئـيـس الــــوزراء آنذاك، نوري املالكي، إلى تشكيل جيش رديف للجيش النظامي العراقي، وذلــك للدفاع عن العراق من األخطار التي تحيق به. وقبل فتوى املرجع الشيعي علي السيستاني بثاثة أيام، كان املالكي، ومن خال اللجنة الوزارية التي شكلها إلدارة أزمــــة مــواجــهــة تنظيم الــدولــة اإلســـامـــيـــة، قـــد أعــلــن عـــن تـشـكـيـل أفـــــواج من املتطوعني تحت اسم «الحشد الشعبي» لدعم األجهزة األمنية، كما أعلنت تلك اللجنة آنذاك عـــن تـشـكـيـل مــديــريــة الــحــشــد الــشــعــبــي الـتـي تحولت الحقا إلى هيئة مستقلة. يــتــبــني مـــن هــــذا الــســيــاق الــزمــنــي أن الـحـشـد الشعبي لم يتشكل بفعل دعـوة السيستاني، فقد كانت موجهة إلى انخراط املتطوعني في صـفـوف الـجـيـش واألجـــهـــزة األمـنـيـة ملواجهة «داعـــش»، بينما يعد نــوري املالكي املؤسس الـفـعـلـي لـلـحـشـد الــشــعــبــي، وهـــو مـــن اسـتـغـل فتوى السيستاني لترويجها على أنها فتوى تـشـكـيـل الــحــشــد الــشــعــبــي، األمــــر الــــذي جعل قــــادة «الــحــشــد» الـــيـــوم يـطـالـبـون بـفـتـوى من السيستاني لحله، كونه من أفتى بتشكيله، وذلــك فـي ردهـــم على املعترضني على وجـود قوة مسلحة ًغير الجيش والشرطة. واســـتـــكـــمـــاال لـــلـــعـــرض الـــزمـــنـــي لـــتـــطـــور قـــوة الـــحـــشـــد الـــشـــعـــبـــي، فــــــإن نـــوفـــمـــبـــر/ تــشــريــن الـــثـــانـــي عـــــام 2016 شـــهـــد مـــصـــادقـــة مـجـلـس الـــنـــواب الــعــراقــي عـلـى قـــانـــون رقـــم 04، أو ما عــرف بـقـانـون هيئة الحشد الشعبي، والــذي أضــفــى عـلـى تـلـك املـلـيـشـيـات صـفـة قـانـونـيـة، بــاعــتــبــارهــا قــــوة رســمــيــة مــســانــدة لـلـجـيـش، مـن دون أن تنخرط بــه، حيث ضمن لها هذا القانون االحتفاظ بهويتها وخصوصيتها، لتتحول تلك الفصائل املليشياوية املنضوية تحت هيئة الحشد الشعبي إلى كيان عسكري منفصل عن الجيش والقوات األمنية، وتتبع القائد العام للقوات املسلحة في العراق، وهو رئـــيـــس الــــــــــوزراء. وفـــقـــا لــتــصــريــحــات رئـيـس هـيـئـة الــحــشــد الــشــعــبــي، فــالــح الـــفـــيـــاض، في لقاء متلفز إبـريـل/ نيسان املـاضـي، فــإن عدد مقاتلي الحشد الشعبي تـجـاوز مائتي ألف مقاتل، معترفا فـي اللقاء نفسه بـــأن الفساد مستشر في كل مفاصل الدولة العراقية، بما فيها الحشد الشعبي، حيث تفيد معلومات مــن داخـــل هيئة الـحـشـد الشعبي بـــأن نصف هذا الرقم ربما يكون أعدادًا ملقاتلني فضائيني
يــــجــــري اســــتــــام رواتــــبــــهــــم ومــخــصــصــاتــهــم املـالـيـة وحــتــى الـتـجـهـيـزات األخــــرى مــن قــادة «الحشد»، ناهيك عن استخدام كثيرين منهم في أعمال تجارة تابعة لقادة «الحشد». اليوم وفـــي غــيــاب الـتـهـديـد الـــذي اسـتـدعـى تشكيل قــوة الحشد الشعبي، وهــو تنظيم «داعـــش»، تطرح تساؤالت عديدة عن األسباب املوجبة لـبـقـاء الـحـشـد الـشـعـبـي، خـصـوصـا أن أعـــداد وعـــــــدد الـــــقـــــوات الـــعـــراقـــيـــة املـــخـــتـــلـــفـــة، جـيـش وشرطة وجهاز مكافحة اإلرهاب وغيرها من العناوين العسكرية، بــات كبيرًا حتى وصل عـدد الجيش العراقي فقط إلـى أكثر مـن 330 ألف مقاتل. وتــنــتــمــي غــالــبــيــة فــصــائــل الــحــشــد الـشـعـبـي فـــي الـــعـــراق إلــــى قــــوى سـيـاسـيـة ومـلـيـشـيـات مـسـلـحـة كــانــت مـــوجـــودة عــلــى أرض الــواقــع حــتــى قــبــل وجـــــود «داعـــــــش»، هــــذه الـفـصـائـل املسلحة أو الواجهات السياسية لها، دخلت الـــعـــمـــلـــيـــة الـــســـيـــاســـيـــة مـــــن أوســـــــع أبــــوابــــهــــا، وصــــــــارت تـــتـــحـــكـــم بــكــثــيــر مــــن مـــفـــاصـــل تـلـك العملية، حتى إنها نجحت في إبطال نتائج انتخابات أكتوبر 2021 والتي فاز بها التيار الصدري باملركز األول، بينما خسر التحالف املـشـكـل مــن تلك الــقــوى املسلحة والـواجـهـات الــســيــاســيــة املــمــثــلــة لـــهـــا، ولــــم يــتــمــكــن حتى مــن تــجــاوز الـتـحـالـف الـــكـــردي أو الــســنــي في االنـتـخـابـات املـشـار إليها أعـــاه. نجحت تلك الـفـصـائـل وواجـهـاتـهـا السياسية فــي إجـبـار مقتدى الــصــدر على االنـسـحـاب مــن العملية الـسـيـاسـيـة واالنــتــخــابــات الــتــي جـــرت آنــــذاك، لـتـحـتـل هـــذه الــفــصــائــل ونــوابــهــا كـــل املـقـاعـد التي انسحب منها التيار الـصـدري وعددها 73 مـقـعـدًا، وتـحـتـل املـركـز األول فـي النتائج، وتــشــكــل الــحــكــومــة الــحــالــيــة بــرئــاســة محمد شياع السوداني. يحكم الحشد الشعبي اليوم الـــعـــراق فـعـلـيـا، لــيــس بــقــوة ســاحــه فحسب، وإنــــمــــا بـــــوجـــــوده الـــســـيـــاســـي ونــــجــــاحــــه فـي تشكيل الحكومة الحالية، وبالتالي، أي دعوة إلـــى حـــل الـحـشـد الـشـعـبـي تــقــابــل بالتخوين
من قادة الفصائل الحشدية وساساته، حتى وصـل بهم الحال إلـى محاولة اقتحام مكتب النائب املستقل سجاد سالم في الكوت جنوب العراق، بعد دعوته العلنية إلى ضــرورة حل الحشد الشعبي، متهما تلك الفصائل بأنها تـــعـــوق الـــتـــطـــور الـــســـلـــمـــي، وتــــعــــوق الـتـنـمـيـة وتعوق التداول السلمي للسلطة. وقبل ذلـك، هاجمت قـوة تابعة لكتائب حزب الله الـعـراق، قـوة أمنية عراقية كانت تحاول االســتــيــاء مـنـهـا عـلـى أراض زراعـــيـــة جنوب العاصمة بغداد، ما أدى إلى إصابة أفراد من القوة. وكل هذه الحوادث املذكورة آنفا حديثة، فــي حــني أن سـجـل سـيـطـرة الـحـشـد الشعبي على مختلف فصائل الـدولـة العراقية ممتد، وال يتسع املــجــال لــذكــره هـنـا. يمكن اإلشـــارة إلـى أن «الحشد» بـات فعليا الحاكم الرسمي لـــلـــعـــراق، فـــالـــقـــوات األمـــنـــيـــة ال يــمــكــن لــهــا أن تقف بوجهه، ليس فقط العتبارات عسكرية، وإنما العتبارات سياسية، كونه مدعوما من الـفـصـائـل الـسـيـاسـيـة الــتــي شـكـلـت الحكومة الحالية. في املجمل، ال يمكن للعراق أن يتغير من داخل بنية عمليته السياسية الحالية، من دون أن يحل الحشد الشعبي ويجرد الفصائل السياسية مــن أدواتــهــا العسكرية، فالحشد الشعبي اليوم فضا عن قوامه العسكري، هو قـــوام سياسي وكـيـان اقـتـصـادي قـائـم بـذاتـه، بمعنى أنــــه تــحــول إلـــى دولــــة داخــــل دولــــة لم تتشكل منذ الغزو األميركي للعراق عام .2003
ال يمكن للعراق أن يتغير من داخل بنية عمليته السياسية، من دون أن يحل الحشد الشعبي ويجرد الفصائل السياسية من أدواتها العسكرية